بيننا وبين الأشكال الفعالة للتضامن مع فلسطين
الحبيب عكي
بالطبع، لا يكون العاقل ضد أي شكل من أشكال التضامن مع فلسطين وتبني قضيتها التحررية العادلة والانخراط في نصرتها بكل ما هو متاح ومباح، وفوق ذلك أهمية الاستمرار في ذلك بهمة عالية والدعوة إليه بحزم وطول نفس، وعلى رأس ذلك ما أصبح معتادا اليوم من الوقفات الاحتجاجية الشعبية والمسيرات التضامنية الوطنية والدولية، وغيرها من الفعاليات الاجتماعية والفنية والرياضية..، وكلها ترفع الآذان في واضحة النهار وتقرع الأجراس في عز الليل، على أن هناك شيئا ليس على ما يرام، هناك حرب عدوانية صهيونية على غزة المقاومة الأبية، وجرائم صهيو-أمريكية ضد الشعب الفلسطيني والضمير الإنساني العالمي، لابد لها أن تتوقف دون قيد ولا شرط؟. لا أحد يجادل في أهمية هذا، خاصة إذا استحضرنا مجرد التكاليف المرهقة للدعوة إليه والتعبئة له.. والترخيص.. والتنظيم.. في أوساط عربية بيروقراطية وأمنية إلى أبعد الحدود، أو حتى في أوساط غربية تعرت كل حريتها وديمقراطيتها وبانت عورتها حتى أصبح مجرد الدعوة إلى مثل هذه الأنشطة النضالية التضامنية الإنسانية تهمة يحاكم عليها المشاركون فيها أحيانا كما حدث ويحدث في بريطانيا وألمانيا وأمريكا..؟.
لكن وبالطبع أيضا، هناك العديد من المفارقات الغريبة العجيبة، إذ رغم أن الوقفات والمسيرات في تزايد لإيقاف الحرب.. وقد بلغ عددها أزيد من 4 ألاف وقفة ومسيرة في يوم التضامن مع فلسطين (29 نونبر) إلا أن الحرب لا تزال مستعرة؟. لإنقاذ الضحايا الأبرياء من الثكالى والأرامل والحد من موجات الأسر والتهجير.. إلا أن مواكب الشهداء تتوالى والضحايا كل يوم يتساقطون؟. لإيقاف الدمار وفك الحصار عن القطاع وإدخال المساعدات.. إلا أن الحصار لا زال محكما حتى في معابر الجوار غير معابر بني صهيون؟. لمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة واعوانهم وعملائهم.. إلا أنهم كلهم لا يزالون منتشين بوهم حريتهم المجنونة وغطرستهم المدمرة؟. بل المفارقة الأغرب أن أصبح المواطن العربي المسلم المسكين يعتقد أن مجرد حضوره مسيرة احتجاجية ورفعه ما تيسر من الشعارات الغاضبة وحرق علم العدوان الذي اشتراه وخاطه من ماله الخاص..، إذا فعل كل هذا ودعا بدعائه الخالص فقد أدى الذي عليه واعتذر للقضية وأربابها، وأغرب من هذا أن الكل أصبح يفعل ذلك ولا يتعداه إلى غير ذلك.. مواطنون عاديون مستضعفون.. قضاة ومحامون.. برلمانيون ومستشارون.. زعماء ونقابيون.. جمعويون مدنيون.. وربما حتى الرؤساء كالرئيس الكوبي والتشيلي اللذين خرجا في مسيرات شعبيهما مشكورين على كل حال؟.
وبالطبع، لا تستمر هذه المفارقات الغريبة، وتقلب أعمال العقلاء عبثا في عبث، نتساءل: هل كل مبلغنا من التضامن مجرد هذه الأشكال البسيطة القاصرة، على أهميتها وضرورتها؟. إلىى أي حد تتمكن هذه الأشكال من خلق رأي عام وطني ودولي حازم وحاسم لصالح القضية على غرار غيرها من القضايا العالمية والإنسانية كالبيئة والمناخ أو الحرية والمجاعة والهجرة.. والقضية حبلى بكل هذه القضايا؟. وهل العدو الصهيوني وحلفاؤه يكترثون بشيء غير حرية القوة والبلطجة التي يشهرونها في وجه كل رأي عام معارض.. ونشرات إعلام قاتمة.. وجلسات برلمان غاضبة..؟. وهذا لا يعني أن لا أحد ولا شيء يستطيع إيقافهم عند حدهم، بل العكس، هم أوهن من بيت العنكبوت، و”حماس” وحدها دوختهم ومرغت كبريائهم في وحل الذل والمهانة وعلى امتداد أزيد من شهرين متتالين، فما بالك لو كان بجانبها فدائيون آخرون حماس أو حماسين؟، ما بالك لو وجدت المقاومة الباسلة من يقاوم معها بالقول والفعل وعلى امتداد الحرب وفي مختلف جبهاتها؟. فالكيان الصهيوني (العدوان والاحتلال) والولايات المتحدة (الدعم والمساندة) والأمم المتحدة (الكيل بمكيالين) مثلث الشر في العالم، لن يغلبوا كل العالم لو كان جادا في نصرة المظلوم ومحاربة الظلم والحرص على عالم آمن وبدون استعمار.. وبشرائع سماوية واضحة وقوانين دولية عادلة يفرض احترامها على الجميع؟.
طبعا، لم نستنفذ كل أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني ولم نعبأ كثيرا بالفعال والناجع منها، لم نستثمر طاقاتنا ومدخراتنا في ذلك، ولنا أن نتساءل مثلا عن كل هذه الفعاليات التضامنية مع الشعب الفلسطيني المتعددة والمتنوعة.. مجالات.. ومنظمين.. وأهداف.. ما الذي يجمعها.. ويحكم بنائها.. ويراكم نفعها فعالية فعالية.. بدل هذا القم بفعاليتك وامشي؟. ما الذي سيقتحم المجالات الفعالة التي لازالت فارغة أو منقوصة الفعل النضالي وعلى رأس ذلك: الترافع الحقوقي على المستوى الدولي؟، .. إدخال القضية بشكل غير محتشم إلى أوساط القرار المجتمعي المحتدم، السياسي (أحزاب ونقابات) والعلمي (علماء وفقهاء وخطباء) والجامعي (أساتذة وباحثون وطلبة) وقطاع خاص (شركات ومقاولات ومؤسسات) نشطاء مدنيون جمعويون واجتماعيون (وجهاء وأعيان).. وغير ذلك من مؤسسات التنشئة الاجتماعية وبعضها لا زال يتحسس من القضية وما يمت بها من المواقف والأنشطة؟. متى وكيف سيجرأ القرار السياسي عندنا ليكون منسجما مع نفسه في تبني القضية الفلسطينية كقضية وطنية، مستجيبا في ذلك لمطالب الشعب في مسيراته التضامنية المليونية وقد نادت بإسقاط التطبيع بكل أشكاله، وإغلاق المكاتب وطرد ممثلي العدو الصهيوني، وحل جمعية الصداقة البرلمانية بين البلدين، وإيقاف هرولة بعض المدن والجماعات والفرق اتجاه التوأمة أو الحضور المتبادل في الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية والمعارض الفلاحية..؟.
وفي الأخير بالطبع، ما حظ انخراط الشعب في هذه المقاطعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعدو الصهيوني من جهة، ودعم الشعب الفلسطيني من جهة أخرى بمده بالمساعدات المستمرة، بتبني بعض ضحاياه من الأيتام والمحتاجين والانفاق عليهم كل شهر طول احتياجهم، على اعتبار أن المعركة معركتنا وضحاياها من ضحايانا، كم صندوق لجمع التبرعات في أسرنا لهذا الغرض؟، كم مقابلة رياضية و أمسية فنية أو ورشة مسرحية و مسابقة ثقافية لازلنا نحيي بها ذاكرة الأجيال في مدارسنا وجمعياتنا ومخيماتنا حول القضية؟، لماذا أصبح البعض يتحسس من مثل هذه الأنشطة والابداعات الجادة والهادفة؟، أين انخراطنا القوي والدائم في مقاطعة المواد الاستهلاكية للعدو الصهيوني وداعميه وعملائه، وتربية أبنائنا وأسرنا على ذلك ولدينا من منتوجاتنا المحلية ومشروباتنا الطبيعية ما هو ألذ وأطيب ويغنينا عن ذلك. أين تنظيمنا كذلك للجهود الميسرة في إعادة الإعمار وإغاثة اللهفان، وهو الأمر الذي يقدم عليه بعض المناضلين والمحظوظين ولكن باحتشام وطرقهم الخاصة، لماذا لا يتيسر هذا الأمر للجميع وكثيرون من يستطيعونه ويرغبون المساهمة فيه، أما ينبغي على الهيئات الحزبية المناضلة والجمعيات الاجتماعية أن تلعب دورها في هذا الصدد، في تيسيره وتأطيره حتى تكون الأمور واضحة وقانونية يأتيها المساهم راغبا غير راهب؟.
أخيرا وبدون طبع، كم كنا نرى اعتداء المقدم أو القائد على مواطن أو مواطنة في سكناها بمحاولة هدمه بالقوة، فإذا بالمعتدى عليه أو عليها تستعر وتولول وتخرج كل أهل الدوار ليتضامنوا معها، وإذا بكل أفراد الأسرة يرافعون ويشرحون القضية والاعتداء من جهتهم كل منهم في زاويته، وبسرعة يستدعون كل مصطلحات العنف والاعتداء والتعسف والشطط في استعمال السلطة.. وإذا بالمباشر يتلعلع على الفايسبوك وينغص راحتهم المخملية على سكان الأنستغرام.. وإذا بالأب الصحيح الفصيح يتهاوى على الأرض ويغمى عليه.. فلا توقظه بصلة ولا ثوم ولا مفاتيح.. ولا ينقده إسعاف ولا مستعجلات إن وجدت.. وإذا بالأم المكلومة على كبرها وعجزها تتسلق عمود الكهرباء أسرع من الشباب، وتعتصم به صارخة بأعلى صوتها “أنا بالله وبالشرع” .. مستنجدة بجلالة الملك منادية عليه ورافعة صورته والعلم الوطني.. وإذا بالأبناء والبنات يهددون بحرق بطائقهم الوطنية وكل ما كانوا يظنونه يربطهم بالوطن لقطع كل صلتهم به..؟، هذا على إمكانية وجود خطإ من طرفهم.. في كونهم لا يتوفرون على رخصة مثلا، أو خالفوا قانون البناء بزيادة أو نقصان.. أو غير ذلك، ولا مجال للمقارنة؟. وكل هذه “الحيحة” من أجل رفض الظلم والتعسف واسترداد الحق المزعوم، ولكن إذا ما تعلق الأمر بفلسطين اكتفينا بمجرد تظاهرة؟. وأية تظاهرة مهما كانت إذا لم تساهم في رد الحق لصاحبه أو تحرك القرار لصالحه الذي هو صالحك، فقد تكون مجرد لعبة بين حرية الصمود والصامدين و حرية السكوت والساكتين، فكم يا رب ستكرر بيننا هذه اللعبة الملهاة المأساة، وكلنا أمل كما يقول “ع.برشيد” على تحرير هناك من هنا وتحرير هنا من هناك؟.