إخوة أعداء..!
المختار أعويدي
لقد هالني ما رأيت اليوم، وأنا أتفرج على مباراة المنتخب الجزائري ضد نظيره البوركينابي بأحد مقاهي مدينة وجدة. كان المقهى غاصا بالمتفرجين من مرتاديه، الذين كانوا يتوزعون على عدة أجنحة. أربعة منها في الطابق السفلي والرصيف الخارجي، والخامس بالطابق العلوي. وكل جناح يوجد به جهاز تلفاز من الحجم الكبير جدا. هالني ما رأيت من اصطفاف جميع هذه الحشود من دون استثناء في صف واحد، مناصر للمنتخب البوركينابي بحماس كبير، لا بل وبعصبية وتوتر زائد. ومناهض للمنتخب الجزائري.
فكلما كان المنتخب البوركنابي يسجل هدف تقدم، كان المقهى يهتز عن آخره على وقع صراخ المتفرجين، الذين يعبرون من جهة، عن فرحهم وابتهاجهم بحماس منقطع النظير. ومن جهة أخرى، عن نكايتهم وتشفيهم وشماتتهم البالغة. وكانت ترافق صخب تشجيعاتهم هذه، عبارات سباب بذيئة في حق المنتخب الجزائري، وتمني الخسارة له ومغادرته المنافسات. ولم يرتدع كثيرون على التعبير بصوت عال على مقتهم وكرههم للجزائريين، حتى من دون أن يطلب منهم أحد رأيا في هذا الباب.
وفي المقابل، كلما سجل هذا الأخير، أي المنتخب الجزائري هدف تعادل، كان ذلك ينزل على نفس هؤلاء المتفرجين كقطعة ثلج باردة لا تحتمل. فلا يتورعون عن التعبير عن ذلك بسخطهم وغضبهم وامتعاضهم الكبير، ملتمسين ومتوسلين سببا ما لإلغاء الهدف.
لم تكن في الحقيقة تشجيعات هؤلاء المتفرجين المتوترة والعصبية والمليئة بالشحن والتحامل، طبيعية وعادية ونابعة من حس رياضي وروح متسامحة. بل يبدو أنها كانت مبعث مشاعر انتقامية حاقدة، تقطر عداء وضغينة.
في ظل هذه الأجواء غير الرياضية بتاتا، الملبدة بالكراهية، والمشحونة بمشاعر عدائية، وأنا أتفرج على هذه المشاهد التي أفزعني وأحزنتني كثيرا، وأفسدت علي مزاجي، انتقلَت بي الذاكرة إلى حدث مشابه تماما في الشكل مختلف في المضمون، كنت قد عِشته قبل أربع سنوات بأحد مقاهي كورنيش مدينة السعيدية. وكانت المناسبة هي مباراة نهاية كأس إفريقيا، بين المنتخبين الجزائري والسنيغالي. ولكن شتان بين موقف مواطنينا يومذاك من منتخب الشقيقةالجزائر، وموقفهم اليوم. فمضمون ذلك الحدث كان مخالفا تماما لما كنت أتجرعه هذا المساء من غيض وألم وحزن كاتم للأنفاس، بسبب ما رأيت من عداء مستحكم لمواطنينا تجاه أشقائنا الجزائريين. فقد كانت الأجواء وقتها غير الأجواء اليوم، رغم أن جمهور المتفرجين كان هو نفسه الجمهور المغربي. فقد كانت الأجواء مخالفة، لا بل ومناقضة تماما لما عشته اليوم من حسرة وألم ووجع عميق.
كانت جميع مقاهي مدينة السعيدة وقتها، مكتظة عن آخرها برجال ونساء وأطفال وأسر مغربية عديدة، جاءت من كل حدب وصوب كي تناصر المنتخب الجزائري، وتشاطره أفراح الإنتصار والفوز بالكأس. وكان لسان حال الجميع يقول: !.Allez L’Algerie.. Allez les verts وكانت الأعلام الجزائرية تملأ المكان وتزينه إلى جانب الأعلام الوطنية. وتابع مواطنونا وقتها المباراة بحماس وتفاعل وتشجيع كبير للمنتخب الجزائري. وكم كانت نشوتهم غامرة بعد تسجيله لهدف السبق. فقد اهتزت الأرض من فرط الفرح العارم الذي عبروا عنه.
وبعد نهاية المباراة، ورفع المنتخب الجزائري لكأس البطولة، كم كان الإحتفال عارما صاخبا حاشدا. فقد اختنقت جميع شوارع مدينة السعيدية الرئيسية عن آخرها، وخاصة منها شوارع الكورنيش، بجموع وحشود هائلة من المواطنين، وطوابير لا نهاية لها من السيارات والعربات الخفيفة الحاملة للأعلام الجزائرية، والمرددة لأهازيج الإنتصار.
لا أحد كان لديه تفسير من أين وكيف خرجت وانبعثت كل تلك الجماهير والأفواج الغفيرة من المواطنين. وكيف تم تحريكها وتشجيعها وتحفيزها على القيام بما قامت به. وما تفسير هذا الفيض من مشاعر الأخوة والمحبة والمشاركة.
وكانت أكثر المناطق استقطابا لهذه الجموع الغفيرة، هي مناطق التماس الحدودية بين البلدين. وخاصة منها المنطقة الحدودية الواقعة عند مدخل مدينة السعيدية، بين جرفين يفصل بينهما فج حدودي، حيث يسهل التواصل بين مواطني البلدين على الجهتين، برغم أسلاك الحدود الخشنة. وقتها شهد المكان من جانبيه المغربي والجزائري، أفراحا واحتفالات عارمة صاخبة، استمرت إلى وقت متأخر من الليل. قاسم فيها وشارك مواطنونا أشقاءهم الجزائريين أفراح الفوز، بشكل اهتزت له مشاعر الأخوة والجوار والقرابة والدم المشترك.
ظللت أتساءل، والحيرة تتملكني، طيلة عمر مباراة الجزائر/بوركينافاصو، عن سر هذا التحول الرهيب الذي طرأ على موقف مواطنينا تجاه أشقائهم الجزائريين، وكيف تحول وانقلب فيض المحبة والأخوة وحسن الجوار الجارف قبل أربع سنوات، إلى مشاعر ضغينة وعداء وتحامل وتنافر اليوم.
لم يطل بي الوقت في الحقيقة كثيرا لإيجاد تفسير لهذه المفارقة. فقد أيقنت لحظتها وأدركت أن ذلك كان حصيلة نظام العسكر المتسلط في الشقيقة الجزائر، الذي نجح فعلا في تحقيق مبتغاه، الذي طالما كان يصبو إليه، والمتمثل في شطر الشعبين الشقيقين إلى نصفين متنافرين متصارعين. من خلال معاداته لوحدة بلادنا وتأليبه للشعب الجزائري ضد شقيقه المغربي، استنادا إلى حربه الدعائية الإعلامية اليومية الحاقدة، ضد كل ما هو مغربي. وتصريف كم هائل من العداء والبغضاء من خلال الهجوم الشرس على كل قضايا وطننا. وذلك رغبة منه في التغطية عن مشاكله وأعطابه الداخلية، الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الخانقة، وصرف النظر عن سياساته المتسلطة في مجال قمع ومصادرة الحريات.
للأسف فقد كانت لهذه الحرب الإعلامية الدعائية لنظام العسكر، نتائج كارثية على تشكيل رأي عام جزائري داخلي مناهض ومعادي لكل ما هو مغربي. منخرط بشكل كبير في الدعاية المسعورة ضد وطننا. ويمثل الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي اليوم، حلبة لتصريف هذا العداء وتعميق الصراع بين الإخوة الأعداء. وهو صراع استعملت فيه كل أشكال ووسائل التحريض والتبخيس والعدوان. وتأجيج مشاعر الكراهية والتنافر والمواجهة بين أبناء الشعبين الشقيقين، إلى مستويات كبيرة مؤسفة للغاية. وإن جولة سريعة على مواقع وحسابات كثير من “ذباب” العسكر الإلكتروني، ومن ضمنهم حتى بعض من كنا نحسبهم عقلاء، تكشف بما لا يدع مجالا للشك، على مستوى كبير من التجييش والتحريض والدعاية ضد وطننا. ولعمري أن هذا الكم الهائل من جرعات الضغينة والكراهية التي يتم تصريفها بشكل مسترسل لا يتوقف أبدا ضد وطننا، هي مفتاح تفسير هذا الإنقلاب الذي طرأ على موقف مواطنينا من منتخب الجزائر الشقيقة. وكان له وقع سلبي على رأيهم ومواقفهم وقناعاتهم تجاه أشقائنا في الجزائر… ولا عجب أن يُترجموا ذلك بهذا الجفاء والتحامل، الذين عبروا عنه بمناسبة مباراة منتخب الجزائر/بوركينافاصو. ويفجروه في شكل رد فعلهم العنيف ضد هذا المنتخب. من جهة في شكل اصطفاف كبير لصالح منتخب بوركينافاصو، ومن جهة أخرى، في تصريف مشاعر معادية غير معتادة ضدالشعب الجزائري.
يبدو أن النجاح الكاسح الذي حققه نظام عسكر تبو/قريحة في تأليب الشعب الجزائري ضد شقيقه المغربي، وفي تحريضه على قطع كل أواصر الأخوة التي ظلت تجمعهما، حتى في ظل أعتى الأزمات التي مرت بالبلدين في السابق. يمثل شرخا وتصدعا عميقا بين الشعبين الشقيقين، يصعب إصلاحه وترميمه في المستقبل القريب. لا بل إنه يزداد كل يوم عمقا وتفاقما، مع تزايد حدة حرب المواجهة الإعلامية والدعائية والسياسية والدبلوماسية تناحرا وتأجيجا، في كل الواجهات والمنابر والمناسبات. وتزداد مع كل ذلك فرص المصالحة وطي صفحات الخلاف بين الشقيقين بُعدا واستحالة.
لقد داست بروباغندا العسكر بحقد فاقع وعدوان كبير، على كل أواصر الجوار والأخوة في الدم والدين واللغة، وأضحت تنهش بأكاذيبها وأباطيلها كل ما يمت لبلادنا بصلة، من دون وازع أخلاقي أو رادع قانوني أو مراعاة لاعتبارات الجوار والأخوة في الدين والنسب واللغة والإنتماء. ودون اكتراث بأيادي المصالحة الممدودة إليها من وطننا.
غادرت المقهى بعد نهاية المباراة بين المنتخبين بالتعادل الإيجابي، وقد انتابني حزن عميق، واستبدت بنفسي خيبة أمل كبيرة، وتزاحمت في ذهني العديد من الأسئلة الموجعة، بشأن هذا المصير الذي آلت إليه الأمور بين الشعبين الشقيقين. وما ينذر به ذلك من مستقبل ملبد بالتشاؤم والقطيعة المتمكنة منهما.
لقد كان العداء دائما مستحكما بين الحكام في البلدين منذ استقلال الجزائر، وزاد ذلك حدة، منذ استرجاع المغرب لأراضيه الجنوبية (1975)، وانتصاب نظام العسكر من وقتها لمعاداة وحدة بلادنا الترابية. دون أن يفسد ذلك أواصر المودة والمحبة وحسن الجوار التي ظلت قائمة بين الشعبين الشقيقين، اللذين ظلا يكنان لبعضهما مشاعر إنسانية وطيدة، ووشائج تقارب وتواصل عميقة. طالما ظلا يعبران عنها في مناسبات عديدة، طول مدة الخلاف الطويلة، ومنها مناسبات كرة القدم. ومعها ظل الأمل والتفاؤل بمستقبل واعد قائما، يغازل أحلام وآمال الشعبين. برغم العداء المتمكن بين الحكام. ولكن أما وأن نظام العسكر قد نجح في زرع بذور الكراهية والعداء والضغينة التي وجدت طريقها إلى الشعبين، واستحكمت وتمكنت منهما. فهذا لعمري يمثل أمرا خطيرا، ويُنبئ بتطورات سوداوية، لا تخدم حاضر ومستقبل البلدين الشقيقين..