التغيرات الاجتماعية وضوابط العقد والخِطْبة لحماية المرأة
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والفقه والحضارة
أولا: ضابط العقد مع إمكان الاتصال
إن واقع الحال في مجتمعنا قد أصبح معقدا جدا، ومن ثم كان لابد من مراعاة التطور الحاصل فيه على مستوى التواصل وكذلك على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي و كذا النفسي الغريزي ،بحكم ظاهرة الإثارة الجنسية المفرطة التي أصبحت طاغية على الساحة العامة وبفعل التبرج وخلفياته كما سبق وبينا في كتابنا”حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي”،إضافة إلى التطور الإعلامي ذي خاصية الغزو الوحشي داخل البيوت وخارجها عنوة وبشتى الإغراءات والمبررات!..
فهذه التغيرات الاجتماعية والنفسية والحضارية بصفة عامة هي التي فهم آثارها فقهاء المالكية وغيرهم حينما قعدوا لحماية النسب بمبدأ إمكان الاتصال ،وذلك في حالة تأجيل الدخول عن العقد لفترة قد تؤثر على الستة أشهر الشرعية بالزيادة مما قد يصبح معها الحمل أكثر احتمالا في نسبته إلى الزوج العاقد، لأن زوجته تكون فراشا بهذه القاعدة التي تحمي الأطراف الثلاثة معا وهم:الزوج والزوجة والمولود.
إذ الزوجة تكون معرضة للحمل بسبب اتصالها بزوجها فتبقى بين أن يكون حملها معترفا بمصدره الشرعي أو غير معترف به،كما أن الزوج يكون معرضا لأن ينسب إليه الولد باعتباره صاحب الفراش ، في حين يكون الولد معرضا لأن يعتبر شرعيا أو لا يعتبر رغم أنه قد يكون أو لا يكون منه.
فهذا التأرجح بين الاحتمالات عند الاعتبار والقطع في النسبة وصحة النسب لا يمكن إيقافه إلا بهذه القاعدة المالكية التي حسمت الأمر بمبدأين رئيسيين في النسب وهما:العقد مع إمكان الاتصال، وعند هذه المسألة أي الحمل قبل الدخول المعلن نجد المدونة الكبرى للإمام مالك :”قلت :أرأيت لو أن رجلا تزوج امرأة فلم يبن بها ولم يجتلها حتى جاءت بولد فأنكره الزوج،أيلاعن أم لا في قول مالك ؟قال:قال مالك يلاعن إذا ادعت أنه منه وأنه كان يغشاها وكان ما قالت يمكن وجاءت بالولد لستة أشهر فأكثر من يوم تزوجها ولها نصف الصداق و لا سكنى عليه ولا متعة ،قلت :وكذلك إن طلقها قبل البناء بها،فجاءت بولد لمثل ما تلد له النساء أيلزم الزوج الولد أم لا وهل له أن يلاعن؟ قال مالك :يلزمه الولد إلا أن يلاعن ،فإن لاعنها لم يلزمه الولد ،وهذا إذا كان ما ادعت به من إتيانه إليها يمكن فيما قالت قبل أن يطلقا”.
هذه الأرأيتية في استخلاص الحكم لم تبق مجرد توقع وإنما يعضدها المالكية بالواقع أو الوجود كما سبق وعبرنا مررا،بحيث سينقل ابن وهب “عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن رجل تزوج بكرا فلم يجمعها إليه حتى حملت فقالت:هو من زوجي وكان يغشاني في أهلي سرا ،فقال :لم أغشها وإني من ولدها بريء،قال:سنتها سنة المتلاعنين يتلاعنان ولا تنكح حتى تضع حملا ثم لا يجتمعان أبدا ،وولدها يدعى إلى أمه ،ومن قذفها يجلد الحد”.
هذه الفتوى قد تعتبر حلا للمشاكل التي تترتب من خلال هذا المسلك في التعامل مع الزواج بالعقد مع التراخي في الدخول لأسباب، قد تكون ضرورية وقد تكون خاضعة للعرف السائد في مجتمع إسلامي ما وبحسب الاتجاهات المذهبية لديه ،وهذا هو الغالب عندنا نحن المغاربة رغم مبررات التجهيز والتأثيث والتهيؤ المادي للوليمة والزفاف والنفقة على الزوجة الذي يبقى قائما وملحا في وقتنا الحاضر.
إضافة إلى هذا يوجد نوع من التهدئة الجنسية والغريزية الناقصة من خلال التواصل بالعقد الشرعي للحيلولة دون الاسترسال للوقوع في المحرمات وإثارتها المتنوعة،وخاصة في مجتمع طغت على الكثير من فئاته وأنشطة مؤطريه مظاهر الفساد والتسيب في باب استثارة الغرائز الجنسية بشتى الوسائل والأساليب التعليمية والإعلامية على حد سواء …
غير أن المشكلة في هذا الاتصال غير المعلن هو أن الزوجة تكون معرضة لنقيصتين معا وهما :أولا:الضعف النسبي في دعواها للحمل من زوجها بمجرد العقد وإمكان الاتصال رغم أن الولد يكون قد جاء في مدة شرعية وهي الستة أشهر فما فوق،ثانيا:انتقاص حقها في الصداق الكامل والنفقة الواجبة لها بمجرد الدخول أو الدعوة إليه حسب مذهب المالكية وما كانت عليه مدونة الأحوال الشخصية ماضيا،إذ كما يقول ابن عبد البر:”على الرجل أن ينفق على زوجته إدا دعي إلى البناء وأسلمت نفسها إليه وكانت مما يمكن الاستمتاع بها لأن النفقة لا تجب على الزوج بعقد النكاح حتى ينضم إليه وجوب الوطء لمن ابتغاه لأنه المقصد بالعقد،فإذا أسلمت نفسها إليه وجبت لها النفقة عليه أراد البناء أو لم يرده”.
يقول ابن رشد عن وقت وجوبها:”فإن مالك قال:لا تجب النفقة على الزوج حتى يدخل بها أو يدعى إلى الدخول بها وهي ممن توطأ وهو بالغ…”.فالمالكية يبنون هذا الحكم على زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة رضي الله عنها كما مر بنا الحديث،إذ لم يرد أنه كان ينفق عليها وهي مازالت في بيت أبيها،ومن ثم فلا إلزام بالإنفاق إلا بعد الدخول .
من هنا فإذا كان الوضع عندنا هو وجود اتصال واختلاء بل استمتاع بحسب الظروف والدوافع والرغبات فإن الحكم ينبغي أن يأخذ صورة الاحتياط في المسألة وهو ضمان حقوق المرأة عند وجود المسيس أو الاستمتاع بفرض نفقة عند العقد تراعي الظرف الذي يكون عليه الزوج أو الزوجة معا رغم أن الزوجة ربما تكون قد سلمت نفسها برضاها ودون أن تطالب بحقها في النفقة .
لكن هذا الرضا إما أن يكون نتيجة مقتضى الغريزة والانجذاب الطبيعي بين الزوج وزوجته أو أن يكون بسبب المداراة والمجاراة للحرص على استمرارية الحياة الزوجية والحيلولة دون عدول الزوج عن إتمام زواجه بالدخول المعلن! .
إذ هذه كلها مبررات مدخولة وفيها نوع من الضعف الذي تقع فيه المرأة فتتنازل عن حقها رغم أنه يبدو تراضيا،إضافة إلى ضياع حقها في صداقها الكامل حينما يقع الطلاق قبل البناء المعلن يقول الله تعالى :”وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح”ويقول أيضا:”وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منك ميثاقا غليظا “.
هذا؛إذا علمنا بأن الإنفاق والصداق ليس منحصرا في العوض الجنسي أو الاستمتاع بالدرجة الأولى ، لأن هذه المسألة متبادلة بين الزوج والزوجة، وإنما السبر والتقسيم كما ذهب الفقهاء به يميل إلى اعتبار مبدأ الاحتباس لمصلحة الزوج ،إذ كما تقول القاعدة”من حبس لمصلحة غيره فنفقته عليه”.
من هنا فإن بعض المناطق المغربية وغيرها من البلدان الإسلامية قد جرى العرف فيها بأن لا يتم العقد إلا يوم الزفاف، وذلك تلافيا لأية مشكلة من هذا النوع، وبهذا يجمع بين المذاهب التي ترى أن العقد وحده لا يوجب النفقة أو أن النفقة تجب بمجرد العقد ،وبتالي يكون مشكل الحمل مع العقد وقبل البناء المعلن غير مطروح عند هذا الإجراء ،فتحتسب حينئذ أقل مدة الحمل الشرعي وهي ستة أشهر من يوم العقد والزفاف معا.
ثانيا: حكم الخطبة ومخاطرها مع إمكان الاتصال
إذ مع هذا التحفظ الذي يدخل في دائرة الشرعية قد تطرح مسألة الخطبة وإمكان الاتصال بين الخاطب و المخطوبة ،نظرا لما عرفه مفهوم الخطبة من تطور وإبهام قد ينحو به إلى مسلك غير شرعي رغم أنه ابتداء يعتبر شرعيا في مقصده و ذلك بسبب من التساهل في هذا الباب تحت فتح المجال لكلا طرفي الخطبة في الاتصال ببعضهما على شكل قريب من الاتصال الحاصل بالعقد قبل الدخول ومن هنا تبدأ المخاطر وتكثر المحاذير مما ينذر بعواقب وخيمة بدأت تهز استقرار عدة أسر وخاصة في باب النسب والحفاظ على شرعيته إذ:”الخطبة وعد بالزواج وليست بزواج”كما في الفصل الخامس من مدونة الأسرة الحالية:”
_الخطبة تواعد جل وامرأة على الزواج
_تتحقق الخطبة بتعبير طرفيها بأي وسيلة متعارف عليها تفيد التواعد على الزواج ويدخل في حكمها قراءة الفاتحة وما جرت به العادة والعرف من تبادل الهدايا
_يعتبر الطرفان في فترة خطبة إلى حين الإشهاد على عقد الزواج”.
من هنا فقد كان التحفظ في المذهب المالكي في النظر إلى المخطوبة ، بحيث أجاز مالك النظر إلى الوجه والكفين فقط مع تفاوت نسبي بين المذاهب في هذه المسألة .
حيث أن القضية موقوفة ومحصورة في النظر بحسب الأمر الشرعي والاستحباب حتى تتم الألفة والرغبة في الزواج فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال:كنت عند النبي صلى الله عليه فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :أنظرت إليها ؟قال:لا،قال:فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا”.
إذ هذا الحصر يمنع ما فوقه من استرسالات في التقارب والتهامس والتلامس وما إلى ذلك حينما تغيب المراقبة الأسرية ويترك الحبل على الغارب في المسألة مما قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى ما لا تحمد عقباه ،وهذا ما أفرزته وغزت به العوائد الغربية مجتمعاتنا،وكذلك ما بررته الثقافات المميعة والهجينة باسم الحرية والحقوق والتعارف والتفاهم والأخوة الإنسانية وما إلى ذلك من ذرائع مزيفة قد تكون في كثير من الأحيان ذات صيغة انتهازية لاستغلال الآخر تحت غطاء الوعد بالزواج والتهيؤ له نفسيا وغريزيا …
عن حكم الخطبة فقد قال الجمهور :إنها ليست بواجبة،وقال داود الظاهري هي واجبة ،وهي لها أحكام تتعلق بها تجمع بين الندب والمنع بحسب الظروف والواقع،إذ من أحكام المنع ما يعرف بالخطبة على الخطبة وهي المنهي عنها نصا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:”لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك”.
اختلف الفقهاء هل دل ذلك على فساد المنهي عنه أو لا يدل؟وإن كان يدل ففي أية حالة يدل؟فقال داود :يفسخ ،وقال الشافعي و أبوحنيفة لا يفسخ، ،وعن مالك القولان جميعا،وثالث:وهو أن يفسخ قبل الدخول ولا يفسخ بعده ،وقال ابن القاسم :إنما معنى النهي إذا خطب رجل صالح على خطبة رجل صالح ،وأما إن كان الأول غير صالح والثاني صالح جاز.وأما الوقت عند الأكثر فهو إذا ركن بعضهم إلى بعض لا في أول الخطبة بدليل حديث فاطمة بن قيس حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه سلم فذكرت له أن أبا جهم بن حذيفة و معاوية بن أبي سفيان خطباها ،فقال :أما أبو جهم فرجل لا يرفع عصاه عن النساء،وأما معاوية فصعلوك لا مال له ،ولكن انكحي أسامة…”.
فهذه الأحكام المترتبة عن الخطبة مهما تنوعت إلا أنها لا تسمح للخاطب بأن يباشر مخطوبته على مستوى الخلوة أوالقيام بمقدمات الجماع البسيطة فما بالك بالمسيس وإجراءاته ،التي وإن لم يتحقق معها الوطء بمفهومه التام إلا أنه قد يؤدي إلى الحمل،وبالتالي الوقوع في المشاكل الاجتماعية المرضية والمزعجة، من مظاهرها تكاثر الملاجئ ودور إيواء اللقطاء والأطفال المتخلى عنهم …
من هنا فقد لا يلتفت إلى بعض الشواذ –فرضا- الذين قد يرون أن الخطبة ربما تقوم مقام العقد ،إذ الشاذ لا يقاس عليه ولا يعمل به،والإجماع قائم على أن العقد هو المؤهل الشرعي الرئيسي للمباشرة بين الزوجين رغم أن هذا الأخير له شروط متفق على بعضها ومختلف حول الأخرى ،لكن غالب الاختلاف يكون حول وجه الإجراء مع وجود الشرط حتى لا يصبح النكاح ذا طابع سري ،ولهذا كما يقول ابن عبد البر أن “من فرض النكاح عند مالك إعلانه لحفظ النسب”.