أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

عندما يرثي شاعر شاعرا الشاعر محمد ماني يرثي الشاعر عبد السلام بوحجر

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

الجزء الثاني-
أحمد الجبلي
تحدثنا في الجزء الأول عن الحالة النفسية التي اعترت الشاعر محمد ماني حين وصله خبر وفاة صديقه شاعر ‘الجماليات العليا” عبد السلام بوحجر، حيث دخل في حالة من الذهول والإنكار وعدم الصبر، عدم الصبر ذاك الذي يمارسه عن قناعة ليعطي لنفسه الحق في البكاء، وبالتالي فليحزن من شاء أن يحزن، وليبكي من شاء أن يبكي، وحينها لا أحد سيلوم شاعرنا إن أزاح عن صدره بعض ما يجد ويكابد ببكاء صاحب ديوان “إيقاع عربي خارج الموت، فعلى مثل عبد السلام فلتبكي البواكي.
إن شاعرنا لم يأمر بالصبر ولم يدعو له، وكأني به يرأف بحال الآخرين لكونها شبيهة بحاله، ولعله يجد بعض الأنس حين يشاركه باقي المحبين بكاء صاحب ديوان “الغناء على مقام الهاء”.
إن ما مضى من القصيدة، لحد الآن، خصه الشاعر بلحظة الصدمة وما يترتب عنها من ألم وحزن وغفلة، ليبدأ الجزء الثاني بخطاب مخالف تماما لما سبق، فهنا الشاعر في كامل وعيه بعدما ناح وبكى وتساءل وأنكر واستنكر، ليبدأ مرحلة، ليست بالطويلة، هي مرحلة إلقاء اللوم والعتاب، فتارة يعاتب الزمان متهما إياه بالغدر، وكأن الزمان شخص ما قد استودعه صديقَه واستأمنه عليه فخان العهد وضيع الأمانة. ولا نظن أن شاعرنا قد ذكر الزمان مجازا دالا على صاحب الزمان “خالق الموت والحياة”، أي نبرئه من هذا، أي: نسبة فعل الموت إلى الزمان.
وتارة يوجه اللوم لصديقه : أغدرا يا زمان ويا صديقي، وكأني بهما قد شكلا حلفا ثنائيا واتفقا على ألا يفترقا، كما اتفقا على أن يعتني بعضهما ببعض إلى أن يكون المصير واحدا مشتركا، فإما أن نعيش معا أو نموت معا.
إن خيانة الفقيد تتجلى في الذهاب الأبدي دون رفقة (تفارقني) والأصل فيها (أتفارقني) سؤال استنكاري يستبطن حسرة وألما وأسى، كما يترجم بكل صدق مدى التعب والنصب والإرهاق، أو هو في الحقيقة استنزاف جسدي ونفسي خلفه هذا الفراق الصعب (وآخرها العناء). إن كلمة (آخرها) دائما ما تأتي بقانون المخالفة الذي يخرق المتوقَّع ويتضاد مع ما من المفروض أن يكون طبيعة، أي إذا كان الدهر قد قضيناه في و ئام وانسجام وعهد على المضي معا، نسير معا، نتسامر معا، نتدارس الكلمات، نتجادل حولها، نمزق الأوراق حين يختل الوزن أو يعتلي كسر، ونقرع الكؤوس مرحا وفرحا حين تنتهي القصيدة، فنقرأها ونعيدها فننتشي برحيقها ونرقص على أنغامها، نسافر معا، نمكث معا..فمن المفروض إذن أن نبقى معا.
يشعر الشاعر بأن خليله قد خذله، لقد سافر بعيدا وتركه دون إذن أو سابق إنذار.
ثم يهدأ وبكل رقة ممزوجة بحرقة يتوجه إلى صديقه قائلا: “فراقك لا يعيه قلب راث”، أي لن تجد أحدا يا صديقي يعرف معنى رحيلك أكثر مما أعرفه أنا، ولا يوجد إنسان في هذا الوجود حتى ولو كان يجيد الرثاء يدرك حجم الخسارة أكثر مما أدركه أنا.
أشعر وأنا أقرأ هذا البيت الشجي بأن الشاعر لازال يعتب على صديقه فراقَه (غدرَه) وكأني به يريد أن يقول له: ما كان عليك أن تفعل بي ما فعلت، ولو كنت تدري مدى حبي وصدقي في حبك لما رحلت.
هل سيستمر العتاب؟ نعم سيستمر ولكن متسربلا زي العاطفة الجياشة الجميلة والمشاعر الفياضة الصادقة، إني أعجب له كيف استطاع أن يجمع بينهما في لحظة تغيب فيها الإرادة حيث يترك العنان لكل شيء سوى العقل.
في هذه اللحظة لحظة العتاب يترجى أن يكون هو الميت والميت هو الشاعر الراثي.
ولو أن الذي يرثي الرثاء
ترجى أن يحوز رثاك موتي
فأذكى مصيبتي ذاك الرجاء
لو كان في القصيدة فقط هذه الأبيات، على قلتها، لكفت ويكون شاعرنا قد أدى الدين كله دون زيادة أو نقصان.
وهو نفس ما ذهب إليه شوقي حين خاطب صديقه حافظ إبراهيم قائلا: قد كنت أوتر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامة
قدر وكل منية بقضاء
وهو نفس ما ذهب إليه الشاعر أحمد مطر مخاطبا الشهيد ناجي العلي بقوله:
موتى ولا أحد يرثي لنا
قم وارثنا يا آخر الأحياء
ومن غرائب الصدف أن تكون القصائد الثلاث كلها تنتهي بروي هو الهمزة سواء تعلق الأمر بقصيدة شوقي أو أحمد مطر أو شاعرنا الدكتور محمد ماني، ولعل ذلك راجع لأن “الرثاء” ككلمة ينتهي بنفس الروي ونفس القافية.
يتبع

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock