استمراء العيش في الأوهام
محمد إنفي
.
العيش في الأوهام أو في أحلام اليقظة، هو كذب على النفس وذلك بإشباع رغباتها عن طريق التخيل والأحلام. ويتم اللجوء إلى هذه الوسيلة حين يفشل المرء في إشباع هذه الرغبات في الواقع بدل الخبال. وبمعنى آخر، فالفاشل يمني النفس إما بأشياء غير قابلة للتحقق وإما بأشياء ليست مستحيلة التحقق، لكنه لا يتخذ الأسباب المناسبة لتحقيقها ولا يقوم بأي مجهود فكري أو عملي يوصله إلى المبتغى، فيظل حيث هو فكريا، نفسيا واجتماعيا؛ ذلك أن المستمرئ للعيش في الأوهام، هو إنسان غير سوي نفسا وعقليا.
والأوهام (جمع وهم) تعني، في علم النفس (عذرا على هذا التطفل على مجال المتخصصين)، الاضطراب؛ وهذا الاضطراب قد يكون نفسيا وقد يكون عقليا؛ وهو يصيب الفرد كما قد يصيب الجماعة. ومن بين أعراضه الشعور بالعظمة (جنون أو أوهام العظمة) أو الإحساس بالقوة (وهْم إدراك الذات على أنها قوية بشكل غير عادي) أو، بالعكس، الإحساس بالاضطهاد كأن يعتقد المرء بأنه ضحية سوء معاملة أو يتم التجسس عليه، أو يُتآمر عليه أو تُضمر مشاعر سلبية تجاهه أو غير ذلك.
والمصاب بهذا الاضطراب أو الاختلال لا يدرك بأنه يعيش في الأوهام وبأن أفكاره وتصوراته تتناقض مع الواقع. فهو لا يستطيع أن يميز بين الحقيقة والوهم؛ وبقاء الوهم واستمراره يعتمد على الخلط بينه وبين الواقع. ويقول الدكتور عمر بنعياش، في تدوينة فيسبوكية: “…إذا تمكنت من إدراك الوهم بوصفه وهما، فإنه يتلاشى؛ ذلك أن إدراك الوهم هو نهايته أيضا”. لكن، هل من السهل أن يدرك المدمن على الوهم بأنه واهم؟
لقد أُطلق على هذا الاضطراب اسم “الوُهام”؛ وهو مصطلح علمي يحيل على اضطراب عام في التفكير الذي يتسم باعتقاد خاطئ لكنه ثابت لا يتزعزع حتى لو اعتقد الكل خلاف ذلك أو برزت أدلة دامغة تنفي ذلك الاعتقاد. فالمصاب بـ”الوُهام” يؤمن إيماناً راسخاً بأوهامه ومعتقداته غير العقلانية.
وإذا أردنا أن نأخذ أمثلة تطبيقية على هذا النوع من الاضطراب (أو الاضطرابات)، فلن نجد أفضل من الجزائر الغارقة في الوهم من رأسها إلى أخمص قدميها سواء على المستوى الفردي (الأشخاص) أو على المستوى الجماعي (النظام بكل مكوناته وأبواقه والمُبرْدعين من الشعب المغيب).
هناك ظاهرة فريدة في الجزائر تجمع بين الأفراد (محلل سياسي أو اقتصادي أو رياضي أو إعلامي أو ناشط في وسائل التواصل الاجتماعي أو من الذباب الإليكتروني أو مجرد مُبرْدَع) والجماعات (أحزاب سياسية، منظمات اجتماعية، النظام بكل مكوناته ونخبه)، تتمثل في إطلاق أكاذيب ثم يصدقونها؛ والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى. وهذا دليل على أن مَلَكة التمييز تكاد تكون منعدمة في هذه البلاد. وقد نفسر ذلك بالغباء والعبط الذي تناولناه في مقالات سابقة.
لنأخذ بعض الأمثلة ولنبدأ برأس الهرم. كل ما قلناه في الفقرة الثانية من هذا المقال عن أعراض “الوُهام”، نجده في كلام رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون. فتارة يقدم لنا الجزائر على أنها قوة ضاربة، قوة قاهرة، قوة إقليمية، لها أحسن منظومة صحية في إفريقيا وتتربع، اقتصاديا، على الرتبة الثالثة عالميا، مضيفا أن الدول الكبرى تستشير معها في كل شيء (أوهام العظمة والقوة)، وتارة يبكي علينا بسبب ما تتعرض له بلاده من مؤامرات (الجزائر مستهدفة، يقول تبون) ويقر بأنها مخترقة ويتم التجسس عليها؛ مما يقوي لديه الإحساس بالاضطهاد والشعور بالخوف والضعف، وهو يتحدث عن الأعداء؛ وبالأخص العدو الكلاسيكي؛ أي المغرب.
وما قاله تبون، يمكن أن نسمعه من جزائريين بُسطاء، نجح النظام العسكري في تدجينهم وملء عقولهم بالعداء للمغرب؛ كما يمكن أن نسمعه من محللين سياسيين واقتصاديين وإعلاميين ورياضيين وعيرهم ممن يحسبون على النخبة. إنهم يدورون كلهم في فلك الخرافات والأوهام ويرفضون الاعتراف بالواقع. فإذا حدثت هذا الصنف من الجزائريين عن واقع بلادهم المأساوي، فلن تسلم من السب والشتم وكل أنواع الألفاظ البذيئة ويمطرونك بألفاظ وشعارات جوفاء لا علاقة لها بالواقع مثل نحن أحرار، الجزائر كبيرة عليك، نحن أصحاب النيف، نحون “شواكر” إفريقيا، نحن بلاد الشهداء (البد الوحيد في العالم الذي بتاجر بالشهداء وينفخ في أعدادهم بشكل خرافي)، نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة (لكن الجزائري منوع من الخروج إلى الشارع تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وبلاده لم تتحرج من إمداد إسرائيل بالغاز في عز أزمة غزة أو عقد اتفاقيات بملايين الدولارات بهدف تلميع صورة الجزائر التي أصبحت في الحضيض مع شركات تمول إسرائيل في حربها على الفلسطينيين…).
ونذكر أن الرئيس عبد المجيد تبون سَرَحَ الجزائريين لشهور عديدة بمسألة الدخول إلى مجموعة “البريكس”. وقد سافر إلى روسيا والصين لاستجداء موطئ قدم في هذا التكتل. ونتذكر كيف تذلل لبوتين جاعلا منه حامي استقلال الجزائر وواصفا إياه بصديق العالم (نتذكر ابتسامة بوتين الساخرة من كلام تبون وعبطه وهبله).
خسر تبون كل رهاناته وتبخر حلم “البريكس” لكون الجزائر ليس لها لا وزن ولا هيبة ولا مواقف دولية مشرفة، كما شرح ذلك “لبروف”، وزير خارجية روسيا، في الندوة الصحفية التي أعقبت اجتماع المجموعة المذكورة. وللتخفيف من آثار الصدمة، خرجت أصوات رسمية وغير رسمية تقلل من قيمة ذاك التكتل ومعتبرة أن هذا الأخير هو الخاسر وليس العكس (أنظر مقالنا الساخر بعنوان “مجموعة “بريكس” أهدرت فرصة تاريخية قد تندم عليها”، نشر بموقع “كوالس اليوم”، بتاريخ 27 غشت 2023).
ومنذ ذلك الحين وأبواق النظام والمبردعون من النخب الإعلامية والسياسية والثقافية يهذون ويغرقون في أوهامهم وتهيؤاتهم وهلوساتهم؛ مما يدل على أنهم مصابون بشتى أنواع الاضطراب النفسي والعقلي، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. وقد سبق لي أن وجهت رسالة إلى منظمة الصحة العالمية مطالبا إياها بإنقاذ الجزائر من الحمق الجماعي (أنظر “رسالة مستعجلة موجهة إلى منظمة الصحة العالمية: أنقذوا الجزائر من الحمق الجماعي”، “فاس نيوز”، 9 ماي 2024).
خلاصة القول، يبدو أن لا أمل في أن تدرك الجزائر واقعها بسبب الإدمان على الأوهام. فأن تظل البلاد متمسكة بوهم عمره قرابة نصف قرن دون أن تستفيق من أحلامها وتراجع أوراقها بمنطق الربح والخسارة، لهو منتهى العبط والسفه. ويكفي الاستماع إلى كلمة أحمد عطاف، وزير الخارجية الجزائري، في الدورة 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة لإدراك مدى إفلاس الديبلوماسية الجزائرية ومدى حقارتها ونذالتها.
لكن السيد عمر هلال، سفير المملكة المغربية بالأمم المتحدة، دائما موجود لتجفيف الأرض بهذه الديبلوماسية المتخلفة، الفاشلة، البئيسة التي تعكس المستوى الحقيقي للنظام الجزائري المفلس على كل المستويات، وأبسطها العجز عن توفير أبسط المواد الغذائية الأساسية للمواطنين وتوفير قنينات الغاز في بلاد البترول والغاز. فالجزائريون طبعوا مع الطوابير بسبب الخصاص في كل شيء. ومع ذلك، الزلط والتفرعين…!!!
مكناس في 5 أكتوبر 2024