ميراث مشارق الأرض ومغاربها
المصطفى حميمو
قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا، وَأَهْلَكْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَرْتَكِبُونَ} [الأعراف: 137]. آية كريمة من شان اكتشافها من طرف أي صهيوني، وقد حصل، أن تجعله يجد فيها اعترافًا قرآنيًا بأسطورة الأرض الموعودة للشعب العبري وحده. في حين الأمر لا يمكن أن يكون كذلك. لماذا؟ لأن ميراث مشارق الأرض ومغاربها يحصل بالحسب أي بالاستحقاق وليس بالنسب. لو كان فضل الله يناله العبد بالنّسب لناله ابن نوح عليه السلام، ونجى من الغرق من بعد ما أن دعا أبوه اللهَ بذلك. وتأكد ذلك في حق درية إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـــالــِمــيـــنَ﴾.
فالمقصود بميراث مشارق الأرض ومغاربها ليس، كما يتوهم الصهاينة المغتصبين لفلسطين، هو تملّكها واستيطانها والتصرف فيها بغية متاع الدنيا من بعد انتزاعها ظلما وعدوانا بإبادة جل أصحابها وتشريد واستعباد من تبقى منهم، وفقا لما جاء من خبر في (سفر التثنية: 20: 1-20) من عهدهم القديم، ذلك الخبر المُستنكر والمستحيل أن يكون من وحي الله الرحمن الرحيم. بل معنى ميراثها هو تولي الحكم فيها باسم عقيدة التوحيد لضمان تبليغها بكل حرية للناس أجمعين ومن دون تمييز.
وذلك هو ما حصل مع النصرانية، على الرغم ممّا شابها من التثليث، وفق قول المسيح عليه السلام لتلاميذه وهو من بني إسرائيل ومبعوث فيهم: “فَاذْهَبُوا إِذًا، وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ…، وَعَمِّدُوهُمْ، وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ” (إنجيل متى 28: 19-20). فعانى الدعاة من بعده ومن أمنوا لهم، من اضطهاد الحكم الروماني الوثني، ويُعتقد أن أهل الكهف كانوا من بين من عانوا منه ونجوا بفضل الله. لكن ما أن تبنى الإمبراطور قسطنطين المسيحية بصدور مرسوم ميلانو سنة 313م، حتى انتشرت في كل أرجاء الإمبراطورية بنفوذه وتحت حكمه، مثلما انتشر الإسلام من بعدها تحت نفوذ أوائل المسلمين من العرب امتثالا لقوله تعالى لرسوله الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾.
انتشر الإسلام تحت حكمهم وفي ظل نفوذهم لما عملوا على ذلك بكل ما أوتوا من قوة، بالرغم من قلة أعدادهم وقلة خبرتهم العسكرية والسياسية كبدو من الصحراء في مقابل خبرات إمبراطوريتين عتيقتين وعريقتين وعظيمتين. فبلّغوا ما آتاهم الله بفضل منه من تعاليم الإسلام لجميع الناس بقدر ما استطاعوا وبسرعة البرق. بلغوها ووصلوا بها في أقل من قرن من ظهور الإسلام ما بين تخوم الصين شرقا والأندلس غربا. وبذلك ورثوا باستحقاق مشارق الأرض ومغاربها. في حين ما استحق بنو إسرائيل مثل ذلك التفضيل الذي أكرمهم به الله من قبلُ، فما استحقوا ميراث مشارق الأرض ومغاربها. وذلك بسبب تخليهم عن تبيان الكتاب لكل الناس. كيف ذلك؟
قال تعالى:﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾. والمقصود بالنعمة في الآية الكريمة هو تخليصهم من العبودية بمصر. أما التفضيل فيعني بالضبط وبالأحرى تكليفهم بتبيان الكتاب لكل الناس على غرار ما يحصل مع كل الرسل. إلا أنهم كتموه بدليل قوله تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَـــتُـــبــَيّــِنُــنَّــهُ لِلــــنَّــــــاسِ وَلَا تَكْتُمُونَه. فَــــنَـــبَـــذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾. نبذوا ذلك الميثاق العظيم الذي فضلهم به الله عن العالمين، لما اعتبروا ما جاءهم في الكتاب من تعاليم التوحيد كان حكرا عليهم باعتبار التفضيل لهم، ومن باب الغرور، كان تفضيلا لكونهم فقط من نسل النبي يعقوب عليه السلام. اعتبروه تفضيلا عرقيا وليس تفضيل تكليف، كتكليف الأنبياء والرسل بتبليغ رسالاته للناس كافة، وذلك بتصريح واضح في تلمودهم. كيف ذلك؟
التلمود هو تفسير أحبارهم لعهدهم القديم الذي دوّنه من قبلهم. ويزعمون أن التلمود هو كذلك من وحي الله. فقالوا فيه: “التوراة ليست إلا ميراثًا لشعب إسرائيل وحدهم، ومن يحاول من الأمم الأخرى دراستها يستحق الموت.” (التلمود: سنهدرين 59أ). وحظروا تعليم التوراة للأمم الأخرى بقولهم: “من يُعلِّم غير اليهود التوراة يخالف القانون ويستحق العقوبة.” (التلمود: حجّيجاه 13أ). أمر أكدوه بقولهم: “الله أعطى بني إسرائيل التوراة كعهد خاص، وليس للأمم الأخرى أي نصيب فيها.” (التلمود: أڤوداه زاراه 8ب). وأكدوا ذلك مرة أخرى بقولهم: “لا يجب أن تُكشف تعاليمنا وشرائعنا للأمم، لأنها خُصصت لنا فقط.” (التلمود: بافا باترا 10ب). وزعموا، من باب الغرور دائما، بأفضليتهم العرقية والقومية لما قالوا:”لم يُخلق العالم إلا من أجل سعادة بني إسرائيل. بنوا إسرائيل هم وحدهم أبناء الله، وهم وحدهم أحباء الله” (التلمود: مسالك جريم 1).
وقد جاء الرد المفحم على زعمهم هذا في قوله تعالى : ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾. رد مفحم مؤكد بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيٌ﴾. وفيه تأكيد منه سبحانه على أن الأفضلية إنما بالحسب وليست بالنسب.
فما استحقوا بذلك ميراث مشارق الأرض ومغاربها وفق ما جاء في الآية الكريمة [الأعراف: 137] المذكورة أعلاه. وذلك وكما تقدم، بخلاف ما حصل مع النصرانية على الرغم مما شابها من التثليث، وما حصل مع الإسلام المتميز بالتوحيد الخالص، لما انتشر دعاة كل منهما في الأرض لتبيان ما جاءهم في الكتاب لجميع الناس.
وقد تبين فساد الصهاينة من بني إسرائيل في الأرض، لما استولوا على فلسطين منذ 1948م. ومن أهم معالم ذلك الفساد التضييق على عبادة الله وفق ما جاء من بعد التوراة في الإنجيل والقرآن الكريم. قال تعالى:﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. فوفقا لما جاء في الآية الكريمة حرص المسلمون طوال تاريخهم وحتى يومنا هذا على حماية المقدسات الدينية لكل من اليهود والمسيحيين وعلى احترام وتوقير بيوت عبادتهم، حتى خلال الحروب، كالحروب الصليبية. ومن ذلك العهدة العمرية لما فتح الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس، وأعطى للمسيحيين عهدًا بالأمان وحرية العبادة وضمن لهم حماية كنائسهم وعدم المساس بها. فسنّ بذلك سُنّة حسنة ملموسة على الحرية الدينية ظلت قائمة في التاريخ الإسلامي ولا تزال. سُنّة تشرف المسلمين بتمسّكهم بها إلى يوم الدين.
وبخلاف ذلك، ففيما يحدث من تضييق متواصل على المسيحيين ولا سيما على المسلمين في عبادتهم لله بفلسطين المحتلة خير دليل حتى اليوم على عدم استحقاق بني إسرائيل لشرف ميراث حكم مشارق الأرض ومغاربها. فاستبدلهم الله بمن هم خير منهم، لقوله تعالى كسنّة في الأولين والآخرين﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. لاحظ المقصود بكلمة “فضل الله” الذي فضل به بني إسرائيل على العالمين. لقد شرفهم الله بحمل الرسالة للعالمين فلم يفعلوا كما هو معروف وكما جاء في تلمودهم.
ففي فلسطين المحتلة اليوم، يعاني الفلسطينيون المسلمون والمسيحيون، من تقييد واضح لحرية العبادة، ومن تهديدات وتحرشات مستفزة ومتكررة تطال أماكن عبادتهم المقدسة. بل شاهدت مؤخرا كل شعوب العالم قصفها بالقنابل فوق رؤوس المصلين فيها. بل لم يتوان الجنود الصهاينة عن قصفهم حتى وهم يصلون في العراء تحت السماء بجوار المساجد المهدمة. زد على ذلك القيود المفروضة باستمرار على حرية تنقل الفلسطينيين بالضفة وفلسطين 48، مما يعيق وصولهم إلى أماكن العبادة، بما فيها بالخصوص المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في القدس، خاصة يوم الجمعة وفي الأعياد والمناسبات الدينية.
فلكل هذا، واهـــمٌ الصهيوني الذي يعتقد أن ميراث أرض فلسطين مستحق كملك عقاري لليهود باسم العهد القديم على أساس النسب العرقي لإسرائيل أي يعقوب عليه السلام. بل كما تقدم، فالاستحقاق بالحسب وليس بالنسب. والمسيحيون، بالرغم من التثليث، مع المسلمين هم أولى من غيرهم بالنبيئين والرسل من بني إسرائيل بفضل الاقتداء بهم في الدعوة العالمية لعقيدة التوحيد.
والمقصود بميراث مشارق الأرض ومغاربها في الآية الكريمة السلفة الذكر، ليس هو امتلاكها بافتكاكها من أصحابها وتشريدهم أو استعبادهم. بل هو حكمها باسم عقيدة التوحيد المفتوحة للناس أجمعين ومن دون إكراه في الدين. وهو ميراث لمن يستحقه من عباد الله المؤمنين الصالحين الذين التزموا بميثاق من الله لتبيان ما آتاهم في الكتب المنزلة على رسله للناس أجمعين مصداقا لقوله تعالى في حق رسوله الكريم:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
وقد قال تعالى:﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾. أما بخصوص الذين ظلموا منهم من الصهاينة المغتصبين لفلسطين فحسبنا ما تقدم في هذه الورقة. والبقية وما أكثرهم، فمن باب الجدال بالتي هي أحسن ووفق قوله صلى الله عليه وسلم: “بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ،”، نذكرهم بقوله تعالى وهو يخاطبهم مباشرة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾. ويبقى أمرنا وأمرهم إلى الله لقوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، صدق الله العظيم.