الشاشة وتنازع الرغبات
محمد شحلال
بعد أن احتكر المذياع مصدر الأخبار والترفيه والثقافة عموما،ولعقود طويلة،حل بين الناس جهاز جديد مالبث أن أزاح،،الراديو،،تدريجيا عن عرشه،قبل أن يبسط نفوذه في كل البيوت،وهكذا تمكن التلفزيون من أن يصبح مع مرور الأيام متاعا لا غنى عنه بين الأسر بفضل جمعه بين الحدث والصورة.
ارتبطت علاقتي بالشاشة أواخر الستينات من القرن الماضي بمدينة جرادة،حيث بدأ العمال يتهافتون على اقتناء الجهاز الجديد، بعدما عمدت الجهات البائعة إلى عرض البضاعة المغرية عبر الأداء بالتقسيط.
كنا في المرحلة الإعداية،وأصبح حديث التلفزيون يتصدر النقاشات الدائرة بين الزملاء،حيث كان كل طرف يتباهى بطبيعة مشاهداته،بل سرعان ما انتقل الحديث إلى نوع من التباري في فك شفرات بعض البرامج والأشرطة-على قلتها-بينما كان الزملاء الذين لم تنعم بيوتهم بهذا الوافد الجديد،يتجرعون المرارة في صمت !
كان أخي-رحمه الله-قد تعسف على دخله الزهيد في الشركة، ليدخلنا في دائرة مالكي الشاشة،حيث كان عليه أن يدفع أقساطا سوريالية قبل بلوغ مرحلة رفع اليد !
وإسوة بالعرف السائد يومئذ،فقد خصص للجهاز مكان متميز،حيث يتزين بقطعة قماش أنيقة غالبا ما كانت مطرزة،ولا ينكشف وجهه الأسمر ،إلا مع حلول الظلام،حيث يتحلق حوله الجميع زاهدين في وجبة العشاء أحيانا ،لمتابعة ما يستهوي أسرا مكبلة بقيود الجهل والأمية ،وهو ما ينعكس في تفاعلها مع الأحداث والمشاهد.
كانت الأسر التي لم يبتسم لها حظ امتلاك الجهاز السحري بعد،تحل ببيوت الأقارب، لاكتشاف بعض من أسرار هذه الآلة التي زرعت بين العديد من الأزواج الفقراء، خلافات وصراعات حولت حياتهم إلى جحيم حيث صار امتلاك التلفزيون، شرطا لاستقرار البيت وهدوئه.
وإذا كان التلفاز قد تغلغل في سائر البيوت مع مرور الأيام،فإنه كان في الواقع مصدر خيبة قوية بالنسبة لمحبي الثقافة الذين يصطدمون ب،،لوبي ،،الجهل في الأسر.
وهكذا،وفي الوقت الذي كان الشباب من المتعلمين يتحينون فرصة بث برامج ثقافية،فإن الأب ومعه باقي الأنصار،لا يسمح بتشغيل الجهاز إلا إذا عرض فيه شريط ،،حربي،،( فيلم الكيرا)ليرضي نزوات العنف الدفينة ،ونشوة الانتصارات التي خانته في الحياة،فإذا لم يكن شريط حرب،فليعوضه مسلسل شعبي، يرى في شخوصه ولغته ،صورة ما من شخصيته التي يعجز عن بلورتها في الواقع.
لقد كان على الشباب المثقف داخل الأسر الأمية أن يتحمل ميول الأغلبية المناقضة لأهوائه، وأن يرضي فضوله بالوسائل الأخرى المتاحة ،من كتب زهيدة وأفلام لا ترقى إلى تطلعاته في قاعة يتيمة تراعي عقلية زبائن يبحثون عن فتوحات،،رعاة البقر،، ورومانسية الهنود التي لا حدود لها !
تركت جرادة مبكرا إلى فضاء الداخلية بمدينة وجدة،وكان علي وزملائي أن نلائم أحوالنا مع عوالم أخرى، لها نكهتها وشجونها التي لم تطل لحس الحظ.
عرف التلفاز ثورة في مظهره ومخبره، ويتعرض المسكين لمنافسة شرسة،لكنه سيظل مدينا للنساء اللواتي صرن يحتكرن متابعته ،ليتهن في عوالم المسلسلات القادمة من كل أصقاع الدنيا، حاملة معها كل صنوف التخريب المبطن والممنهج، الذي لم تتأخر نتائجه على بنية الأسرة ووظائفها، ومع ذلك تجد بيننا من يخرج لإعلان تضامن شفوي مع ،،المجاهدين،،والمستضعفين، ريثما يحل موعد المسلسل ليعود المتحمسون والمتحمسات إلى قواعدهن التي تمتد نحو ،،اسطنبول،، والقاهرة وأمريكا اللاتينية…..