علم الحديث وصلته العابرة بالدراسات النفسية والسلوكية
الدكتور محمد بنيعيش
وجدة ، المغرب
1) علم الحديث بصورته المنهجية ، يمثل دراسة تمحيصية للأخبار ورواتها،إذ كان الاهتمام منصبا بالدرجة الأولى على الجانب الأخلاقي للراوي،باعتبار عدالته أولا .كما أن الجانب النفسي المرتبط بالميدان الأخلاقي ارتباطا عضويا قد كان حاضرا جدا في هذا التمحيص،لأن مراعاة الضبط في الراوي قد يدخل في إطار الملاحظة النفسية له ودراسة قدرته على التحمل والأداء وسلامته من الوسوسة والهلوسة و التناقضات الناتجة عن اضطراب الذاكرة أو الحافظة، مما أبرز شخصيات متميزة ومنضبطة في مجال الحفظ والتذكر، قد تضرب بهم الأمثال لما ظهر عليهم من القدرة النفسية على التقاط المعلومات والحفظ السريع المضبوط، الشيء الذي استحقوا به أن يلقبوا بالحافظ أو أمير المؤمنين في الحديث…
هذه الألقاب لم تعط اعتباطا،وإنما قد كانت نتيجة اختبار وامتحان نفسي تجريبي كما حدث للبخاري-رحمه الله تعالى- فيما يذكر عنه الحافظ ابن حجر في كتابه “فتح الباري” الذي خصص له فصلا عنوانه”جمل من الأخبار الشاهدة لسعة حفظه وسيلان ذهنه واطلاعه على العلل سوى ما تقدم ” “.
يقول في بعض منها:”إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث،فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه،فعمد إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها،وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر،وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يقولوا ذلك على البخاري، وأخذوا عليه الموعد للمجلس فحضروا،وحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم من البغداديين.
فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث.فقال البخاري:لا أعرفه. فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ،والبخاري يقول لا أعرف.وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض،ويقولون:فهم الرجل. ومن كان لا يدري القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ.ثم انتدب رجل من العشرة أيضا فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة.فقال: لا أعرف. فسأله عن آخر، فقال:لا أعرف.
فلم يزل يلقي عليه واحدا واحدا، حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول:لا أعرف. ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة،والبخاري لا يزيد على: لا أعرف.
فلما علم أنهم قد فرغوا! التفت إلى الأول فقال: أما حديث الأول،فقلت كذا وصوابه كذا،وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا،والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه،وفعل بالآخرين مثل ذلك.فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل “كما أقروا له بالإمامة “.
2) فالحفظ ،أو استظهار العلوم، قد يعتبر أهم حقل نفسي اهتم به المحدثون من حيث مراقبته وقياسه بالمقاييس التجريبية،كما رأينا في هذا النص الخاص بامتحان البخاري.ولهذا، فالدراسة النفسية عند المحدثين كتخصص ستكون محدودة المجال والأهداف.ولكنها مع ذلك ساهمت مساهمة معتبرة في ترسيخ بعض المبادئ النفسية واعتبارها، كقواعد عند أخذ الحديث أو التوقف عنده ورده، في شخص الراوي بسبب ما يقتضيه المستوى النفسي للمحدث جرحا وتعديلا.
ولئن وجدنا بعض الآراء للمحدثين في مجال معرفة النفسية فإن ذلك لم يكن سوى تفسير محدود لبعض النصوص الحديثية والإسهاب نوعا ما في تدبرها قصد استكشاف بعض الأسرار النفسية منها.كما نجده مثلا في كتاب “فتح الباري شرح صحيح البخاري” للعسقلاني، و “إرشاد الساري شرح صحيح البخاري” للقسطلاني، وغيرهما.
وبهذا فستكون الدراسات النفسية عند أصحاب هذه التخصصات،من حيث التأليف، ليست سوى دراسات عرضية قد لا تخصص أحيازا مهمة للتأليف في هذا الموضوع،نظرا لما كان يطبعه من طابع ميداني وعملي ووجداني بالدرجة الأولى ،وأيضا لما يتطلبه من تخصص فكري وتجريدي حتى يمكن الأداء فيه بصورة منهجية وهادفة.
وحتى تفسيرات هؤلاء المحدثين لبعض الأحاديث النبوية الخاصة بالروح والرؤى والفراسة والغضب وما إلى ذلك فقد كانوا يعتمدون فيها على آراء بعض المفكرين المسلمين ذوي التخصصات الأخرى،وخاصة علماء الكلام والصوفية.
بالإضافة إلى هذا، فإن علم الحديث من حيث هو رواية وتحليل لشخصية المحدث ونفسيته سيعرف بدوره طوره الذهبي الاستكشافي في عهد التدوين،وعند تصنيف كتب الحديث بما يعرف بالكتب الستة خصوصا والتي قد أصبحت فيما بعد أهم مصدر للسنة النبوية،على رأسها صحيحي البخاري ومسلم.
بحيث قد عرفت تفرعا كبيرا من طرف العلماء لدراسة أسانيدها وشروط روايتها “فكتب الناس عليها، واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من موضوعاتها والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السنة.فالأحاديث -كما يقول ابن خلدون-:”قد تميزت لهذا العهد ولم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل،ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها، بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه” .
ومن الموضوعية القول بأن المرحلة التي ستأتي بعد هذه الجهود سوف لن تكون سوى تقليد منهجي في أغلب الأحيان.بالإضافة إلى هذا،فإن التدوين قد أغنى عن البحث في الرجال بحثا ميدانيا ودراسة نفسيتهم،كما كان عليه شأن المحدثين في السابق. ولهذا فلن يكون مجال لتطبيق المباحث النفسية في هذا الميدان إلا ناذرا ولزيادة اطلاع فقط،خاصة فيما يتعلق بالإجازات والوجادات وما إلى ذلك، بل الأمر قد أصبح مفتوحا أكثر لما يعرف بعلم الدراية من علم الرواية ،وهذا واضح ومعقول بعد مرحلة التدوين الأصلية .