التلميذة البارة
محمد شحلال
جرت العادة أن يحتفظ التلاميذ بذكريات متباينة عن مدرسيهم عبر مشوارهم التعلمي،ولم نكن نشازا في هذا المجال،حيث مازالت صور كثير من مدرسينا عالقة بأذهاننا،إذ ترتبط أحيانا بأشخاص بصموا حياتنا عبر إبداعهم في نشر المعرفة والسيرة النموذجية،وأحيانا أخرى بمدرسين حصدوا كثيرا من الكراهية لأسباب متعددة.
وبما أن مسار المدرسين حافل بالأحداث التي تراكمت في رحاب المؤسسات التي مروا منها،فإنهم يحتفظون بدورهم بصور بعض المتعلمين الذين أبانوا عن مواهب استثنائية.
لقد تركت الفصول الدراسية منذ سنوات عديدة،لكن أسماء وصور بعض المتعلمين ما زالت حاضرة في ذاكرتي ،إلى درجة أني أحلم أحيانا بلقاء هذه النماذج لأعرف المكاسب التي حققوها في الحياة.
لا أنكر أني كثيرا ما أفاجأ بشباب يستوقفونني في المدن التي أزورها ليعودوا بي إلى عقود خلت، مبدين كثيرا من المجاملة والعرفان،وهو ما يشعرني ببعض الاعتزاز وأنا أسمع شهادات عفوية من أشخاص بينهم من يحمل بدوره مشعل التدريس.
لعل أشهر حالة أثرت في نفسي إلى الان،هي تلك التي حصلت بمدينة جرسيف أوائل الثمانينات من القرن الماضي.
كنت قد حللت بهذه المدينة قادما من نيابة بني ملال بنية الاقتراب من العائلة،وخلال انطلاق الموسم الدراسي،أثارتني إحدى التلميذات بتمثلها الاستثنائي للدروس،حيث احتكرت المرتبة الأولى في جل المواد الدراسية.
وإلى جانب نباهتها،فقد كانت على قدر عال من الأخلاق الفاضلة ولم ينل منها سن المراهقة ما يناله من غالبية النشء.
لقد كانت هذه التلميذة حريصة على السؤال لتعميق مداركها كلما فتح باب النقاش الذي تقتضيه بعض الدروس،وكانت أسئلتها تنم عن شخصية متفردة تخفي سرا من الأسرار،ذلك أنه خيل إلي وكأن هذه المتعلمة تسابق الزمن لبلوغ هدف ما.
كان زملائي الأساتذة يقاسمونني إلإشادة بطموحاتها،مما جعلنا نرغب في معرفة المزيد عنها،فكانت المفاجأة التي لم تخطر على بال أحد منا.
لقد قادنا البحث لنكتشف بأن المعنية يتيمة الأبوين،وكانت تحرص على القيام بدورهما في حق إخوتها الصغار،حيث كانت تستيقظ في الصباح الباكر وتعد طعام الفطور ثم الغذاء قبل أن تلتحق بالمؤسسة دون أن يظهر عليها ما يشي بحقيقة أمرها يوما !
أدركنا في النهاية بأن هذه التلميذة كانت تريد اختصار الزمان لتجد عملا يمكنها من مواصلة رسالتها تجاه إخوتها، دون أن تسلك الطريق السهلة التي يختارها بعض الناس عند أول عثرة ألا وهي الاستسلام وبيع الكرامة بأبخس الأثمان.
واصلت التلميذة العنيدة مواظبتها فحصلت على شهادة البكالوريا،ثم غادرت المدينة دون أن أعرف المسار الذي نهجته بعدي وإن كنت موقنا بأنها قد حققت هدفها ،وأسأل الله أن يكتب للمتعلمة البارة حياة طيبة تنسيها في تضحياتها الجسام من أجل صغار وجدوا في أحضانها دفء أبوين انطفأت شمعتهما مبكرا.