هوية الإنسان وإشكالية الظرف الزمني لوجود الروح والجسد
الشهيد نموذجا)
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ العقيدة والفكر
وجدة ، المغرب
أولا:حقيقة وصف الإنسان بين الحياة والموت
إن الإشكال المطروح عند وصف الإنسان باعتباره جسدا على مستوى الترادف هو: هل هذا الجسد استحق أن يسمى إنسانا قبل وجود النفس أم بعد وجودها.؟
إذ حينما نقرأ في القرآن الكريم وصف الإنسان بأنه قد كان علقة، فهي ليست هي الإنسان بهذا الاعتبار . ولكنه سيكون هو النتيجة الآتية والمتطورة عن العلقة بعد اكتمال الخلقة بالتسوية ونفخ الروح … ونفس المسألة حينما نقول لجثة الميت بأن هذا إنسان ! إذ أن إنسانية الجثة قد اكتسبتها حينما كان الروح مرتبطا بها وكان الإنسان حينئذ كائنا متحركا واعيا ومدركا عاقلا، ولكن بعد ما مات فقد بقي وصف الإنسان عالقا به لارتباطه الصوري الجزئي بكينونته الأصلية وهي: الإنسان العاقل الناطق ذو إرادة وشعور… ووصف الإنسان على الحقيقة قد لا ينطبق إلا على هذه المعاني. أما اعتبار الجسد إنسانا لأنه جسد، فهذا ما لم يقصده النص القرآني والآيات التي استدل بها ابن حزم ، بل قد نجد القرآن يصف الإنسان المتحرك والفاقد لشروط الإنسانية بشر الدواب كما مر بنا في قول الله تعالى: “إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون”.
من هنا فتسمية الإنسان قبل الاكتمال دلالة على النتيجة ، وتسميته بعد الموت وصف بالتبعية التي قد كان عليه حاله عند اكتمال التكوين . ولهذا فالجسد كجسد قد لا يدل على الإنسان إلا لخصوصيته النفسية وهي: الروح العاقل والمدرك والمحرك للجسد ابتداء.
وكمعاصر لابن جزم سنجد أبو عمر بن عبد البر النمري، الذي يرى الترادف بين مصطلح النفس والروح وكذلك النسمة ،ويستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : “من أعتق نسمة مؤمنة “، وقوله : “إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر في الجنة “. وقوله صلى الله عليه وسلم : “…إنه قبض أرواحنا، ولو شاء لردها إلينا”. كما استدل بكلام العرب على ذلك بقوله : “وتضع العرب النفس موضع الروح والروح موضع النفس . فيقولون : خرجت نفسه ، وفاضت نفسه ، وخرجت روحه . إما لأنهما شيء واحد أو لأنهما شيئان منفصلان ، لا يقوم أحد دون الآخر…”. وهذا التعبير الأخير قد يشير إلى وجود فرض احتمال التمايز بين المصطلحين على المستوى اللغوي ،رغم أن ابن عبد البر سيذهب إلى اعتبار الروح والنفس والنسمة في اللسان العربي ألفاظا لشيء واحد. وعلى عكس القول بالترادف وطرح الاحتمال حول تمايز اللفظين نجد فقيها آخر أندلسيا يصرح بالتمايز بين المصطلحين فيما نقله عنه ابن حجر العسقلاني بأن “ابن العربي المعافري قال : اختلفوا في الروح والنفس ، فقيل متغايران ، وهو الحق . وقيل هما شيء واحد. قال : وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس ،كما يعبر عن الروح والنفس بالقلب . وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء. بل إلى الجماد مجازا”.
أما تقي الدين بن تيمية ،باعتباره الفقيه ذي التآليف المتضمنة لمواضيع النفس على سبيل التخلل الموضوعي والنقدي والمواقف المذهبية الرافضة للتأويل، فيطرح مصطلح النفس في مقابل أنها: “هي الروح المدبرة لبدن الإنسان …هي من باب ما يقوم بنفسه التي تسمى جوهرا وعينا قائمة بنفسها،ليست هي صفات قائمة بغيرها”. ويرى أن “التعبير عنها بلفظ الجوهر والجسم فيه نزاع ،بعضه اصطلاحي وبعضه معنوي.
فمن عنى بالجوهر القائم بنفسه فهي جوهر، ومن عنى بالجسم ما يشار إليه ، وقال إنه يشار إليها فهي عنده جسم . ومن عنى بالجسم المركب من الجواهر المفردة أو المادة والصورة ، فبعض هؤلاء قال إنها جسم أيضا. ومن عنى بالجوهر المتحيز القابل للقسمة ، فمنهم من يقول إنها جوهر. والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ، ولا من المادة والصورة وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة والمعهودة “..
فابن تيمية هنا يعرف النفس من جهة الحكم العقلي، وتموضعها الوجودي من حيث: هل هي تدخل في حكم الجوهر أو العرض كتحديد لماهيتها؟ وهذا مبحث عقلي صوري لتحديد طبيعة النفس أو الروح حسب الترادف أو عدمه . غير أننا سنجد لدى ابن تيمية تعريفات اصطلاحية لغوية خاصة بالنفس ، كموضوع مستقل عن الكليات التي ينطبق عليها حكم الجوهر والعرض . وفيها يستند إلى اللغة العادية المرتكزة على النص الشرعي، فيذهب إلى أن “لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان . فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه . ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداء الساري في العروق . وهو الذي يسميه الأطباء الروح ، ويسمى الروح الحيواني. فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس، ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه كما يقال : رأيت زيدا نفسه وعينه.” وقال”كتب ربكم على نفسه الرحمة “. وقال تعالى: “ويحذركم الله نفسه “. وفي الحديث الصحيح أنه قال لأم المؤمنين : “لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزن بما قلتيه لوزنتهن : سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه ، سبحان الله رضا نفسه ، سبحان الله مداد كلماته “. وفى الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم”…
فهذه المواضيع المراد فيها بلفظ النفس- عند جمهور العلماء-الله نفسه، التي هي ذاته المتصفة بصفاته ليس المراد بها ذاتا منفكة عن الصفات ، ولا المراد بها صفة للذات . وطائفة من الناس يجعلونها من الصفات كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات . وكلا القولين خطأ”.
ثانيا :هوية الإنسان والتوزيع الاصطلاحي
فالتعريف الأخير الذي ذهب بمفهوم النفس هو نفس الشيء ذاته ،أي العينية، قد جاء هنا غير ضابط لا لمعنى النفس بمفهومها الوظيفي والغريزي، ولا لمعنى الروح بحقيقتها الجوهرية . لأن مفهوم نفس الشيء: ذاته ، قد يمكن أن يشتمل الروح والنفس والجسد معا، وفي هذا عدم تخصيص. ولهذا فقد يبقى وضع مصطلح النفس كخصوصية غير وارد في هذه الحالة وليس له بعد علمي ومعرفي، وإنما هو سياق لغوي مجازي في أغلب حالاته .
وقد نجد هذا الاستعمال بكثرة في كتب التفسير أي تفسير القرآن والحديث معا ،فالنفس على رأي ابن تيمية، حسب التعريف اللغوي، هي الذات المنعوتة بالصفات ، والصفات فيها الظاهرية والباطنية ، أو بمعنى آخر أن النفس قد تشمل الروح والجسد معا. فهذا تعريف الإنسان وليس النفس .
وهنا قد تطرح مسألة أخرى اصطلاحية ، وهي هل النفس تعني الإنسان كمرادف أو شطره الروحي أو الجسدي، بصورته الجوهرية أو العرضية ؟.
وهذه المسألة ستجعلنا نعيد إلى الذاكرة تعريف ابن حزم للإنسان الذي يشمل: النفس والجسد، أو النفس تارة والجسد تارة أخرى. فيرى أن الفارق بين المفهومين ،وإن كان كلاهما يؤخذ به،قد يكمن في أن الإنسانية يمكن أن تكون كلية، لغويا وموضوعيا. بحيث يمكن القول بأن كل إنسان فهو روح أو نفس أو جسد . بينما النفس لا يمكن أن تكون كلية إلا إذا كانت لا تعني سوى الوضع اللغوي وهي :كل نفس ، فهي الإنسان بروحه وجسده، ولكنها لا يمكن أن تنطبق معرفيا، لأن النفس لا تشمل الجسد من حيث خصوصيتها وإن كانت لها به ارتباط موضوعي.
ولا أريد أن أستطرد كثيرا في التعريفات الواردة من طرف البحاث المسلمين حول مصطلح النفس ،إذ ما سبق وعرضناه قد يشمل أغلب الآراء الواردة في الموضوع عند جل المفكرين المسلمين للدلالة على هذا المعنى. لكن ،قد يجدر بنا كتلخيص للتعريفات السابقة وغيرها مما لم نذكرها هنا هو ما لخصه و أجمله ابن قيم الجوزية الفقيه في كتابه “الروح “،الذي خصصه اسما وموضوعا للبحث النفسي والروحي. بحيث سيعتبر مرجعا مهما في موضوع النفس ،نظرا لما تضمنه من مختلف الآراء والأفكار التي طرحها المفكرون المسلمون السابقون في هذا المجال .