الحب زمن ” المِيتا “
رمضان مصباح
سامية:
فيسبوكية زرقاء،لا تكشف عن صورتها واسمها الحقيقي؛يعرفها أصدقاؤها فقط .
لا تتعدى ذاكرتها شاشة هاتفها ،أو كمبيوتر المنزل.
لا شيء تماما ؛ ولو فقط كموضوع للنسيان.
وهل ننسى مالم يدخل ذاكرتنا قط؟
سامية بنت يومها،ساعتها،دقيقتها؛تفتح الهاتف الذكي ،غالبا،لأن هذا ممكن ،بعيدا عن كل متطفل ؛كما يحصل مع كومبيوتر المنزل.
تفتح هاتفها الذكي في غرفتها،وتحت فراشها،وحتى في الحمام.
هي تمتشق العالم، تطل عليه من أي كُوة تشاء.
هاهو أمامها، بصفحتها ،وقد غير من تسريحة شعره ،في هذا الصباح فقط.
وهاهي في نفس اللحظة تشاركه بهجته بشعره فقط.
هو لم يفكر فيها ،ولا حتى بنظم أبيات غزل في ليله.
كل هذا لا يعرفه ،هو الآن مغرم بتسريحته وكفى.
ولابأس أن يُمررها إلى جماعة الفيسبوك ومنهم سامية .
ما أن ترى التسريحة حتى تُفَسبِك على التو:
تسريحتك جميلة؛والخط جانبَ قُنَّةِ الرأس ،انه أجمل. (يجب أن نتعود على تصريف فعل فَسْبَك،إذ لا شيء من فصحانا يمكن أن يحل محله،بنفس معناه(
هذا كل شيء ،وأين سامي من قلبِها ،إن كان لم يتَّسع هذا الصباح إلا لشَعَره.
ما علاقتها بحديث القلوب ،إن كانت مجرد تسريحة تُسعدها؟
تدخل غرفة الحمام ،وتنصرف إلى جسدها الفيسبوكي.
تتمنى لو أن الفيسبوك ينوب عن الفتيات في غسل أجسادهن؛ربما سيحصُل هذا مستقبلا ؛ففتوحات الفيس لا تنتهي.
تسريحة شعر ،حمام مختلط بأحلام مستقبلية ،للفيسبوك، وليس لها.
حينما نحلم بشيء فيسبوكي؛يكون الفيس هو الذي يحلم به في الحقيقه؛ثم يمرره إلى أحلامنا؛هذا من قواعد اللعبة العولمية.
ثم تخرج ،وقبل أن تستجيب لدعوة الأم للإفطار ،تنتحي جانبا وتفتح الفيسبوك مرة أخرى..
ماذا؟ لم يعد هناك سامي بتسريحته ؛إنها صديقتها لمياء ،تسألها عن أي لون سترتديه ليومها.
الأرزق الأزرق يا لمياء ،وأنت ماذا سترتدين ؟
فكرت في الأزرق يا سامية ،لكن بدا لي الأحمر هو الأفضل.
هل رأيت تسريحة سامي؟ ،تسأل سامية.
تجيب لمياء: أعجبتُ بها .
وسامي هل أعجبك؟ لا لا هذا لا يهُم ؛المهم كيف يسَرِّح شعره.
تتناول إفطارها على وقع العالم الأزرق ،ولمياء وسامي ؛ثم تنهض لكن قبل حمل محفظتها والخروج ،لا باس من فسبكة جديدة توجهها لسامي:
احتفظ بالتسريحة طيلة اليوم ،لقد أعجبتْ حتى لمياء.
يرد سامي :آسف لم يكن هذا رأي ليلى؛ولهذا غيرتُها ،غيرتُ التسريحة.
تُفسبك سامية كلمةً غاضبة لسامي،فيرد عليها:
فرضُ الرياضيات يا سامية؛ليلى ستجلس بجانبي ،فأنا لا أعرف سوى هندسة الشعر .
هكذا بيعت سامية بنقطة جيدة،منتظرة، في فرض الرياضيات.
هو الحب زمن الفيسبوك. بين حُبٍّ وحب ،حب آخر.
في « الحب زمن الكوليرا » ل »غابريال غارسيا ما ركيز »،يختلف الأمرُ تماما:
يتحابان في شبابهما حبا جارفا،لكنه فقيرٌ ،لا يتجرأ على خِطبتها من والدها.
يتقدم الطبيب الثري فينالها بثرائه ،ومع السنين تنسى حبيبها الفقيرَ.
ماذا تتصورون أنه سيفعل؟
لم يكن الزمن زمن الفيسبوك ،حتى يغير تسريحة شعره فقط،وينسى الموضوع كلية.
لا لا ،بقي على حبه،لعشرات السنين، إلى أن تناهى إلى علمه أن الطبيب زوجَ حبيبته مات؛فتقدم لخِطبتها ،وهي بنتُ السبعين عاما.
نعم ،كل هذه السنين وجذْوة الحب مشتعلةٌ في نفسه.
طبعا غضبت منه أيما غضب ونهرته:
ابعد كل هذا العمر يا هذا؟ يا حبيبَ زمان..شاخ الزمان يا حبيبي؛ ف « تعلم كيف تنسى وتعلم كيف تمحو ».
لا،لا، سنعيش سعداء، رغم كل هذه السبعين ؛انه الحب،وهو كالخمر المُعتقة،يُسكِرُها الزمن فتُسْكر.
تنهره بنتُها ،وتعتبره ناقصَ عقل.
أما الابن فوقف إلى صف الحب:
عشقتها شمطاء شاب وليدها *** وللناس في ما يعشَقونَ مذاهبُ
أمَّاهُ، لماذا لا تعيشين سعادة الحب في شيخوختك؟ تشجعي واقبلي الخِطبة.
ويتزوجان ،ويرتبان قضاء شهر العسل في رحلة بحرية.
هما الآن في سفينة كبيرة يمخران عباب حبِّهما،صوب عنفوانه الشبابي.
ولكنْ يشعر بالنظرات من حولهما ،وبالهمهمات ؛ ثم يتساءل لماذا لا يكونان وحدهما فقط في السفينة ،حتى ينعمَا بحبهما ؟
آه، لا تنقصه الحيلة ؛فما أن رست السفينة في أحد المواني، حتى أعلن للجميع ،أنه وحبيبتُه المسنة مُصابان بالكوليرا.
يهرب كل الركاب منهما إلى بَرِّ الأمان.
هاهو وحيدٌ مع حبيبته، في سفينة لا يجرؤ أحد على الصعود إليها.
هل هذا زمن الكوليرا فعلا يا ماركيز؟
أم هو زمن الحب ،الذي يهرب بحبه و يختبئ حتى وراء الكوليرا ؟
هل لا حظتم الفرق بين الحب في زمن الكوليرا ،والحب زمن الفيسبوك؟
ذات وَجْد عذري عميقٍ ، صرخ قيس في حبيبته ليلى:
إليك عني، لقد أنساني حبُّك فيكِ.
ابتعدي يا سامية ،فالفايسبوك أنسى فيك الحبيب الأزرق؛حبيب دقائق وساعات فقط.
أزرق وزرقاء، في عالم أزرق، فكيف سيكون حبُّهما ،إن لم يكن كقطعة ثلج.
بين تسريحة وتسريحة أخرى ،تُستبدل حبيبة بأخرى.
سبعون عاما مرت على بطل غابريال غارسيا ماركيز، وهو ينتظر فرصة الظفَر بحبيبته التي ضاعت منه في الشباب؛أو ما تبقى منها.
بعد فرض الرياضيات يخرج الجميع إلى الساحة للاستراحة.
لا حديث إلا عن سامي الذي ضُبط متلبسا بالغِش،ولمياء المتواطئة:
ما ابتدأ أزرقَ ينتهي أزرقَ.
أما سامية، وبعد أن فتحت الشاشة الزرقاء، تغير لونُها تماما..إنه هنا، في صفحتها يقف أمامها، ظِلا لا تتبين ملامحَه، كعادته دائما..لا تعرف له اسما عدا بعض الرموز التي لا تفهم لها معنى، والتي تتغير من إطلالة إلى أخرى؛ وهي تحار من أين يعرفها، وهي بدون صورتها الحقيقية..هل هو مريضٌ مغرم بالأقنعة فقط؛ أو بصفحات الفتيات ليس إلا؟ لكن كلامه دافئٌ، يخاطب فيها الأنثى، ولا شيء غير الأنثى..تريد أن ترُد لكنها لا تعرف كيف تخاطب فيه الذكورة، ولا شيء غير الذكورة، وهو لا يريد أن يسمع منها غير حديث الجسد.
كل قاموسها عبارةٌ عن تسريحات شعر، قفزات شاطئية، ضحكات هستيرية، موسيقى صاخِبة..لا تعرف الشاب؛ لكن كل شيء في خلاياها يعرف، لأنها خلايا بيضاء وحمراء فقط، ولا مكان فيها لخلايا زرقاء، باردة كالثلج، رغم ظاهرها الأزرق، لكونها من الجيل الأزرق، ولا خيار لها في هذا.
بماذا تردّ عليه؟ لا تعرف، ولا تريد أن تسأل، حتى لا يضيعَ منها إحساس داخلي تتمنى لو يدوم..إحساس المرأة بالرجل كرجل، إحساس حواء بآدم إذ “طفقا يخْصِفان عليهما من ورَق الجنة”.
رغم هذا التيه الأزرق، فهناك شيء ما لا يغرَقُ، ولا يفنى في الأنثى وفي الذكر..ألم تعد حمامةُ نوح عليه السلام ببعض الطين في أظافرها؟..
اليابسة هنا، اليابسة قريبةٌ؛ هكذا صرخ كل من بالفلك.
رغم الطوفان الأزرق، يظل إحساس ما كامِنا في الإنسان، المتحول عن أحاسيسه الطبيعية.
زالت الصُّفرة من وجه سامية تدريجيا، وهي تُغلق الشاشة.
يتبع