هذا التحرش الرياضي الخفي !
هذا التحرش الرياضي الخفي !
مع نهاية شهر يناير من السنة الجديدة 2020، وبعد حوالي عامين من إثارتها موضوع خاص بظاهرة “التحرش الرياضي”، عادت صحيفة “ليكيب” لتنقل شهادة بطلة فرنسية سابقة تحت عنوان “نهاية الصمت”. حيث أنها اغتنمت الفرصة لتسليط الضوء على ما كانت تتعرض له بطلات رياضيات من اعتداءات جنسية في الثمانينيات من لدن مدربيهن، الذين كانوا يستغلون صغر سنهن ما بين 12 و15 سنة، إبان مشاركتهن في معسكرات تدريبية مع فرقهن ومنتخباتهن الوطنية بمختلف الرياضات.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تثار فيها قضايا “التحرش الرياضي” في الإعلام، ولا نعتقد أنها ستكون الأخيرة في قطاع يفترض أن يعيش المنتسبون إليه في بيئة سليمة وأجواء نظيفة، مادامت هناك ذئاب بشرية تعيث فسادا في أروقة الأندية بكامل الحرية. ولا تنحصر هذه الآفة اللعينة في مجتمع بعينه أو في رياضة دون أخرى، إذ تحولت إلى شبح رهيب يرخي بظلاله على جميع الرياضات عبر بلدان العالم، لا فرق بين المتقدمة منها أو المتخلفة. فأينما يوجد الإنسان ثمة “حيوان” يتأهب للانقضاض عليه، وما يكاد ينتهي الحديث عن “جريمة” أخلاقية هنا حتى ينطلق من جديد عن جريمة أخرى هناك.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، حيث يعمد بعض منعدمي الضمير ممن تعطلت عقولهم وأصبحوا عبيدا لنزواتهم الحيوانية، إلى استغلال الخوف والشغف الكبير بممارسة الرياضة لدى بعض الفئات الصغرى والشبابية، معتمدين في اعتداءاتهم الوحشية على شتى أساليب الدناءة من ترغيب وترهيب، غير عابئين بما تخلفه أفعالهم المنحطة والشنيعة من أضرار نفسية بليغة على ضحاياهم، تلازمهم طوال مراحل حياتهم، لغياب المراقبة الصحية والعلاج النفسي في معظم مدارس التكوين الرياضي سواء التابعة لأنديتهم أو خارجها.
ونستحضر هنا في هذا الإطار على سبيل المثال لا الحصر تلك الواقعة التي تفجرت في قلب ملعب ناد شهير بالعاصمة الاقتصادية خلال شهر أكثوبر من السنة الماضية 2019، والتي لا نعتقد أن النسيان طوى تفاصيلها في ذاكرة المهتمين بالشأن الرياضي، إثر رفع أحد لاعبي فتيان الفريق شكاية للمسؤولين، بشأن ما كان يلاقيه من مضايقات وسلوك لا أخلاقي من طرف مؤطره، ودون أدنى تلكؤ أو تملص من المسؤولية بادرت إدارة النادي إلى فتح تحقيق عاجل، أسفر عن إصدار بلاغ رسمي يؤكد صحة مضمون الشكاية، وإنهاء عمل الإطار الرياضي بإقالته نهائيا. وهي الجرأة التي تفتقدها للأسف الشديد عديد الأندية المغربية، التي عوض الاحتكام في مثل هذه الحالات الشائنة إلى القانون والانتصار للضحايا القاصرين ومراعاة ظروفهم النفسية، تلوذ بطمس الحقائق والتستر عن أطرها.
إذ لولا الصدفة أحيانا وشجاعة بعض اليافعات واليافعين أحيانا أخرى، الذين لم يترددوا في إشعار أسرهم بما كانوا يتعرضون إليه من محاولات اغتصاب واعتداءات جنسية من قبل بعض أطر أنديتهم، ما كان لأحد أن ينتبه إلى معاناتهم التي لم تظهر للعلن إلا عبر شكايات وجهت للوكيل العام، واعتقال المشتكى بهم من قبل مصالح الأمن، فضلا عن تدخل وسائل الإعلام في فضح تلك الانتهاكات الخطيرة، لظلت عشرات فضائح “التحرش الرياضي” طي الكتمان، واتسعت دائرة الضحايا ببلادنا.
فالتحرش الجنسي إلى جانب كونه جريمة يعاقب عليها القانون، يشكل إساءة كبيرة للرياضة ويعد أكثر خطورة من المنشطات. وهو من الظواهر المسكوت عنها رغم ما له من آثار وخيمة خاصة بالنسبة للفتيات، مما يؤدي بكثير من الأسر في عالمنا العربي إلى عدم السماح لهن بالانخراط في النوادي الرياضية، وحرمانهن من حقهن المشروع في ممارسة رياضة تعشقنها حد النخاع وقادرات على التفوق فيها، تفاديا لما يمكن أن يعرضهن لانتهاك جنسي ضد إرادتهن، وإن كانت نسبة الضحايا بالبلدان العربية أقل بكثير منها في مناطق أخرى من العالم.
ذلك أن هذا “العنف المرضي” الذي يقع على الرياضيات بأوربا وأمريكا يصل إلى معدلات مقلقة حسب الإحصائيات المتوفرة. ففي دراسة فرنسية حديثة أجريت على قرابة 120 لاعبة، بلغت نسبة المغتصبات من طرف مسؤولين أو زملاء لهن 8 بالمائة. فيما أكدت دراسة كندية شملت 230 لاعبا ولاعبة، أن 20 بالمائة تم الاعتداء عليهم جنسيا، وهناك دراسات كثيرة في مختلف بلدان العالم تتحدث عن الظاهرة بإسهاب، ولعل أسوأ فضيحة أخلاقية في هذا الصدد هي تلك التي كان بطلها طبيب منتخب الجمباز الأمريكي “لاري نصار”، الذي اعتدى جنسيا على 265 لاعبة خلال عشرين سنة من عمله… لكن جدار الصمت بدأ ينكسر تدريجيا من خلال تزايد شهادات وشكايات بطلات رياضيات سابقات، في هذه السنوات الأخيرة…
إن الرياضة من أهم الوسائل التي لا يمكن تسخيرها إلا في اتجاه خدمة الفرد والمجتمع، والإسهام في غرس القيم الأخلاقية النبيلة في أذهان ممارسيها من مختلف الفئات العمرية. وفضلا عن تنمية القدرات البدنية والمهارات الفردية، فإنها تقوم بترسيخ المواقف الإنسانية والتعاون الجماعي، الروح الرياضية العالية والشعور بالانتماء الوطني… مما يستوجب تظافر الجهود بين الأسرة والمدرسة والأندية الرياضية والجامعات الوطنية ووسائل الإعلام، في وضع قانون رياضي رادع لحماية الأطفال وتوعيتهم بمخاطر التحرش الجنسي، الذي يهدد مستقبلهم ومستقبل الرياضة بالبلاد، والحرص على ضرورة إسناد مهام التأطير إلى مدربين أمناء ومؤهلين، يقدرون جسامة المسؤولية، بدل أشخاص لا يملكون الحد الأدنى من الكفاءة والنزاهة، ولا يقومون إلا بسرقة أحلام الأطفال وتدمير شخصياتهم بممارساتهم الدنيئة.
اسماعيل الحلوتي