عنق الزجاجة
ذ. محمود بودور
في هذه الأيام، نزع فتيل التوتر أصبح واجبا لا مناص منه على حكماء هذه الأمة وعقلائها.
في كل نزاع بين طرفين مستميتين على مواقفهما، تبرز مبادرات دؤوبة لحلحلة ما يمكن حلحلته وجمع الشمل ولملمة الجراح.
ما تشهده الساحة التعليمية هذه الأيام بين وزارة التربية الوطنية بل والحكومة وبين هيئة التعليم من شد الحبل وتكسير العظام لم نشهده منذ زمن بعيد.
لن أخوض في الأسباب لأنها واضحة للعيان وأصبح الصغير والكبير، الداني والقاصي يتكلم فيها والجميع متفق على ضرورة تحسين أوضاع نساء ورجال التعليم المادية والمعنوية لأنهم جربوا الجهل ورأوا بأم أعينهم مآل أبنائهم لما أغلقت المدارس أبوابها. فمن لم يعرف قيمة العلم واستهزأ بأهله فليجرب الجهل وما ينتجه في المجتمع من المآسي والخراب.
لنتذكر دويلة مثل سنغافورة التي لم تكن تملك من الثروات سوى أبناءها. لكن القيادة الحكيمة استغلت التعليم لتنشئ الأدمغة التي وصلت بهذا البلد إلى مصاف الدول المتقدمة في وقت وجيز. ولننظر الى دول مثل اثيوبيا ورواندا وغيرهما كيف تشقان الطريق الى التقدم والازدهار لشعبيهما بفضل السياسة التعليمية الحكيمة بعد أن كان الناس يسخرون من التخلف الذي كانتا ترضخان في غياباته.
ولننظر كيف يعيش رجل التعليم في دول الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا لنعرف أننا بعيدون عن مصاف الدول الراقية.
الاحتقان يزداد يوما بعد يوم والأمور تسوء والدورة الأولى في مهب الريح. وفوق ذلك أبناء الأغنياء يواصلون دراستهم بشكل عادي في المدارس الخاصة والهجرة الى القطاع الخصوصي تزداد يوما بعد يوم والامتعاض في المجتمع يكاد بخنق الانفاس. والفعل وردة الفعل بين الطرفين والهوة في اتساع. وكل بما لديهم فرحون وبما عندهم من سلاح مهددون.
ومن الضحية؟ الكل يعترف أنه التلميذ.
أين أنتم يا عقلاء هذه الأمة؟
النقابات سحب البساط من تحتها. والأحزاب لم تكن يوما موضع ثقة. وجمعيات الآباء اصطفت إلى جانب الأساتذة.
فمن يا تراه يمكنه تهدئة الأجواء؟
الكل يعرف أن عملية التعليم والتعلم تكون بالتدرج وأنها عملية بنائية منذ اليوم الأول من انطلاق الموسم الدراسي. ولا يمكننا إرجاء ذلك إلى أن تتراكم الدروس ثم ينهال المدرسون بكل ما تراكم لديهم على متعلميهم مرة واحدة. الدروس التي لا تنجز في وقتها يصعب استدراكها بالشكل الذي ينبغي أن تنجز عليه. ويمكننا أن نعطي مثالا على ذلك بالقارورة إذا أردنا ملأها. فلا يمكننا ذلك إلا إذا وضعناها تحت صنبور الماء بشكل هادئ وبكمية قليلة ومتحكم فيها. فإذا أطلقنا الصنبور على شدته، فلا يمكننا ملؤها إلا بعد جهد جهيد.
ولننعطف على نقطة أخرى وهي أهم ركيزة في العملية التقييمية ومبدأ محوري من مبادئ إصلاح منظومتنا التربوية، ألا وهي تكافؤ الفرص بين جميع المتعلمين.
لطالما رفع هذا الشعار عاليا في جميع المبادرات الإصلاحية. فهل بقي لهذا المبدأ أي شرعية ومصداقية في ظل هذه الأوضاع الخانقة المتردية. أقول واثقا أن هذا المبدأ لم يكن قائما بالأصل من قبل ، فكيف به في هذه الأيام.
في أيام دراستنا لم نكن نعرف ما هي المدرسة الخصوصية وما هي دروس الدعم. كنا نسمع عن المطالعة لدى التلاميذ الداخليين الذين كانوا متميزين في مستواهم. وكان بعض التلاميذ الخارجيين يدخلون خلسة إلى القسم الداخلي ليستفيدوا من حصص المطالعة وليذاكروا إلى جانب إخوانهم الداخليين.
انظروا إلى ما آلت إليه الأوضاع اليوم
هناك هجرة غير مسبوقة من العمومي إلى الخصوصي لدرجة أنه لم يتبقى مكان شاغر في كثير من المدارس الخصوصية خاصة في المستويات الإشهادية. والدراسة مستمرة بشكل عادي جدا. الفروض أنجزت والدروس تراكمت والهوة ازدادت اتساعا. فهل بقي لتكافؤ الفرص من فرصة للاستدراك؟
في كثير من المدارس الخصوصية يتم الاستغناء عن المواد الثانوية من أجل دعم المواد الأساسية خاصة في الدورة الثانية وتمنح للتلاميذ نقط مغرية على مرأى ومسمع الكل. فهل تبقى لتكافؤ الفرص من معنى؟
فهل من حكماء ليهدؤوا الأجواء؟ وهل من عقلاء ليلجموا أولائك الذين يصبون الزيت على النار. فنحن في أمس الحاجة لمن يطفئ نار الغضب ويخرج أبناءنا من عنق الزجاجة لا إلى أولئك الذين يزيدون الناس استفزازا بخرجاتهم الغير محسوبة العواقب . فهذه الأمة خرجت من أزمات أكبر من هذه بكثير. فكيف لها أن تبقى عاجزة أمام احتقانات يمكن تجاوزها بحنكة وتبصر أولي الألباب وما أكثرهم في وطننا العزيز.
يكفي أن تكون الإرادة من الطرفين للجلوس إلى طاولة الحوار بوساطة العقلاء والحكماء ليجمعوا على كلمة سواء مع شيء من التنازلات من كلا الطرفين.
نساء ورجال التعليم هم مخ المجتمعات ورحى التغيير الذي يعول عليها من أجل غد أفضل. يكفيك أن تنظر إلى حجم المظاهرات التي خرجت من أجل رد الاعتبار لهذه الفئة. يكفيكم أيها المسؤولون أن تنظروا إلى مستوى الحوارات والنقاشات والردود التي ترد على كل من تسول له نفسه أن يهين هذه الفئة التي ورثت العلم على الأنبياء والرسل. يكفيكم إلى مستوى الإبداع في الشعارات والمنشورات على وسائل التواصل لتعلموا أنكم تتعاملون مع الفئة الحية والمثقفة من المجتمع. انظروا إلى مستوى الانضباط والالتزام بأدبيات التظاهر السلمي والحضاري ومستوى التنظيم والشعارات التي تدل على المواطنة الصادقة وحب الوطن واحترام ثوابت الأمة.
عندما تصطف هيئات مدنية وحقوقية إلى جانب هيئة التعليم فاعلم أن الأمر جلل. فقد قررت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الانسان رفع دعوى قضائية ضد الوزير بسبب حرمان آلاف التلاميذ من حقهم في التعليم – كما قالت حرفيا في بيانها -.
انتبهوا إلى من ينوب عنكم ليحاورهم. ينبغي أن يكون من الشخصيات الحكيمة في البلد والمشهود لها بالحكمة وحسن التبصر والاستقلالية عن التنظيمات والانتماءات.
آن الأوان أن نحكم العقل والمنطق وأن نبحث عن وسطاء لنضع حدا لهذه الأزمة في أقرب وقت ونخرج من عنق الزجاجة بحلول ملموسة لتدارك ما ضاع من الزمن المدرسي لنصل بأبنائنا إلى بر الأمان.