أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

“معرفة النفس بواسطة الشعور الذاتي المتلازم”

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر الإسلامي والعقيدة

أولا:معرفة النفس بواسطة الشعور بذاتها

إن معرفة النفس عند الرازي وغيره من المتكلمين وكذا الفلاسفة وبعض الفقهاء في وضعها المباشر قد تأخذ معنى الشعور بالنفس لا غير،وهو الشعور بالذات أو الإنّية على نحو ما ذهب إليه ابن سينا وغيره ممن ركزوا على هذا المعنى الذي أصبح يمثل برهانا مهما في إثبات الجوهر النفسي، كما سنعرض له بتفصيل. وهذا الشعور هو المعرفة الذاتية بالذات. وبه فقد يتم الحكم على الأشياء كما يقول “إن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والرؤية في استخراج مسألة معضلة فقد يقول في نفسه:إني حكمت بكذا أو اعترفت بكذا. فهو حال ما يقول في نفسه: إني عقلت كذا وحكمت بكذا لابد وأن يكون عارفا بنفسه، إذ لو لم يعرف نفسه لامتنع منه أن يحكم على نفسه بأنه حكم بكذا أو عرف كذا، ثم إنا نعلم بالضرورة أنه في تلك الحالة قد يكون غافلا عن معنى الشكل والوضع والحيز والمقدار فضلا عن أن يعلم كون ذاته في حيز وموصوفه شكل ومقدار. فيثبت أن العلم بالشيء الموجود في الأعيان قد يحصل عند العلم أو بشكله أو مقداره. وذلك يفيد القطع بأن الشيء المجرد عن هذه الأشياء أن يكون معقولا”.
وهذا المفهوم لمعرفة النفس ،الذي قد يعني إدراك الذات والشعور بها عند حكمها على الأشياء ،سيزيد من تأكيد نفسية المعرفة التي يتشبث بها أغلب المفكرين المسلمين،ولكن هذا لا يكفي لأن يعطي مفهوم معرفة النفس معنى إدراك حقيقتها أو أحوالها وصفاتها. وإنما هو إدراك أولي نتيجة شعور كل حي مدرك لذاته ولمحيطه،لا لأنه عارف بنفسه ،ماهية وحقيقة أو صفات وغرائز وما إلى ذلك من علم العلل والمكاشفة والمشاهدة ،مما سبق وعرضناه عند الحديث عن الصوفية أو عند المتكلمين والفقهاء وغيرهم.
إذ أن جهل النفس بذاتها هو حجاب البحث المعرفي برمته ،وإزاحته هو مفتاح معرفة الله . وما دون معرفة النفس فإنه قد يسهل عليها إدراكه بل تدبيره وتسخيره كما يقول ابن حزم الأندلسي في إحدى رسائله “فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها “:” أطلت الفكر في نفسي بعد تيقني أنها المدبرة للجسد الحساسة الحية العاقلة المميزة العالمة وأن الجسد هوان لا حياة له ولا جماد ولا حركة فيه إلا أن تحركه النفس . وبعد إيقاني أنها صاحبة هذه الفكرة والمحركة للساني بما يريد إخراجه مما استقر عندها، فقالت مخاطبة لنفسها باحثة عن حقيقة أمرها: يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد ألست التي قد عرفت صفات جسدك الذي واليت تدبيره وحققتها وضبطتها ؟ قالت بلى!. قلت: يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد ألست التي تجاوزت جسدك المضاف تدبيره إليك. فخلص فهمك وبحثك إلى سائر ما يليك من الأرض والماء والهواء وسائر الأجرام ثم إلى ما لم يلك من الأجرام ، فميزت أجناس كل ذلك وأنواعه وأشخاصه وحققت أجناس كل ذلك وأنواعه وأشخاصه،وحققت صفات كل ذلك وأنواعه وأشخاصه وحققت صفات كل ذلك الذاتية والغيرية وفرقت بين كل ذلك بالفروق الصحيحة ثم تخطيت كل ذلك إلى الأفلاك البعيدة وفيها من الأجرام على حقيقة مدارها وضبطت كل ذلك (النيرة ). فعرفت كيفية أدوارها ووقفت وأشرفت عليه وسرحت هنالك وأوغلت في تلك الطرق والمسالك وخضت إليه الأنوار والظلم واقتحمت نحوه الأبعاد حتى أتيته من أمم ولم يخف ما بعد وغمض ؟ “.
وهذه الملاحظة النفسية عند ابن حزم من حيث اعتبار الإمكان المعرفي وعدمه في مجال النفس قد تتطابق مع رأي الصوفية في موقفهم من النفس وتركيزهم على الجانب العملي لتقوية الإرادة والنظر في النفس لا إلى النفس، والفرق بين الرؤيتين واضح. لأن النظر في النفس قد يعني التعمق ومزاولة البحث بكل معانيه أما النظر إلى النفس فهو مجرد استعراض سطحي لأحوالها دون الوقوف على خلفياتها وأسرارها قصد ضبطها والتحكم فيها،وهذا ما يمكن فهمه من قول الله تعالى “وفي أنفسكم أفلا تبصرون “. وفيه الدعوة إلى أن نبصر في أنفسنا ونتلمس الأدلة من أقرب الأشياء إلينا من أنفسنا”.
وكأبرز نقط التطابق بين نص ابن حزم وموقفه من الإمكان المعرفي في هذا المجال ورأي الصوفية نجد هذا التحليل لنفسية المعرفة عند الغزالي الذي نقله بدوره عن المحققين منهم ، والمتمثل في تحقيق الانصراف الإرادي نحو الموضوع الذاتي حتى يمكن استكشاف أسرار النفس وقواعدها، فيقول كمبدأ للتحصيل المعرفي وإمكانه أنها “إذا أكبت على المحسوس من غير أن يكون أصاب آلة التعقل أو ذاتها آفة بوجه …والسبب في ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل. فلهذا السبب ما يتعطل أفعال العقل عند المرض. وليس اختلاف جهتي فعل النفس فقط يوجب في أفعاله التمانع ، بل تكثير أفعال جهة واحدة قد يوجب هذا بعينه. فإن الخوف يغفل عن الوجع والشهوة تصد عن الغضب والغضبيصرف عن الخوف، والسبب في جميع ذلك واحد: وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد”.
ثانيا: معرفة النفس وقوتها في صدق الإرادة
وكإجابة عن تساؤلات ابن حزم حول سر معرفة النفس بغيرها وجهلها بنفسها سيطرح الغزالي مبدأ نفسيا وقاعدة عملية وهي”لو صح منك الهوى أرشدت للحيل”. ويفسر هذه القاعدة بالاستقراء والموضوعية لتحصيل النفس للمعارف خارج ذاتها واستصعابها معرفة أحوالها وصفاتها على الوجه الذي يعتبره الصوفية ميدانا للمعرفة وإمكانها، مرتكزا بالدرجة الأولى على الإرادة النفسية، وذلك “أن الإنسان إذا فترت همته في شيء أظهر اليأس منه واستعظم الأمر واستوعر الطريق . وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل واستنبط بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول إلى الغرض” .
وكنموذج موضوعي يوضح هذه القاعدة ميدانيا نجد أن”الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحار استخرجه وإذا أراد أن يستخرج الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه وإذا أراد أن يقتنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري اقتنصها وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات استسخرها.وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الترياق من أجوافها. وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقوش من ورق التوت اتخذه. وإذا أراد أن يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخرج بدقيق الهندسة ذلك وهو مستقر على الأرض وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات. فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد، وسخر البازي لاقتناص الطير، وهيأ الشبكة لاصطياد السمك، إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي.
كل ذلك لأن همه أمر دنياه وذلك معين له على آخرته فليس عليه إلا شغل واحد: وهو تقويم قلبه.وتخاذل وقال: هذا محال ومن الذي يقدر عليه؟ وليس ذلك بمحال لو أصبح و همه هذا الحكم الواحد. بل هو كما يقال: لو صح منك الهوى أرشدت للحيل”.
2) فمعرفة النفس من خلال هذا الموقف قد تعتمد ابتداء على الإرادة وهي مسألة نفسية بالدرجة الأولى. ومن هنا فيكون الإمكان المعرفي يعتمد على الإرادة الذاتية،وهي الشرط الرئيسي في التوصل إلى نتائج معرفية خاصة بالنفس . وهذا هو عين مذهب الصوفية في هذا المجال -كما عبر عنه الغزالي في النص السابق-والذي قد أوردته بجانب رأي ابن حزم على سبيل الإجابة عن تساؤلاته التي يطرح فيها ميله إلى صعوبة معرفة النفس من دون أن يحدد تعليلا لذلك عمليا. فكان جواب الغزالي مكملا لتلك التساؤلات ومحددا للخلفيات التي تحول دون التحصيل المعرفي الخاص بالنفس وهي خلفيات ذاتية ابتداء.
وعلى كل حال، فالمواقف من معرفة النفس من حيث إمكانها وعدمه قد تعرف صورا مختلفة:منها ذات الاعتماد التفسيري للنصوص الشرعية،ومنها ذات الاستناد العقلي المحض ،ومنها ذات الارتكاز السلوكي والتوجه النفسي نحو الموضوع.
إذ كل ذي استناد سيبرر موقفه بحسب معطيات مستنده وهو: إما القول بالإمكان أو عدمه أو صعوبته.ولقد أجمل ابن تيمية هذه المواقف إجمالا نسبيا حول الإمكانات المختلفة وذلك عند الإجابة عن قول السائل عن النفس:”هل كيفية تعلم ؟ ” فقال بأن”هذا السؤال مجمل:إن أراد أنه يعلم ما يعلم من صفاتها وأحوالها فهذا مما يعلم. وإن أراد أنها هل لها مثل من جنس ما يشهده من الأجسام أو هل لها من جنس العناصر: الماء والهواء والنار والتراب ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعد ولا من جنس الأفلاك والكواكب فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود. ولهذا يقال :أنه لا يعلم كيفيتها ويقال أنه “من عرف نفسه عرف ربه” من جهة الاعتبار ومن جهة المقابلة ومن جهة الامتناع .
فأما “الاعتبار” فإنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير.فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليها لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء … لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب “.
وابن تيمية هنا يستعمل قياس الغائب على الشاهد، وهو الإنسان وواقعه النفسي على مستوى الإيجاب، مما يجعله بهذا الاستنتاج بأن يعتقد في صفات الله تعالى الكمال من خلال النظر في صفات النفس من جانبها المحمود. وبهذا فستكون معرفة النفس مؤدية إلى معرفة الله تعالى على هذا القياس . وهو ما يمكن الاصطلاح عليه عند الأصوليين بقياس الأولى. أي إذا كان الشخص له هذه الصفات الايجابية فالله سبحانه وتعالى أولى أن بأن تكون له صفات الكمال وأجل،لأن الإنسان الذي هو مخلوق لم يكتسب صفاته إلا بفضل خالقه سبحانه وتعالى.
ويقول ابن تيمية فيما يخص”جهة المقابلة : فيقال ، من عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية،ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم ،ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز، وهكذا أمثال ذلك لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم. وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم. وأما الرب تعالى فله صفات الكمال وهي من لوازم ذاته يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلا أبدا،ويمتنع عدمها لأنه واجب الوجود أزلا وأبدا وصفات كماله من لوازم ذاته. ويمتنع ارتفاع اللازم إلا بارتفاع الملزوم. فلا يعد شيء من صفات كماله إلا بعد ذاته. وذاته يمتنع عليها العدم فيمتنع على شيء من صفات كماله العدم”.
وهذا الإمكان المعرفي من هذا الطريق سوف لا يأخذ في الاعتبار سوى الجانب السلبي من صفات الإنسان وتبينها بالقياس إلى كمال الله تعالى. وهذه المقابلة القياسية قد تتطابق مع ما أوردناه عن الرازي في الموضوع. وفيها مدعاة إلى النظر في النفس من جانبها المعلول أو المذموم واستكشافها لسلب كل صفات النقص عن الله تعالى من خلال التوصل إلى ما في النفس من النقائص التي يتنزه الله تعالى عن أن يوصف بها.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock