الرعاية العملية والاعتبار الوطني للطفل المتخلى عنه
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والحضارة
وجدة ، المغرب
أولا: التطبيقات الإسلامية العملية لحماية نسب اللقيط
من نماذج تطبيق الولاية في الأمة الإسلامية لحماية الطفل اللقيط والضائع بصفة عامة كنجد ما يروي سعيد بن منصور في سننه عن سنين بن جميلة قال :وجدت ملقوطا( ملفوفا) فأتيت به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عريض –أي المعرف به –يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح ..فقال عمر :أكذلك هو؟قال:نعم،قال :اذهبوا به ،وهو حر و لك ولاؤه وعلينا نفقته …وفي رواية :وعلينا رضاعه “.
على هذه النصوص وغيرها يبني ويستنبط الفقهاء الأحكام المتعلقة باللقيط وحمايته وتربيته،من حيث اعتبار الحرية والإسلام والعدالة أو الصلاح في المتولي أمور اللقيط وكذلك في تبني الجزاء أو ما يعرف بالتنزيل منزلة الولد ، وأيضا في شروط الحضانة وكل ما له علاقة بمباشرة التربية والتوجيه للطفل ،بحيث قد نجد مثلا في المدونة الكبرى:”قلت::أرأيت مالكا كان يقول اللقيط حر ؟قال :نعم وولاؤه للمسلمين يعقلون عنه ويرثونه ،قال:وقال مالك :من أنفق على اللقيط فإن نفقته على وجه الحسنة ليس له أن يرجع عليه بشيء…قال مالك :ولاؤه لجميع المسلمين كلهم ولا يكون ولاؤه لمن التقطه…و ميراثه للمسلمين ،قال ابن وهب : وإن علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز قالا:اللقيط حر ،قال عمر بن عبد العزيز :ونفقته على بيت المال “كما أن حريته تكون سبب حرية أمه حينما تكون أمة وتحمل من سيدها…
يقول ابن جزي :”والتقاطه من فروض الكفاية فمن وجده وخاف عليه الهلاك إن تركه لزمه أخذه ولم يحل له تركه ،ومن أخذه بنية أن يدفعه إلى السلطان فلا شيء عليه في رده إلى موضع أخذه إن كان موضعا لا يخاف عليه فيه الهلاك لكثرة الناس ،واللقيط حر ولاؤه للمسلمين ولا يختص به الملتقط إلا بتخصيص الإمام…”.
ثانيا: الاحتياطات العملية والاعتبار المكاني لحماية نسب الطفل
فعن الاحتياطات العملية لحفظ نسب اللقيط من الضياع نجد لدى أبي حامد الغزالي مسألة دقيقة تتعلق بالمكان الذي ينبغي أن يستقر فيه اللقيط بعد التقاطه ،كما يقول :”وعليه حفظه في موضع التقاطه فإن نقل من بلد إلى قرية أو بادية لم يجز لتفاوت المعيشة ،فإن نقل من البادية إلى البلد جاز،وإن نقل من بلد إلى بلد أو من قبيلة إلى قبيلة في البادية لم يجز على أحد الوجهين ،لأن ظهور نسبه في محل التقاطه أغلب”.
إذ البعد الأخير في النص مهم جدا لحماية نسب الطفل من الضياع التام مع فتح باب الأمل في استدراكه أو استلحاقه لأن واقع مجهول النسب لا يعني حتمية انقطاعه ،ولكن لابد من اتخاذ الإجراءات الموضوعية لتقريب استرجاعه ،من خلال الإعلانات والتزام المكان القريب من التقاطه حتى يتراجع المتخلي عنه أو تذهب عنه أسباب الخوف التي أدت به إلى هذا الإجراء عن غير رضا وطواعية ،وهذا يعطي الأولية لحفظ نسب الطفل بأقصى ما يمكن من الوسائل والأسباب . بحيث قد يلتقط الطفل فيأتي من يدعيه قريبا من المكان الذي التقط فيه ،ومن ثم فقد يكون أباه أو أمه ،أو يكون مجرد زاعم لانتسابه إليه،كما قد يكون الدافع إلى طرحه هو تقليد بعض الإشاعات والأماني التي قد يتوهم منها ضمان عيش الولد للذي يموت أولاده عند الولادة أو بعدها بقليل،كما في المدونة:”قلت أرأيت إن التقطت لقيطا فجاء رجل فادعى أنه ولده أيصدق أم لا؟قال: بلغني عن مالك أنه قال :لا يصدق إلا أن يكون لذلك وجه مثل أن يكون رجل لا يعيش له ولد فيسمع قول الناس أنه إذا طرح عاش فيطرح ولده فالتقط ثم جاء يدعيه ،فإذا جاء من مثل هذا ما يعلم أن الرجل كان لا يعيش له ولد وقد سمع منه ما يستدل به على صدق قوله ألحق به اللقيط وإلا لم يلحق به اللقيط ،ولم يصدق مدعي اللقيط إلا ببينة أو بوجه ما ذكرت لك أو ما أشبهه…قلت:أرأيت إذا ادعت المرأة لقيطا أنه ولدها أيقبل قولها ؟قال :لا أرى أن يقبل قولها ، وقال أشهب:أرى قولها مقبولا وإن ادعته أيضا من زنا إلا أن يعرف كذبها “.
فالمشكل حول انتقال اللقيط من المكان الذي التقط فيه قد يقترب من مسألة تبني الجزاء الذي يقع كثيرا حينما تتنازل الأم أو الوالدين عن ولديها اضطراريا في المستشفيات أو الجمعيات الخيرية فيأتي من يتبناه ويسلم إليه،ثم يسافر به إلى خارج البلد أو إلى وجهة غير معروفة ،وحينما تعود الأم أو الأبوين إلى يسرهما وتتحرك لدى الجميع غريزة البنوة والأمومة للحث على طلب الولد فلا يجدون له أثرا؛ ومن ثم يكون العذاب والألم وتأنيب الضمير المستمر حتى المنية …!
ثالثا :البعد الديني للاعتبار الوطني في نسب الطفل
إلى جانب هذا وارتباطا بموضوع المكان وحفظ النسب للقيط يوجد بعد أوسع وأشمل ألا وهو الاعتبار الوطني في النسب الديني الذي يرتبط بالنسب النسلي الأسري ارتباطا وثيقا وذلك من حيث البلد الذي وجد فيه هل هو ما يصطلح عليه بدار الإسلام أم بدار الكفر ؟.
فأما دار الإسلام فضربان:
كما يقول ابن قدامة “أحدهما :دار اختطها المسلمون وأسسوها ،فلقيط هذه محكوم عليه بإسلامه وإن كان فيه أهل الذمة تغليبا للإسلام ولظاهر الدار ،ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ثانيهما: دار فتحها المسلمون ،فهذه إن كان فيها مسلم واحد تحكم بإسلام لقيطها لأنه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليبا للإسلام،وإن لم يكن فيها مسلم بل كل أهله ذمة حكم بكفره،لأن تغليب حكم الإسلام إنما يكون مع الاحتمال .
أما بلد الكفار فضربان :
أحدهما بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه،فهذا كالقسم الذي قبله إن كان فيه مسلم واحد حكم بإسلامه أيضا لأنه يحتمل أن يكون فيه مؤمن يكتم إيمانه ،بخلاف الذي قبله فإنه لا حاجة إلى كتم إيمانه في دار الإسلام ،وإن كان بلد للمسلمين ثم غلب عليه المشركون ثم ظهر عليه المسلمون وأقروا فيه أهله بالجزية ،فهذا كالقسم الثاني من دار الإسلام .
ثانيهما :دار لم تكن للمسلمين أصلا فإن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر لأن الدار لهم وأهلها منهم ،وإن كان فيها مسلمون كالتجار وغيرهم احتمل أن يحكم بإسلامه تغليبا للدار والأكثر…”.
فتغليب الإسلام هو الأساس في النسب وهو الحامي له سواء على المستوى الروحي أو النسلي الأسري ،وهذا التغليب كما رأينا يبقى موضوعيا وعلميا مؤسسا على وقع الطفل الروحي والعقدي باعتبار أن توحيده بالأصالة ابتداء وبالتبعية فيما بعد كما سبق وبينا.