نوستالجيا: البحث في تازة عن زمن صبي…!!
بقلم: إدريس الواغيش
كان لابد لي أن أبعثر كل الأوراق دفعة واحدة والرجوع إلى ثالث البدايات، أنطلق إلى زيارة مدينة المُراهقة على خطى باشلار من دون سابق إشعار، تازة عشت فيها مع غيري أحلام المراهقة. ومن غير ترتيب مسبق، وجدتني طفلا حالما يُسارع الخطوات إلى الهروب من فوضى المدينة بفاس وزمنها الموحش مؤقتا على الأقل، أطارد ما استعصى عليّ من ذكريات الزمن الجميل، أسائل الأزمنة والأمكنة، إن كانت لا تزال تتذكر ملامح وجهي، وقد ابيض فوقه شعر رأسي وشاربي؟ أم أنها تناست اسمي لمّا – كثُرت في غرامها الأسماء؟
حين حللت بالمدينة منتصف النهار بقليل، وجدت رياح الشرقي القوية تعيث فوضى في شوارع المدينة، وحرارة لا تغري بالتجوال في شوارعها، ومع ذلك أصررت على إكمال الرحلة. بدأت جولتي بالوقوف لحظة أتأمل مدخل أمام ثانوية «علي بن بري» التأهيلية، أستحضر أرقاما وأعلاما ونوستالجيا، أستقرئ السميوطيقا، وأعمل ما استطعت على استنطاق بعض الدلالات والرموز، كان بعضها ثابت على حاله كما تركته قبل أكثر من ثلاثين عاما، وأخرى استبدلها منطق الوقت وعقلية مافيا العقار، كما تستبدل الشقراوات لون شعرهن وأنوفهن في دبي وعواصم التجميل في العالم. كنت أحاول ان ألغي الحدود الفاصلة بين الذات والنفس والأزمنة في لحظة ضعف أمام صبيب الذكريات الذي يمر سريعا بخاطري، وجدت بعض الأمكنة قد استُبدل فيها الأخضر ببياض غامق، مساحات غابات الأوكالبتوس وأشجار الزيتون غابت عن مشهد المدينة، ونبتت بدلها غابات من الإسمنت المسلح، كنت أحاول التخلص من حتمية زمانية ومكانية في لحظة معينة، والتعامل مع الزمان كمحتوى تذكاري ابتهاجي في حاضر واقعية لا يدعو إلى ذلك، هل كنت متناقضا وأنا أتساءل في صمت وحيرة عن الرّفاق والرّفيقات الذين- اللواتي عبروا معي هذه البوابة الخشبية القديمة؟ تذكرت مقولة محمود درويش: «إن أعادوا لك المقاهي القديمة، من يُعيد لك الرّفاق؟ «
في هذه المؤسسة العريقة، وهو ما كان يهمني في الدرجة الأولى من زيارتي للمدينة، بدأ الجيل الأول ملامسة دراسة الآداب الحقيقية وفروعها، ولذلك لم تفارق صورتها ذهني بالرغم كل الأحداث الفارقة التي عرفتها في حياتي، وفراقي عنها الذي دام لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، ولأجل ذلك ظلت ذاكرتي تحتفظ بأسرارها وعدد زواياها ومخارجها ومداخلها، كما يعرفها من يرتادها اليوم من تلاميذها الجُدد، ولأن تاريخها أيضا حافل بالعطاء، تخرج منها قضاة ومحامون، مدرسون ومبدعون، فنانون في الموسيقى والتشكيل والسينما والمسرح، حماة حدود الوطن في الشدائد من جنود وضباط كبار وضباط صف، ورجال برعوا في فن السياسة، وبصموا المشهد السياسي المغربي على مدار سنوات عديدة، قبل أن يغادروا المشهد مكرهين أو طواعية ويتركون بصمتهم الخاصة، ولكن قبل ذلك قالوا بصريح العبارة كلمتهم: «من هناك مررنا، وفي ثانوية علي بن برّي درسنا..»، يكفي أن نستحضر منهم الوزير والسياسي محمد الكحص، الوزير والسياسي التهامي الخياري، الصحافي عبد الكريم لمراني وآخرين. أنا أيضا، كنت قد مررت من هنا مثلهم، وحدث صدفة أن كنت شبيها لهم، وواحدا منهم نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وإن لم تطأ أقدامي إحدى الوزارات، كما فعل الآخرون.
ثانوية «علي بن برّي» لها بصمة خاصة لن تنمح في مساري المهني والإبداعي، فيها تعرّفت على رفاق ورفيقات الأمس، وعرفت معنى أن أكون مناضلا يساريا ومتمردا مع عبد الكريم، تعلمت كيف أنقش جملة شعرية مع الأستاذ المبطول والغياط خارج قواعده وإيقاعاته الكلاسيكية، وفيها أحببنا بصدق، ومدحنا القدود التازية والعيون الزٌّرق والسود، كما عانينا فيها من عواء الجيب وهجران الحبيب والحرمان والوحدة، هجونا الدروب والأزقة وكثيرا من الصباحات الرديئة والمساءات المملة. وحدث أن مررت اليوم، وأنا أزور المدينة بعد غياب طويل، ببعض البلكونات المهجورة في أحياء المدينة: حي وريدة، بين الجرادي، بيت غلام، باب زيتونة، قبة السوق في المدينة القديمة وغيرها من الحارات، كان مروري عابرا وسريعا، لكنه ترك في النفس أثرا عميقا.
زيارتي إلى تازة لم تكن للتباهي أمام حيطان صماء، كنت أمشيها بالمحاذاة معها راجلا ذليلا أو ولهانا أنتشي باللقاء، أتذكر كم كنت أكرر ذات المشية في الصباح، كما كنت أفعل نفس الشيء في ذات المساء. ولأنني ولدت في قرية تسمى «أيلة» كانت تعج إلى عهد قريب بالطيور والسواقي والأنهار والأشجار، لم يكن بالإمكان المكوث في تازة بسافلها «تازة السفلى»، ولا بعاليها «تازة العليا» أكثر ممّا مكثت في جو ساخن لا يرحب بالزائرين ولا يغري بالبقاء، ولذلك غادرتها على عجل إلى أعاليها نحو مرتفعات «تازكّا». كانت الطريق قطعة من جهنم بالرغم من إصلاحه وتعبيده، ولكن المنعرجات المتعاقبة لا تترك للعابر أن يلتقط الأنفاس، ولكن ما كان يخفف من عبء الطريق، رؤية طبيعة خلابة تشد العين إليها وتسحرها، وكلما زاد ارتفاعك زاد الجمال فيها.
تازة مدينة صغيرة لا تختلف عن نظيراتها من «المدن السفلى»، ولكنها جميلة وكذلك «ولاّفة»، لها من الإمكانيات السياحية ما يخوّل لها أن تعلو درجات فوق السحاب، لأن المدينة وضواحيها تعج بمكامن جمال خفي وثروة استثنائية، جريان مياه عذبة ودائمة في منتجع «راس المَا»، اخضرار مُزمن في أعالي المنتزهات المنتشرة على الطريق في اتجاه مرتفع «تازكّا»، منتجعات كثيرة منتشرة على الطريق نحو قرية «باب بودير»، يأويها شباب وشابات من جنسيات مختلفة، فيها هدوء وسكون قل نظيره، وطراوة هواء لن تجده إلا في أعالي جبال الأطلس المتوسط بشرقيه وغربيه، وهو بالإضافة لكل ذلك، غني بثروة نباتية وحيوانية فاتنة: قردة، أيائل، غطاء نباتي متنوع وطيور نادرة، نقاء هواء لا يمكن استنشاقه إلا في «باب بودير» وضواحيها، وما علينا من جانبنا كمغاربة إلا أن نبحث عن هذا الجمال ونكتشفه، لأننا فعلا فقراء إلى شيء اسمه السياحة الجبلية.
ولأن الحصول على الشيء الجميل شيء متعب، تبقى المنعرجات هناك تبدأ كي لا تنتهي، تتطلب من السائق صبرا وفطنة، ونباهة وحذرا شديدين في السياقة، ومن تازة كان العبور إلى واد أمليل، ثم إلى رباط الخير(هرمومو) ومناطق كنت أكتشفها لأول مرة: أهل بودريس، بوشفاعة، الزراردة، سد باب لوطا، الصميعة وغيرها من الأماكن. امتداد مدار سياحي جبلي طبيعي إيكولوجي رائع، شاسع ومتشعب، يبدأ من أعالي تازة وضواحيها صعودا ونزولا بين أشجار الغابات الأقرب في اخضرارها إلى الغطاء النباتي للمناخ الاستوائي، «غابات استوائية» تجدها وأنت عابر في طريقك بمنتزهات عديدة بالرغم من أن المنطقة تنتمي جغرافيا إلى المناخ المتوسطي. كل واحدة من هذه المناطق لها طابعها الخاص، زرقة غامقة في مياه سد «باب سهل لوطا» تنعكس عليها ظلال لون الأشجار الموغلة في الاخضرار، تتنوع الطبيعة في تاهلة، كلما اتجهت شرقا في اتجاه رباط الخير، تتغير ملامح الجغرافية والغطاء النباتي وأنت تتوغل أكثر شرقا أو جنوبا نحو «عين سبو» ضواحي المنزل، حيث يخرج نهر سبو من منبعه أو يغور تحت الأرض مثل أفعى خرافية في ظاهرة غريبة حيرت العلماء. تنبسط في الطريق أمامك غابات أشجار التفاح في رباط الخير(هرمومو)، تتراءى لك قمم جبل بويبلان بيضاء ناصعة للناظرين، وهي قريبة منك كالسراب على مرمى عجر من العينà vol d’oiseau)) رغم بعدها عنك، وينتهي بك المطاف أخيرا، وقد احمرت عينا الشمس، بين أحضان البرودة أمام الشلالات القادمة من غرب الأطلس المتوسط. لن تجديك نفعا تكنولوجيا هاتفك المحمول في هكذا رحلة، بين جيئة صبيب الأنترنيت وانقطاعه، تضيع بوصلة الاتجاهات من تحت قدميك، وتصبح عاجزا أمام فوضى «نظام» التموضع العالمي، وأنت أمام مراقبة صارمة لأقمار الـ GPS، لن ينفعك حينها سوى مقود سيارتك وتعاون الناس الطيبين معك، تشعر معهم وأنت تسألهم عن وجهتك بالأمن والأمان، وأنت سائح ضائع ضعيف. يا الله، كم هم طيبون ومسالمون، وأنت تسألهم عن وجهتك المطلوبة في ضعف واضح، وقد ضاعت كل الاتجاهات من بوصلتك بين التواءات ونتوءات جبلية تصعد بك حينا وتهوى بك في أخرى. وبين هذا وذاك، تكون وأنت على مشارف أضواء مصابيح شوارع فاس، تكون قد قطعت ما يناهز الـ 500 كلم بين ذهاب وإياب وصعود وهبوط، وقضيت ما يناهز السبع ساعات ونيف من السياقة من دون توقف…!!