دينامية العطلة الصيفية بين الأمس واليوم.
الحبيب عكي
أتذكر ذات مرة، أنني سمعت من احدى الزعامات السياسية أنها قد أمضت عطلتها الصيفية بمجرد “فوقية” و”كلاكيطة” لم تتجاوز تكلفتهما المادية كليهما 30 درهما فقط، وتذكرت هذا في هذه الآونة التي أصبح فيها من العادي جدا أن يلجأ فيها المواطن العادي للاقتراض من أصدقائه وأقربائه أو من وكالات الأبناك وتجهيزات القروض، حتى ما يزيد عن ثلاثة ألاف درهم لتجزية هذه العطلة بالذات؟. ماذا حدث؟، هل تغيرت العطلة؟، أم الإنسان هو الذي تغير؟، أم مجرد الظروف والملابسات قبل التصورات والممارسات، فأصبح الكل يفرض على الناس ما لم يكن يوما، ولا عاد بالإمكان ربما أن يكون في حياتهم غيره؟، على الأقل بالنسبة لفئات عريضة من الناس التي هي القاعدة التي يقاس عليها.
فئات عريضة من الناس، في القديم لم تكن تعرف شيئا اسمه العطلة الصيفية ولا حتى غيرها من العطل، ما كانت توقف عملها اليومي الخاص ولا حتى المهني الوظيفي من أجلها، وحتى إذا وقع شيء من ذلك، قضتها مع بعضها في محل سكناها بكل عفوية دون كلل ولا ملل، شيء من الراحة والاسترخاء، أو استبدال عمل روتيني معهود بعمل آخر غالبا ما تم تأجيله خلال السنة وتراكمت على المرء تكاليفه كمناسبة زواج أو مجرد البحث والقراءة، كانت العبادات وتنمية القدرات توفى من الاهتمام خلال العطل وخارجها ما تستحق، بعدها يمكن الانخراط في برامج جماعية للمغامرات في الطبيعة بأنشطة الترويح والتنافس والاستكشاف. عكس اليوم الذي يسعى فيه الكثيرون إلى التراخي في العبادات و الهروب الجماعي من المحلي والسفر في كل الاتجاهات لأغراض شتى وعلى رأسها في الغالب مجرد تجزية الوقت بالأيام والأسابيع والانغماس في شتى عادات الاستهلاك.
عطلتنا في قديم القديم، ربما لم تكن هناك عطلة بالمفهوم الحديث كما عند المجتمع الصناعي وتقسيم العمل وهجرة البدو إلى الحضر وانطلائهم بالعادات الجديدة التي من بينها العطلة الصيفية، بقدر ما كانت هناك بعض الأيام الدينية والوطنية، وبعض المواسم الفلاحية والتجارية، ارتبطت بها حياة الناس وكانت توجه نشاطهم من نوع من الأعمال الروتينية إلى نوع آخر منها يشعرون في ممارستهم إياها بنوع من التخفيف والراحة وتجديد العزم والعمل المختلف، كالسوق الأسبوعي ومواسم جني الزيتون وقطع التمور.. أو مواسم الحرث والسقي أو الحصاد والدرس…وكلها مواسم بالغة الأهمية لكل أسرة أسرة وكيل قوتها الأسبوعي والشهري والسنوي. أضف إلى ذلك العناية البالغة لدين القوم بالوقت وتنظيمه وحسن استثماره بشكل مستمر ومتوازن بين العبادة والعادة/العمل.. بين الجد والهزل.. بين الاهتمام الشخصي والجماعي..، حتى جعل شعار ذلك كله: ” فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب” الشرح/7.
وقد فصلت ذلك العديد من الآيات والأحاديث التي جعلت من الوقت هو جوهر حياة الإنسان، ولا ينبغي أن يهدره لا في الصيف ولا في الشتاء. أو يتخلى فيه عن أداء واجب أو يرهق فيه نفسه فوق الطاقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ” رواه البخاري. وقال: ” اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ” أخرجه الحاكم. بل وجعله مدار كل شيء لمن أحسن أو من أساء فقال: ” لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم”رواه الترمذي.
إذن لم تكن كل هذه التوجيهات القيمة خاصة لا بالصيف ولا بالشتاء ولا بأي موسم دون آخر، ولم تكن خاصة بأي مكان دون آخر أو طقس جوي دون آخر ساخن أو بارد، مما يعني أن هناك العديد من المفاهيم الطارئة على حياتنا والممارسات الدخيلة على عطلتنا، وينبغي أن تصحح حتى ترد الأمور إلى إطارها الصحيح وفي اتجاه البناء المجتمعي المنشود. من هنا تطرح كل الأسئلة: هل العطلة توقف عن العمل أم مجرد توقف المدارس والمعاهد ونظيراتها من الكليات والمؤسسات، هل هذا التوقف للسفر والاستجمام أم لظروف جوية حارة لا تساعد على العمل؟، أين كل ذلك السيل العرم من المكيفات؟، ولما لا يجد طريقه إلى هذه المؤسسات؟. هل من الضروري السفر والسفر الأسري الجماعي خلال العطلة إلى أماكن الرطوبة والانتعاش؟، وما حيلة من لا تسعفهم إمكاناتهم المادية لذلك وضجيج الأرقام يشير إلى أنهم حوالي (85%)؟. هل من الضروري أن يرتفع استهلاك الناس خلال العطلة بشكل يضطرون معه إلى الاقتراض لتغطية مصاريفها؟.
لا ينبغي أن نصر على تنميط أشكال عطلنا وهي أكثر من أن تعد أو تحصى، إقامات محلية يتكيف فيها الناس مع أحوالهم، دورات تكوينية سياسية ومدنية، ورشات مهاراتية حرفية فلاحية وتجارية، مخيمات صيفية، مدارس صيفية قرآنية، كراء منازل أطلسية أو شاطئية، إقامات فندقية ومآوي سياحية، مسامرات عائلية وألعاب ترفيهية وفكرية، دوريات رياضية أو مهرجانات فنية، ضيافات أسرية متبادلة، رحلات الحج والعمرة والسياحة الثقافية عبر العالم…، وهكذا وفي إطار امتداد طيف الوسع والامكان، وتعدد طيف المدد والأشكال، لا ينبغي تنميط شيء منها، لأن التنميط لا يعني بشكل آخر سوى نوع من قساوة التوسيم الاجتماعي(Stigmatisations) والتنافس المفرط في الاستهلاك والتباهي، وليس من شأن كل ذلك إلا التمكين بقصد أو بغير قصد لكل هذا الدخيل على حياتنا والغريب على عطلنا، الشيء الذي لا يعمل بدوره إلا على تعقيدهما إن لم يكن استحالتهما بالشكل التلقائي العفوي والطبيعي؟.
ولنتذكر كما هو معروف في السوسيولوجيا، أن الحياة البشرية تعرف جوانب ستاتيكية (ثابتة) إلى جانب جوانبها الديناميكية (المتحركة/المتطورة)، وأن توازنها في التوازن بينهما، فلا يصبح المتحول فيها ثابتا ولا الثابت فيها متحولا، أو يطغى فيها أحدهما على الآخر، فأين عطلتنا من ذلك؟. ما الذي يمكن أن يتحول في عطلتنا ولا بأس وما الذي لا يمكن لأن فيه بأس شديد؟، ما مشروعنا لتدبير العطلة بين الأجيال باعتبار ثقل التاريخ وعناد الجغرافيا؟، هل من الضروري أن نقضيها مثلا في جو سيء من المعاناة والحرمان؟، أو تكلفنا من الجهد والسعي والمصاريف ما فوق الطاقة؟. هل من الثابت أن تكون لنا فيها برامجنا وخياراتنا الخاصة والمناسبة؟، أم من المتحول أن نستسلم فيها لبرامج وخيارات الآخرين قبل أنشطتهم المبسترة وفضاءاتهم المبتلعة؟، وإذا سلمنا أن الجانب المتحرك في العطل تيار جارف وداهم لحسابات الجميع، فأين ما يحدث من مستجدات الوطن وما تتطلبه من تعبئة جماعية، أو تطورات الأمة في فلسطين/غزة، وما حظها من عطلنا وعيا ومواكبة، تضامنا ومقاومة، ضغطا نضاليا وممانعة تطبيع؟، أم أن العطلة على الدوام مثل يوم الأحد، عطلة وحرية، راحة وخصوصية، لا ينبغي أن يسأل فيها أحد عن أحد؟.