“معرفة النفس في التجربة الصوفية وتصحيح المغالطات الفلسفية”
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة،المغرب
أولا : معرفة النفس وإماتة الشهوات بالمفهوم الصوفي
مما قد يتخذ ذريعة ومدخلا لنقد الفكر العلمي عند الصوفية هو ما لخصه ابن رشد الحفيد في كتاب ” الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ” وهو بصدد الاعتراض على منهجهم في التحصيل بدعوى عدم سلوكهم مسلك الأقيسة النظرية وما إلى ذلك، وهذا حينما قال:”نعم لسنا ننكر أن تكون إماته الشهوات شرطا في صحة النظر مثلما تكون الصحة شرطا في ذلك لأن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها وإن كانت شرطا فيها كما أن الصحة شرط في التعليم “.
فإماتة الشهوات كشرط لصحة النظر فيما طرحه ابن رشد لا يمكن فهمه على أنه إلغاء للوظائف الغرائزية ،وإنما الهدف هو في الحقيقة “صرف التشويش الغضبي أو الشهوي أو الأهوائي عن المرآة النفسية عند التلقي المعرفي”. أما قتل الشهوات ،بمعنى إلغائها كليا ، فهذا ما لم يقل به الصوفية،خاصة وأنهم المتخصصون في المجال النفسي ويعرفونه جيدا بحكم تجربتهم الميدانية والدقيقة المتواصلة- كما سنرى- آثار هذا القمع الكلي الملغي للوظيفة الغريزية والذي من أهم مظاهره :الإخلال بالتوازن النفسي الذي هو عين ما يصبو إليه الصوفية من مجاهدة النفس حتى يصفو لهم الجو للتحصيل المعرفي الأسمى.
وكرد حاسم في هذا الموضوع ومبين لحدود معرفة النفس من حيث اعتبار مصطلح إماتة الشهوات بالمفهوم الصوفي نجد الغزالي يقول في الموضوع بأنه “ليس الأمر كما ظنه فريق من لزوم قمع الغضب بالكلية وإماطته بالكلية وقلع الشهوة وإماطتها بالكلية،بل الواجب ضبطها وتأديبها “.
فمعرفة النفس عند الصوفية إذن، هي الوصول إلى هذا الحد، ألا وهو تملك النفس بالضبط والتحكم.
وطبعا فإن المضبوط قد يكون محل المعرفة وتحت الإحاطة العلمية لأنه لا يضبط المجهول أو الغائب عن الأنظار والتصور والشعور. وهذا الضبط به قد تحصل الاستقامة وتصلح معه الطبائع، مما يسهل معه بعد ذلك امتلاك الأخلاق وإصلاحها كما يقول الكلاباذي في التعرف: “فأول ما لزمه – أي السالك طريق الله – علم آفات النفس ومعرفتها ورياضتها وتهذيب أخلاقها ومكائد العدو وفتنة الدنيا وسبيل الاحتراز منها،وهذا العلم علم الحكمة .
فإذا استقامت النفس على الواجب وصلحت طباعها وتأدبت بآداب الله عز وجل من زم جوارحها وحفظ أطرافها وجمع حواسها سهل عليها إصلاح أخلاقها وتطهير الظاهر منها والفراغ مما لهاوعزوفها عن الدنيا وإعراضها عنها، فعند ذلك يمكن العبد مراقبة الخواطر وتطهير السرائر وهذا علم المعرفة .
ثم وراء هذا علوم الخواطر وعلوم المشاهدات والمكاشفات ،وهي التي تختص بعلم الإشارة ، وهو العلم الذي تفردت به الصوفية بعد جمعها سائر العلوم التي وصفناها.
وإنما قيل علم الإشارة لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات والمواجيد ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال وحل تلك المقامات “.
وهذا التقسيم مهم جدا لأنه يعطي صورة موضوعية للترقي المعرفي وتدرجه في المجال النفسي عند الصوفية،وذلك ابتداء من علم الحكمة الذي هو الأصل والبداية في معرفة النفس من حيث ضبط نوازعها والعلم بآفاتها. وهي المجاهدة المؤدية للمشاهدة، والتي قد تمثل المراقبة الأولية للنفس.
لأنه بهذه الوسيلة فقد تصبح النفس عند مستعملها كأنها خارج ذاته، يرى عيوبها وآفاتها بدون أن تكون مؤثرة في سلوكه من حيث لا يشعر.ثم بعد ذلك يأتي طور التوجيه والصرف أو العلاج والإصلاح .
وهذا لا يتم إلا بالتدقيق المعرفي في مصادر الخطاب أو الحديث النفسي الذي يعبر عنه بالخواطر، وهو أيضا قد لا يتم إلا إذا كان للإنسان تهيؤ معرفي كبير يمكنه أن يميز به بين الخاطر الذي هو إلهام وبين الخاطر الذي هو وسوسة نفس أو شياطين …
ولهذا فلقد سمي هذا الفرع من معرفة النفس بعلم المعرفة، ثم بعد ذلك يأتي دور التفرد بفهم الخطاب الإلهامي وتوجيهاته الذي هو كله حق ويقين، وهو ما يصطلح عليه بعلوم المكاشفات والمشاهدات والمسمى جملة بعلم الإشارة ، وهو أقصى درجات معرفة النفس والتي من خلالها وبحسب مستوى عمقها قد يتوصل إلى معرفة الله تعالى بالمفهوم الصوفي، لأنها قلبية وذوقية تتميز بالأحوال والمواجيد والشعور.
ثانيا: معرفة النفس والبناء على الظواهر والأقيسة
فالتمييز بين أحوال النفس هو الأساس في معرفتها. ومعرفتها ينبغي أن تتأسس على دلالات وظواهر قد تكون مرشدة فيها ،لأن الأشياء كما يقول المحاسبي :”تعرف بالدلالات والعلامات والأمثال. وسأضرب لك في ذلك مثلا يكون علما سألت عنه: إن مثل الناس في جملتهم وفي تفرقهم بعد المعرفة بهم والخبرة لهم وتفاوتهم وتفاضلهم مثل سفط موضوع في طريق فيه قوارير مملوءة موكاة الرؤوس بمرية الناس لا يدرون ما فيه فعرض له من الناس عارض من المارة . فقال لأكشفن عن هذا السفط فلأنظرن ما فيه. فكشف عنه فرأى قوارير مملوءة لا يدري ما فيها فحل أوكيتهن كلهن، فبدا له من هذه رائحة المسك ومن هذه رائحة العنبر ومن هذه رائحة البان ومن هذه رائحة الخلوف ومن هذه رائحة الغالية ومن هذه رائحة الياسمين ،ومن هذه رائحة النفط ومن هذه رائحة القطران ولا طاقة له بالقيام عندها من شدة نتن ريحها.
فالناس في جملتهم مثل السفط و القوارير وهم في معرفتهم والبحث عن أخلاقهم متفرقون على قدر القوارير. ومثل السفط أيضا في جملته مثلك أنت وحدك، والقوارير أخلاقك وآدابك، وريحها الطيب خير أخلاقك وآدابك الحسنة المرغوب فيها،والرائحة المنتنة شر أخلاقك وآدابك السيئة .
ولا تعرف النفس حتى تمتحن وتختبر. فاختبر نفسك حتى تعلم ما فيها،وإن أردت ذلك فعاملها بالموافقة لها والمفاتشة لهمتها في وقت الهمة وأحد إليها النظر حتى تعرف حلمك في الوقت الذي عرض لك فيه سفيه فسفه عليك ليس في الوقت الذي وافق هواك “.
والامتحان والمفاتشة كلها عناصر منهجية تمكن من معرفة النفس كأساس للمعارف كلها مما هو فوق طور المدركات الحسية المحصنة . يقول الغزالي كربط موضوعي بالنصوص التي سبق وعرضناها عن قريب بأنه لا يمكنك معرفة ما تطلبه “إلا بأن تعرف أولا نفسك وقواها وخواصها. فكيف يشتغل بمخالطة زيد من لا يعرف زيدا؟ والمجاهدة معالجة للنفس بتزكيتها فتفضي إلى الفلاح كما قال الله تعالى “قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها “.
ثم يقول على نفس القاعدة التي سبق ذكرها وهي “من جهل نفسه فهو بغيره أجهل “ولكن في صيغة ومثال حسي ملموس وهو “من لم يعرف الثوب لا يتصور منه إزالة وسخه “. و هي نفس الغاية والإمكان المعرفي الذي تضمنه نص الحارث بن أسد المحاسبي. وهذا النوع من المعرفة يتأسس على الضبط النفسي والتحكم في النوازع الغريزية والأهواء.
ولهذا فلما كان ملاك الأمر “معرفة النفس عظم الله أمره ونسبه إلى نفسه تخصيصا وإكراما فقال تعالى :” إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي”.
فنبه على أن الإنسان مخلوق من جسم مدرك بالبصر ونفس مدركة بالعقل والبصيرة لا بالحواس . وأضاف جسده إلى الطين وروحه إلى نفسه وأراد بالروح ما نعنيه بالنفس منبها لأرباب البصائر أن النفس الإنسانية من الأمور الإلهية وأنها أصل وأرفع من الأجسام الخسيسة الأرضية . ولذلك قال تعالى :”ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي”…
فالغزالي هنا يطرح موضوعا مشكلا ،سواء بين الصوفية أو بين الفقهاء والمتكلمين، وذلك فيما يتعلق بحدود الإمكان في معرفة النفس . إذ أنه حسب عدة نصوص فقد يدعو إلى معرفة حقيقة الجوهر الإنساني وهو الروح، سبق وبينا أنه يضعها في ترادف مع مصطلح النفس، فيقول في هذا الاتجاه: “لعلك تشتهي أن تعرف حقيقة الموت وماهيته ولن تعرف ذلك ما لم تعرف حقيقة الحياة،ولن تعرف حقيقة الحياة ما لم تعرف حقيقة الروح ،وهي نفسك وحقيقتك وهي أخفى الأشياء عنك. ولا تطمع في أن تعرف ربك قبل أن تعرف نفسك، وأعني بنفسك روحك التي هي خاصية الأمر المضافة إلى الله تعالى في قوله :”قل الروح من أمر ربي” وفي وقوله “ونفخت فيه من روحي” دون الروح الجسماني الذي هو حامل قوة الحس والحركة التي تنبعث من القلب وتنتشر في جملة البدن …”.
وعن هذا البعد الشمولي في معرفة النفس فقد يطرح المعنيين الذين يريد بهما مصطلح النفس على حد سواء، من حيث الإمكان المعرفي، لكن على صورة تفاوت بحسب الاستعداد والهمم. فيقول :” إذا شئت أن تعرف نفسك فاعلم أنك من شيئين : الأول هذا القلب والثاني يسمى النفس والروح والنفس هو القلب الذي تعرفه بعين الباطن . وحقيقتك الباطن، لأن الجسد أول وهو الآخر والنفس آخر وهو الأول ، ويسمى قلبا ، وليس القلب هذه القطعة اللحمية التي في الصور من الجانب الأيسر لأنه يكون في الدواب والموتى، وكل شيء تبصره بعين الظاهر فهو من هذا العالم الذي يسمى عالم الشهادة وأما حقيقة القلب فليس من هذا العالم لكنه من عالم الغيب، فهو في هذا العالم غريب. وتلك القطعة اللحمية مركبة وكل أعضاء الجسد عساكره وهو الملك ، ومعرفة الله ومشاهدة جمال الحضرة صفاته، والتكليف عليه والخطاب معه وله الثواب وعليه العقاب والسعادة والشقاء تلحقانه، والروح الحيواني في كل شيء تبعه ومعه، ومعرفة حقيقته ومعرفة صفاته مفتاح معرفة الله سبحانه وتعالى.
فعليك بالمجاهدة حتى تعرفه لأنه جوهر عزيز من جنس جوهر الملائكة وأصل معدنه من الحضرة الإلهية من ذلك المكان وإلى ذلك المكان يعود.
أما سؤالك ما حقيقة القلب ؟ فلم يجئ في الشريعة أكثر من قول الله تعالى :”ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي” لأن الروح جزء من جملة القدرة الإلهية وهو من عالم الأمر من جانب …”
ثالثا: النفس البشرية وإشكالية معرفة جوهر الروح
فمعرفة جوهر النفس خصوصية وذات تعقيد كبير لا يمكن وصفه بالعبارات، لهذا فإدراك الروح من حيث سرها الوجودي”صعبة جدا لأنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته لأنه لا حاجة في الدين إلى معرفته ،لأن الدين المجاهدة،والمعرفة علامة للهداية كما قال سبحانه وتعالى : “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ” ومن لم يجتهد حق اجتهاده لم يجز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح .وأول أسس المجاهدة أن تعرف عسكر القلب، لأن الإنسان إذا لم يعرف العسكر لم يصح له الجهاد.
فالغزالي لم يقل باستحالة معرفة حقيقة الروح وإنما قال بصعوبتها وذلك بفتح المجال لأهل التخصص،لأنه كما رأينا في النصوص الأخرى قد ينحو إلى القول بإمكان معرفة حقيقة الجوهر الإنساني الذي هو شرط في معرفة الله تعالى، بيد أنه قد يذهب إلى تفسير النص القرآني الدال على صعوبة معرفة الروح تفسيرا دقيقا، فيصوغه بأنه “ربما اعتقد من لا تحقيق لديه أن الشرع يزجر عن التعرض لهذا القدر في تصحيح أو إبطال – يعني الحديث عن القوى النفسية وأحوال القلب وعساكره وما إلى ذلك وليس في الشرع دليل يدل على ذلك .
وقوله سبحانه :”قل الروح من أمر ربي”. جواب مقنع إذا فهم الأمر بما هو عليه ،ولو أراد الله تعالى الزجر لذكر الحكم عليه. وإذا كانت معرفة النفس بمعنى الروح شيء صعب جدا،وأصعب منه التعبير عنه لغة ووصفا، فإن الطريق إلى هذه المعرفة ليس سوى من الجهة العملية بالدرجة الأولى لأنه أوكد في الإمكان وأوصل إلى العرفان . والعلم العملي ثلاثة علوم :
– علم النفس بصفاتها وأخلاقها وهو الرياضة ومجاهدة الهوى
– وعلمها بكيفية المعيشة مع الأهل والولد والخدم والعبيد. فإنهم خدمك أيضا كأطرافك وأبعاضك وقواك ،وكما لابد من سياسة قوى بدنك من الشهوة والغضب وغيرهما فلابد من سياسة هؤلاء.
– علم سياسة أهل البلد والناحية وضبطهم.ولأجله يراد علم الفقه في الأكثر إلا ما يتعلق بربع العبادات من جملة العبادات الخاصة بالنفس،ومنه آداب القضاء ولا يتم إلا بمعرفة ربع النكاح والبيع والخراج .
وأهم هذه الثلاثة: تهذيب النفس وسياسة البدن ورعاية العدل من هذه الصفات،حتى إذا اعتدلت تعدت عدالتها إلى الرعية البعيدة من الأهل والولد ثم على أهل البلد … فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وما سواه يجري منه مجرى الزكاة من النصاب والضوء من الشمس والظل من الشجر،وكيف يتوقع استقامة الظل على اعوجاج ذي الظل؟ فإذا لم يقدر الإنسان على سياسة نفسه وضبطها فكيف يقدر على سياسة غيره فهذه مجامع العلوم العملية ومجامع القوى التي لابد من تهذيبها ثلاث : قوة التفكر وقوة الشهوة وقوة الغضب”.
فمن خلال هذه النصوص حول معرفة النفس من حيث إمكانها أو صعوبتها يتضح أن منهجه في المعرفة قد يأخذ بعدين : البعد الأول هو بمثابة المعرفة الأولية التي بها يتم للإنسان الخلوص إلى ذاته وتحصيل حضورها والشعور بها،وهو ما اصطلح عليه بعلم النفس بصفاتها وأحوالها. وهذا العلم قد يدخل من جهة في إطار الاستكشاف الميداني والتجريبي ومن جهة أخرى يمكن أن يصاغ على شكل دراسة نظرية وتدوين تعبيري ولغوي.
ولهذا فقد خصص له الغزالي كتاب الإحياء الذي يشتمل على أربعين كتابا باعتبار مواضيعه وأن كل” كتاب يرشد الطالب للمعرفة إلى عقبة من عقبات النفس وأنها كيف تقطع ،وإلى حجاب من حجبها وأنه كيف يرفع . وهذا العلم فوق علم الفقه والكلام وما قبله، لأنه علم طريق السلوك . وذلك علم آلة السلوك وإصلاح منافعه ودفع مفسداته كما يظهر. والعلم الأعلى الأشرف علم معرفة الله تعالى، فإن سائر العلوم تراد له وهو لا يراد لغيره”.
وهذه العقبات وقطعها قد لا تتم إلا بالمجاهدة والرياضة المقصود منها بالأعمال الصالحة “تكميل النفس وتزكيتها وتصنيفها لتهذيب الأخلاق .” لكن مع ذلك فإن العلاقة بين النفس وبين قواها قد تضيق العبارة عن تعريفها في بعض الأحيان على “وجه يتشكل في خزانة التخيل لأن هذه العلاقة ليست محسوسة بل معقولة ، ولكن كل واحد من النفس والبدن متأثر بسبب صاحبه. فإن النفس إن كملت وكانت زاكية حسنت أفعال البدن وكانت جملة وكذا البدن إن جملت أثاره حدث منها في النفس هيئات حسنة وأخلاق مرضية “ومن هذا الوجه يمكن دراسة النفس وتدوين قواعدها. كقوانين وثوابت معرفية تتأسس عليها.
أما البعد الثاني فهو معرفة النفس في حد ذاتها وإدراك حقيقة جوهرها،الذي ليس ممنوعا ولا مستحيلا مادامت نفس الإنسان هي ذاته ، وأولى الإدراكات على مستوى الماهية أن تكون من الذات للذات. وهذا المستوى هو ما يسمى بعلم المكاشفة ،أي كشف الحجب عن النفس الإنسانية على مرآة التجريد والصفاء الذاتي، كما يصبو إليه الصوفية في مجاهداتهم. وعند هذا الكشف فقد تصبح النفس خالصة من أية شوائب تحول بينها وبين معرفتها بنفسها، ومن معرفتها بنفسها إلى معرفتها بربها.
ولهذا فمن “كان من أهل العناية بنفسه ورزق فهم التجربة بلغ معرفة الخير والشر وعرف من أين وكيف، وعبر ووصف وفهم وفطن، ونطق بالحكمة وكان ما يسمع من الموعظة زيادة له في فهمه ومعرفته ووصفه ودقائق فطنته وسر حاجته . ومن كان من أهل العناية ولم يرزق فهم التجربة عرف من معرفة الخير والشر على قدر عنايته ووصف عن صفتها وعبارتها ومن أين وكيف وضعف عن النطق بالحكمة،وكانت الموعظة زيادة له في معرفة خيره وشره ومن لم يرزق الفهم وليست له عناية فهو لا ينطق بلسانه عند الكلام،ولا يعقل بقلبه عند السماع”.