“معرفة النفس والخصوصية المنهجية للتصوف من منظور ابن رشد”
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة ، المغرب
أولا:التصوف السلوكي بين المنهج و إشكالية اللامنهج
من المسائل الرئيسية التي تطرح وتتجدد عبر المسار الفكري والفلسفي والسلوكي هي: هل التصوف يمثل منهجا في البحث العلمي حتى يوضع ضمن المناهج الأخرى ذات الطابع الاستدلالي والاستقرائي، كما هو الشأن عند أهل النظر من المتكلمين والفلاسفة والفقهاء ؟ خاصة وأننا قد نجد بعض الفلاسفة المسلمين ينفون عنه بعده النظري وتوظيفه العقلي نفيا قاطعا كما عند ابن رشد الذي يصرح في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”: بأن الصوفية طرقهم “في النظر ليست طرقا نظرية – أعني مركبة من مقدمات وأقيسة – وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب.ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة مثل قوله تعالى:”واتقوا الله ويعلمكم “،
ومثل قوله تعالى: “الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا” ومثل قوله : “إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا” إلى أشباه ذلك كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا ليست عامة للناس بماهم ناس ، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها بالناس عبثا. والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر .
نعم ! لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطا في صحة النظر مثلما تكون الصحة شرطا في ذلك . لأن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها ، وإن كانت شرطا فيها. كما أن الصحة شرط في التعليم ، وإن كانت ليست مفيدة له . ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملتها حثا. أعني على العمل لا على أنها كافية بنفسها كما ظن القوم ، بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه”.
وهذا النص يطرح عدة عناصر يمكن أن تفيدنا في تحديد مناهج المعرفة بصفة عامة والنفس بصفة خاصة في الفكر الإسلامي. كما أنه يثير نفس المشكلة التي سبقت الإشارة إليها، وهي هل المنهج العملي يمكن أن يكون نظريا؟.
ثانيا: تخليص وتعقيب على رأي ابن رشد
فبالإمكان استخلاص بعض هذه العناصر المنهجية على سبيل النقد والتعليق على نص ابن رشد هذا، وذلك في الصور التالية :
أ )أبان النص عن وجود تناقض لفظي ومعنوي وهو يحتوي إشكالا لا يستطيع الخلاص منه ، بل يتضمن اعترافا ضمنيا بأن المنهج العملي عند الصوفية يمثل طريقة في النظر. لكنه بعد ذلك يتناقض بسرعة فيقول بأن طرقهم في النظر “ليست طرقا نظرية ، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة “. وهو بهذا المنهج يسقط المفهوم النظري العادي أو العقلي الفلسفي المحض على المناهج المعرفية بصفة عامة . وهذا ما لا يمكن توظيفه كلية وقصرا في مجال معرفة النفس بصفة خاصة . وذلك كما رأينا عند تقسيم ابن طاهر البغدادي:بأن” العلم البديهي قسمان : أحدهما علم بديهي في الإثبات كعلم العالم منا بوجود نفسه ، وبما يجد في نفسه من ألم وجوع وعطش وحر وبرد ونوم وفرح ونحو ذلك . والثاني علم بديهي في النفي، كعلم العالم منا باستحالة المحالات … وعلى هذا التقسيم يكون أن الأقيسة النظرية في مجال معرفة النفس لا يمكن أن تصبح هي المقرر الوحيد في الموضوع . وإنما يكون المقياس الوجداني أقرب إلى الصدق والتحقيق المعرفي، لأنه بديهي ببداهة الشعور النفسي الذاتي الذي لا يقبل الشك أو الظن .
ولهذا، فإذا كان الصوفية لم يستعملوا الطرق النظرية المكونة من مقدمات وأقيسة عقلية في منهجهم -كما يزعم ابن رشد- فذلك ليس معناه إسقاط الوظيفة العقلية في البحث العلمي ،بل على العكس من ذلك ، لأن اختيار منهج عملي معين والتركيز عليه حتى يتحصل على النتيجة المرجوة هو في حد ذاته عمل عقلي وتدبير منهجي للوصول إلى المعرفة المتوخاة .
ب) وهذا هو العنصر الأهم في نظرنا، وذلك باعتراف ابن رشد بأن الصوفية يمثلون التفرغ منهجيا وعمليا للمراقبة النفسية . مما يعني أن منهجهم نفسي بالدرجة الأولى، رغم أنه غير مقتنع بالمؤدى الذي يترتب عن المنهج العملي الصوفي، ويظهر هذا حينما قال :”وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب”. وهذا قد يفيد بأن التعامل مع النفس على وجه المعرفة والإدراك الدقيق هو من اختصاص الصوفية . ويؤكد هذا التخصص أيضا بقوله :” ونحن نقول إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها بأنها ليست عامة للناس بما هم ناس…ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر. ولكان وجودها بالناس عبثا”.
لكن على العكس من هذا، فقد كان يتبين من خلال الإنتاجات الفكرية الصوفية التي سبقت الإشارة إليها، أنهم لم يقصوا النظر ألبتة من حيث هو نظر. وإنما أعطوا له حدوده ،بل جعلوا معطياته ذات طابع مرحلي، قد يخضع في اعتباره ليس من حيث التناقض أو البطلان ، وإنما من حيث التفاوت الإدراكي إلى مقاييس نفسية بالدرجة الأولى، وهي ما يمكن الاصطلاح عليه بالمقياس الوجداني أو الذوقي.
ويرد الصوفية على اعتراض ابن رشد وغيره ممن يعترضون بالطرق النظرية على الطرق الصوفية العملية :”بأن العلوم الحاصلة بالنظر مشوبة بأحكام الوهم ، وغير خالصة من أعمال الخيال . وأن المعتزلة تلجأ في أحكامها إلى قياس الغائب على الشاهد، وتنتهي أقيستهم هذه إلى أخطاء شنيعة وضلال ظاهر. وعلى العكس من هذا طريق الصوفية إنه تصفية روحية . والفيض من بين العلوم الحقيقية هو الطريق الوحيد للعلم ، وبواسطته تنكشف علوم إلهية ومعارف ربانية … ويرد عليهم وارد إلهام هو حديث عهد بربه …وأما أن طريق التصوف صعب الوصول ، فلا يقدح في قوة اليقين وصحة العلم . أما التفسير المرضي للتصوف ، باعتباره اختلالا في المزاج ، فإن المتصوفة قلما يحدث لهم هذا “لأنهم كما أنهم أطباء النفوس والأرواح ، كذلك عارفون بأحوال البدن والأشباح . فالرياضة على ما شرطوه من الأحوال أمان من العناء أو الاختلال . أما ما يحدث من المتصوفة من شذوذ أو اضطراب عقلي، فإنه نشأ عن شذوذ واضطراب أصلي في النفوس قبل البدء في الطريق”.
وبهذا الأسلوب العملي يكون الصوفية قد دخلوا مرحلة المنهج التجريبي المبني على الملاحظة والاستقراء النفسي، شأنهم في ذلك شأن الفقهاء والمتكلمين . غير أن التجربة هنا عملية باطنية ستدق أبواب أعماق الوجدان وتستكشف خبايا الذات ، وأسرار النفس ، والآلام والملذات . وبهذا فلن يكون تناقض بين المنهج النظري كما هو معمول به عند علماء الكلام والفلاسفة ، ولا المنهج الاستقرائي كما هو عند الفقهاء والمحدثين وعلماء أصول الفقه وبين المنهج العملي الصوفي عند الاستنتاج . اللهم إلا في بعض النتائج التي قد تطرأ عليها الذاتية فتحيدها عن الصواب غير المقصود، أو عند التفاوت المعرفي بحكم التفرغ والتخصص ، الذي سينال فيه الصوفية قصب السبق !.
وغياب التناقض بمعناه المنطقي بين الاتجاهات المنهجية في الفكر الإسلامي، يبقى سببه دائما هو الاستلهام والاستظلال بالنص الديني ،المغذي والمرشد للعقل والروح والقلب والحواس . يقول الله تعالى: “إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”.