التعريف النفسي للإنسان وخصوصيته الشعورية في الإسلام
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة ، المغرب
1) من التعريفات التي قد تنطبق على الإنسان هو أنه” كائن حي شعوري” وهذه الحياة الشعورية ستمثل واقعا مشتركا بين الناس،و بها يتميز عن الكائنات الصماء الجامدة والكائنات الحية غير العضوية .
لكن هذا الشعور قد ينقسم إلى أقسام:منها ما يبقى في دائرة الاشتراك الذي يجمع الإنسان بالحيوان،وهو الشعور الحسي والغريزي وما قرب منه،ومنها ما يختص به الإنسان عن الحيوان اختصاصا راقيا ومميزا تميزا عنصريا بحسب قيمته الجوهرية التي منها تتكون شخصيته.
وعلى هذا فنجد الخطاب القرآني حينما يتحدث عن الشعور الحسي عند الإنسان قد يقارنه دائما بالحيوان، كضرب استحثاثي على أوتار النفس الإنسانية ذات الخصوصية الراقية ،حتى لا تنغمس في استحلاء الشعور الحيواني والتدني بالانغماس فيه مما يسقط الإنسان في مرحلة منافية للشعور الحقيقي الذي يتميز به عن الحيوان وغيره من الكائنات.
فقد نجد مثل هذه الإشارات في قول الله تعالى:”إن الله يدخل الذين أمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم “،”إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون”.
وللخروج من دوامة الشعور الحسي المحض الذي قد يشترك فيه الإنسان والحيوان ،بموجب قاعدة المؤثر والمتأثر والحاجة وسدها والغريزة والاستجابة لها، فإننا نجد أن الإسلام يحدد لنا خصوصية الإنسان الشعورية بفصلها عن الاشتراك العام أو شبهه الذي يجمعه والحيوان،بل حتى النبات والحشرات.
هذا التحديد يتجلى في عدة آيات ستبين لنا أن الأصل في الإنسان هو الشعور الإدراكي والتبصر،وهذا النوع من الشعور هو الذي يجعله أقرب إلى نفسه من غيره وأدرى بأحوالها وأعراضها.
فالأصل في الإنسان كمال الخلقة والإدراك،كما يدل على هذا قول الله تعالى:” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد”،”الرحمن علم القرآن،خلق الإنسان علمه البيان “،”فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى،وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى”،”بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره”،”ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين”،”ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”،”لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون”.
” اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق الإنسان من علق،اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم”.
2) فلو ذهبنا نستعرض كل الآيات الدالة على الوعي الإنساني وشعوره الخاص بذاته وبغيره لوجدناها كثيرة جدا، بل إن الخطاب القرآني في مجمله لم يتوجه إلا إلى هذا الشعور والاستبصار الإنساني، لأنه يؤسس أسمى درجات الإدراك القائم على التعقل والشعور بالخطاب شعورا معنويا،قد يتفاعل معه الوجدان بكل مكوناته وتهيؤاته المعرفية.
فالخطاب يقتضي المناسبة بينه وبين المخاطب،وهذه المناسبة شعورية وإدراكية ذوقية لفحوى الخطاب ابتداء، وعلى أساس هذه المناسبة تتحدد مسؤولية الإنسان الجزائية والمعرفية،وعند غيابها فقد يرتفع التقابل بين الخطاب والمخاطب ،لأنه حينئذ سيغيب الإدراك بمدلولات الخطاب وأبعاده فتكون التصرفات غير شعورية ولا إدراكية والذي قد يكون عرضيا وظيفيا أو مرضيا عضويا،و يكون مرضيا عقديا سيترتب عنه مرض خلقي وانحراف عن الفطرة السليمة فيصير مرضيا عضويا مزمنا.
فحول الحالة العرضية أو المرضية العضوية العادية نجد مثلا هذا الحديث المنبه إلى تجنب الوقوع فيها كما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه”.
إذ النوم يمثل مرحلة وجدانية عرضية قد يغيب عندها الشعور ،والتحكم فيه من حيث الوعي بالخطاب أو تنظيم السلوك، مما يترتب عنه نتائج قد تكون للإنسان فيها مسؤولية محدودة وقد لا تكون، بحسب الآثار المترتبة عنه أثناء النوم ومستوياتها من حيث الإضرار بالغير وعدمه.ولهذا فهو يمثل نوع وفاة كما دلت عليه الآيات في قول الله تعالى:”وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار،ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون”،”الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”.
وكذلك الحديث في قول النبي صلى الله عليه وسلم:”إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء”.
ونظرا لهذا البعد غير الشعوري الذي يؤول إليه النوم فإن المسؤولية الجزائية قد ترتفع عنده إلا في بعض الظروف الاستثنائية كما ترتفع بعض الحالات العرضية الأخرى أو المرضية الشبيهة به،نظرا لأنها تغيب الإدراك عن الإنسان ويصير معها في حالة شبه النائم أو ربما أكثر منه ،سيجمعها الحديث النبوي في خطاب واحد لتقارب أحوال أصحابها كما قال صلى الله عليه وسلم:”رفع القلم عن ثلاثة:عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ”.
فالنوم والصغر والجنون كلها أحوال قد يغيب عندها أهم عناصر الإدراك و مرتكزاته لدى الإنسان،ولهذا فالجزاء سيكون بحسب الاعتماد عليها ،لكن إذا غاب أحدها ارتفعت الأهلية والمسؤولية كما سيستنبطه علماء الفقه والحديث وسيؤسسون عليه علومهم ومناهجهم في دراسة النفس ومراحل إدراكها …
فالتوظيف في غير محله أو التغييب العمد للشعور والوعي سيكون أحد أهم أسباب تحمل المسؤولية الجزائية و التأديبية،عقابا أو عتابا وتوبيخا. وفي هذا ورد النص القرآني محذرا من عواقب توظيف المرتكزات الإدراكية في غير محلها مع الوعي بمحمولاتها المعرفية في قول الله تعالى:”ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا،ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروه”.
فهذه الآيات قد جمعت بين تحديد العقل النظري والعقل العملي في آن واحد -أي بين العقيدة والسلوك – مما يمكن معه القول بأنه ،إذا صلحت أدوات تثبيت العقيدة الصادقة والالتزام بها سيصلح معه بالضرورة السلوك الصحيح والأخلاق الرفيعة، لكن إذا غاب الإدراك وأدواته ووظفت على غير وجهها فقد تنقلب تلك إلى ضد وظيفتها مما يترتب عنه سلوك شاذ ومنحرف وصفه الله تعالى بالطغيان والعمه، كما نجده في قوله تعالى:”ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون”.
وعند هذه الحالة سيدخل الإنسان في مرحلة الحالة المرضية العقدية أو السفه العقدي كما سبق وعبرنا عنه، وهي مرحلة يمكن التعبير عنها باللاشعور الفكري والسلوكي، تنقلب فيه المفاهيم إلى ضدها والسلوكات إلى عكسها على نمط الإصابة بمرض الصفراء أو عمى الألوان .بحيث قد يتذوق المريض ويرى الأشياء على غير طعمها أو صورتها الحقيقية رغم أنها أقرب إليه من أي شيء…