أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

ثقافة التطوع في مواجهة الخصاص بمنظومة التربية والتكوين

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

بقلم هشام البوجدراوي
يُعتبر العمل التطوعي من أبرز وأهم مظاهر التعاون والتعاضد والتآزر الإنساني، فهو سمة المجتمعات الحيوية، حيث يمثل فرصة للمشاركة الفعّالة في نهضة الأمم، ويساهم في زيادة الوعي بقضايا المجتمع وفي تقديم المساعدة والدعم للآخرين وسد الثغرات التي قد تعجز عنها جهود المؤسسات الرسمية، سواء من خلال الخدمات الاجتماعية، أو التعليمية، أو البيئية، أو الصحية.
ولأهميته، فقد حظي التطوع بتقدير واهتمام بالغين من منظمة الأمم المتحدة، حيث خصته ببرامج وأنشطة تستهدف دعم المحتاجين عبر العالم، كما جعلت يوم 5 دجنبر من كل سنة يوما عالميا للعمل التطوعي. كما أولته الدول المتقدمة اهتماما واسعا، حيث سجلت المعدلات الأعلى للعمل التطوعي في الدول ذات الدخل المرتفع مثل: الولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الأوروبية، بينما تنخفض في بعض الدول النامية. ففي الولايات المتحدة، يشارك حوالي 25% من البالغين في العمل التطوعي “تقرير مؤسسة العمل التطوعي الأمريكي”. وفي أوروبا، تتراوح نسبة المتطوعين بين 20-45% حسب كل دولة، مع ارتفاع ملحوظ في دول مثل هولندا، النرويج وألمانيا. ففي ألمانيا مثلا: 45 بالمئة من السكان فوق 15 سنة يعملون في أعمال تطوعية. وعند الكيان الصه يوني لكل 175 شخص جمعية، بينما في دول الخليج لكل 60 ألف شخص جمعية. ويقدر متوسط عدد ساعات العمل التطوعي ما بين 50-100 ساعة سنوياً “إحصاءات المنظمات غير الحكومية العالمية”. كما يساهم المتطوعون في دول مثل كندا وأستراليا بمتوسط 130 ساعة سنوياً. ويشهد قطاع التعليم والرعاية الاجتماعية أكبر نسبة من المتطوعين خاصةً في مناطق الشرق الأوسط وإفريقيا. حيث تقدر بعض التقارير قيمة العمل التطوعي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية على مستوى العالم بأكثر من 200 مليار دولار سنوياً. ففي الولايات المتحدة وحدها، تقدر مساهمة العمل التطوعي بما يزيد عن 184 مليار دولار سنوياً.
ويشمل العمل التطوعي مجموعة واسعة من المجالات من أبرزها التعليم. إذ يعتبر التطوع التعليمي الدعامة الأساسية في بناء ونهضة المجتمعات، ويعزز من قيم التعاون والتكافل التعليمي، ويسهم في تمكين المتعلمين والمتعلمات، من التمتع بحقهم في تعليم ذي جودة.
وهناك العديد من الدول التي أولت اهتمامًا كبيرًا بالتطوع في مجال التعليم، كالولايات المتحدة الأمريكية من خلال برنامج المتطوعين على العمل في المدارس والمراكز التعليمية”Teach for America” و”Reading Partners”، والهند وبرامج التعليم بالمناطق الريفية “Teach India” و”Rural Development Foundation”. وألمانيا وبرامج العمل في المدارس ورياض الأطفال.”Freiwilliges Soziales Jahr” وغيرها كثير…..
ويعد العمل التطوعي في مجال تنشيط الحياة المدرسية والدعم التربوي والمساعدة في عمليات تدبير شؤون المؤسسات التعليمية، إحدى مجالات التطوع التعليمي. فهو آلية أساسية تساهم في تفعيل الأنشطة الموازية، وفي تعزيز التعلمات الأساس، وتنمية المهارات، وفي توفير مناخ مدرسي ملائم. فقد أصبح الاهتمام به ضرورة خصوصا مع صدور تقارير المجلس الأعلى للتعليم، ووثيقة خارطة الطريق 2022/2026، التي أظهرت أرقاما صادمة تعبر عن مشاركة هزيلة للمتعلمات والمتعلمين في الأنشطة الموازية، ( 25 في المئة فقط من التلميذات والتلاميذ يشاركون في الأنشطة الموازية)، وعن ضعف في مستوى تحكم التلميذات والتلاميذ في التعلمات الأساس ،(70 في المئة من التلاميذ لا يتحكمون في المقرر الدراسي عند استكمالهم التعليم الابتدائي ).
وفي ظل الخصاص المهول من الأطر التربوية والإدارية والأطر المختصة، ومع تزايد عدد التلاميذ، وارتفاع نسب النجاح المدرسي، وما ترتب عنهما من اكتظاظ داخل الفصول الدراسية، ومن تركيز على الحصص الرسمية المرتبطة بالبرنامج الدراسي، وإغفال لحصص الحياة المدرسية والدعم التربوي خلال بناء جداول الحصص، لم تعد المدارس قادرة على سد احتياجات المتعلمات والمتعلمين من الأنشطة المهارية والداعمة، ولا على توفير بيئة تمدرس سليمة يطبعها الهدوء. لذلك برزت الحاجة إلى تحفيز المدرسين والمدرسات والأطر المختصة على المساهمة بساعات تطوعية لسد الخصاص.
ويتفق المتدخلون في الشأن المدرسي، على أن التطوع التعليمي أصبح شرطا ضروريا لتحقيق أهداف المنظومة التربوية، وفي أحيان كثيرة، يعد دوره أساسيا وليس تكميليًا، في معالجة إشكالات العنف المدرسي وضعف المستوى الدراسي ومشكلة عدم تملك المهارات اللازمة للاندماج الاجتماعي.
إن التفكير في واقع التطوع التعليمي، وفي آفاق تنميته كثقافة داخل المدارس، يحيلنا على ثلاثة مداخل أساسية: يتضمن المدخل الأول بنية التنظيمات داخل المؤسسات التعليمية وأسباب انتقالها من ثقافة التطوع التي طبعت السنوات الماضية إلى ثقافة الأجر مقابل العمل مع الجيل الجديد. أما المدخل الثاني فيشير إلى أهمية حصص الدعم التربوي وأنشطة الحياة المدرسية كممارسة رئيسة في بناء العملية التعليمية التعلمية. ويتطرق المدخل الثالث لبعض الإجراءات التي تساهم في تنمية ثقافة التطوع بالمدارس.
معيقات العمل التطوعي التعليمي “ثقافة الأجر مقابل الساعات الإضافية”
تتشكل بنية التنظيمات داخل المؤسسات التعليمية خلال السنوات الأخيرة، في أغلبها من أطر شابة تابعة للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. وقد عرفت مرحلة التحاقها بالقطاع، فترات إضراب متتالية نتيجة عدم استجابة الوزارة لمطلب التخلي عن التوظيف الجهوي، وتبني الترسيم كخيار للإدماج في أسلاك وزارة التربية الوطنية. ومع طول مدة الصراع والتي تجاوزت الست سنوات والتحاق الأطر الوزارية بساحات الاحتجاج، بسبب مطلب الزيادة في الأجور والتعويض عن الساعات الإضافية” إضرابات 5 أكتوبر 2023″، تكونت ثقافة تنظيمية جديدة داخل المؤسسات التعليمية، تتجه نحو الرفض ومقاطعة جميع البرامج والأنشطة الموازية التي لا تدخل في إطار عدد الساعات الرسمية. هذه الثقافة استمرت حتى بعد صدور النظام الأساسي لوزارة التربية الوطنية،” الذي أصبح معه الجميع يدخل تحت مسمى موظفو وزارة التربية الوطنية”، فتعززت قيم الرفض والممانعة بمقولات مثل الأجر مقابل الساعات الإضافية لتجد المؤسسات التعليمية نفسها عاجزة عن تحفيز الأطر التربوية على المساهمة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية لوزارة التعليم. ومع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المغرب وما صاحبها من تحولات قيمية، ومع تطور الاقتصاد المغربي وانتقال المجتمع إلى نمط الحياة التي تطبعه الفردانية والاستهلاكية زادت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على الأفراد مما جعل العديد منهم يبحثون عن مصادر دخل إضافية لسد الاحتياجات الأسرية. في هذا السياق أصبح البعض ينظر للعمل التطوعي التعليمي “ما زاد عن عدد الساعات الرسمية” كاستثمار في بناء السيرة الذاتية أو كفرصة للحصول على وظيفة في المؤسسات الخاصة على اعتبار الإشعاع الذي يجنيه المدرس المتطوع جراء قيامه بأنشطة الحياة المدرسية التطوعية.
ويعتبر الانشغال باستكمال الدراسة الجامعية، والتي تتطلب الحضور المستمر للحرم الجامعي، وكذا التنقل اليومي لمقرات العمل المتواجدة بالوسط القروي، إحدى الأسباب المباشرة للعزوف عن العمل التطوعي التعليمي، ما دامت الجامعة المغربية، لحد الآن، لم تتحرر من ثقافة إلزامية النمط الحضوري في تدريس المواد، وأن الأستاذ هو مصدر الوحيد للمعرفة، وما دامت الوزارة الوصية أيضا لم تؤهل المؤسسات التعليمية ومحيطها لضمان استقرار الأطر التربوية قرب مقرات عملها.
التطوع التعليمي أحد آليات تحقيق الأهداف الاستراتيجية لمنظومة التربية والتكوين
مع صدور القانون الإطار، والتنصيص على تبني الأهداف الاستراتيجية الثلاثة كأولويات لمشروع المؤسسة المندمج، ومع ضعف مشاركة المتعلمات والمتعلمين في أنشطة الدعم التربوي وأنشطة الحياة المدرسية، برزت أهمية تفعيل مكون الدعم التربوي وأنشطة الحياة المدرسية في الرفع من نسب النجاح المدرسي.
هذا الانتقال من منطق الأولويات إلى منطق تحقيق الأهداف الاستراتيجية، يجعلنا نتساءل كمكونات المجتمع المدرسي، عن مدى وعينا بأهمية مكون الدعم بأبعاده المتعددة، “القبلي والبعدي والتكويني والمؤسساتي والاستدراكي…”، وكذا بأهمية برمجة وتمرير أنشطة الحياة المدرسية، كممارسة أساسية في بناء العملية التعليمية التعلمية. فكثير منا لازال لحد الآن يعتقد أن فعل التدريس ينحصر في تمرير البرنامج الدراسي في آجاله وإنجاز فروض المراقبة المستمرة وتوزيع النتائج الدراسية وأن الأنشطة الموازية، كما كان يطلق عليها سابقا، هدر للزمن المدرسي، في حين أصبحت الغايات المدرسية تتجه نحو تحقيق المشروع الشخصي للتلميذات والتلاميذ، والذي يتطلب، بالإضافة إلى التحكم في التعلمات الأساس، تملك كفايات ومهارات قابلة للاستثمار في الوضعيات الحياتية والمهنية.
إن تحقيق أهداف مشروع المؤسسة المندمج، والرفع من المؤشرات الكمية المرتبطة بمضاعفة نسب التلاميذ المتحكمين في التعلمات الأساس، وكذا المرتبطة بمضاعفة عدد التلاميذ المنخرطين في أنشطة الحياة المدرسية، تجعل جميع مكونات المجتمع المدرسي مسؤولة عن توفير فرص متعددة لتحقيق الأهداف، خصوصا وأن التعثرات عميقة ومتنوعة، وضمان انخراط أغلب التلاميذ في أنشطة الحياة المدرسية تحتاج إلى توفير فرص متنوعة لممارسة الأنشطة الموازية وتجنيد موارد بشرية متعددة من أجل تمرير الحصص المبرمجة.
كيف يمكن تنمية ثقافة التطوع في صفوف مكونات المجتمع المدرسي؟
إن منظومة التربية والتكوين لم تتوفق، لحد الآن، في إيجاد الوسائل وآليات التحفيز المناسبة لتنمية ثقافة التطوع لدى الشغيلة التعليمية. فمنطق الأوامر، المدعوم بالمذكرات الوزارية، لم يعد ناجعا في تحقيق أهداف المنظومة ما دامت العلاقة التي تربط الوزارة الوصية بالأطر التربوية والإدارية متوترة، وتنبني على منطق تنفيذ القرارات. إن المسؤولين عن تدبير الشأن التعليمي، كرسوا الهوة بينهم وبين عموم الموظفين، بتبني سياسة التدبير الأحادي ومنهجية القرارات العمودية، التي لم تحظ بإجماع مكونات المجتمع المدرسي “مدارس الريادة نموذجا”، كما وسعوا حجم الخلاف بين الأطر المنتمية للقطاع وبين الفرقاء الاجتماعيين بنهج سلوكات اللاعدالة واللامساواة في رسم الحدود وتقدير المسافات التي تربط بين النقابات ومؤسسات الوزارة الوصية بمختلف مستوياتها. هذا الواقع أنتج ثقافة الممانعة والرفض ما دام المسؤول الأول عن القطاع لم يبد أي نية في إشراك الفاعلين التربويين في تشخيص واقع المنظومة وإبداء الرأي في السياسات التعليمية الحالية واقتراح حلول ناجعة لتجاوز أزمة التعليم.
إن تعزيز ثقافة التطوع بالمؤسسات التعليمية، أصبح ضرورة ملحة في ظل الخصاص الذي تعرفه المنظومة، كما أصبح لبنة أساسية في سبيل بلوغ الأهداف الاستراتيجية لمنظومة التربية والتكوين. إن تنمية ثقافة التطوع، تستلزم من الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم، أن تعمل على إعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المنظومة التربوية وتعمل كذلك على إقرار منطق العدالة في تدبير القطاع وكذا استحضار مبدأ المساواة في تعاملها مع مختلف الفرقاء الاجتماعيين.
كما أن تعزيز ثقافة التطوع تنبني على تطوير برامج التكوين المستمر، وتوسعة حملات تحفيز موظفي القطاع على الانخراط في الأعمال التطوعية وتعزيز روح العمل الجمعوي، وإعداد أوراش تدريبية لرفع نسب المتطوعين بين العاملين، سعيا إلى تنمية ثقافة الإحساس بالمسؤولية اتجاه أبناء الوطن، وتحريك الوعي لدى مكونات التنظيم التربوي في اتجاه تطوير مهارات التواصل والتنشيط والتدريب على المهارات المهنية بغية استثمارها في حصص الدعم والأنشطة الموازية. كما تعتبر عملية مراجعة التشريعات والمذكرات التي تنظم العلاقة بين المؤسسات التعليمية وشركائها وكذا تلك التي تضمن حقوق الأطراف المعنية بعملية التطوع، أحد الآليات التي تستثمر في التشجيع على التطوع التعليمي. بحيث تسعى، عملية المراجعة، إلى خلق فترات في الزمن المدرسي، يستطيع الأساتذة من خلالها تحقيق برامج الأنشطة الداعمة والموازية، كما تساهم أيضا في تحفيز الجمعيات الشريكة على المساهمة في تنشيط الحياة المدرسية، وفي المساعدة على تدبير المرفق التعليمي، في ظل الخصاص الذي يطبع جل المؤسسات التابعة للوزارة.
وفي الأخير، لا يمكن أن ننسى دور المدرسين والمدرسات في تنمية قيم التطوع والتضامن في صفوف التلميذات والتلاميذ، وفي تعزيز روح العطاء لديهم، حتى يكون التطوع أسلوب حياة لديهم لتحمل مسؤولياتهم والقيام بواجباتهم نحو قضايا مجتمعهم. إذ إن الوعي بقيم المواطنة والتآزر لدى المتعلمين، ينعكس في سعيهم إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه مؤسساتهم، من خلال مشاركاتهم الإيجابية في أنشطة الأندية التربوية، وكذا في تخطيط وتدبير شؤون المؤسسة، من موقع عضويتهم بمجالس المؤسسة، وفي اتخاذ القرارات التي تعود بالنفع عليهم في حاضرهم ومستقبلهم.
وفي الختام، نشدد على أهمية دور التحفيز المعنوي في تعزيز ثقافة التطوع في صفوف الأطر التربوية والإدارية. فثقافة الاعتراف، الغائبة عن القطاع، لها دور مهم في بناء الثقة والاحترام بين مكونات المنظومة، كما تساهم في تعزيز السلوكات الإيجابية في صفوف الموظفين، وتساهم في خلق روح المنافسة الشريفة والتي تعود بالربح على أبناء المجتمع المغربي.
بقلم هشام البوجدراوي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock