النَّابالم الذي أنبتَ أُرْزًا..
رمضان مصباح الإدريسي
تقديم:
في الحرب الفيتنامية التجأ الأمريكيون إلى وسيلة تجسسية جهنمية ؛تتمثل في نثر أجهزة تنصت متناهية في الدقة والصغر،لتحديد مواقع المقاتلين الفيتناميين؛من خلال التقاط ضجيج محركاتهم أثناء التنقل . ظلت هذه الوسيلة وبالا على الفيتناميين ،إلى أن تم اكتشافها وفهم تقنياتها .
لقد كانت حقا “آذان الأدغال” كما سماها الأمريكيون ؛وبدل تعطيلها فضل المقاتلون –في سرية تامة – تضليلها بتسجيلات صوتية وهمية ،لينجر العدو الأمريكي ،بهذا، إلى أكبر عملية تضليل في تاريخه .
هذا النص القصصي المترجم عن رواية “آذان الأدغال” يعكس جانبا مهما من عملية التضليل هذه:
يتم اللقاء في الأدغال بين امرأتين ،إحداهما إطار بارز في القوات الفيتنامية ؛ونظرا لدهائها فهي مقربة من العم “هوشي منه” ،كما يدعوه الفيتناميون.
أما الأخرى فهي عجوز “جارية” JARAI من سكان الجبال ؛أهلتها حكمتها لتحتل الصدارة في عشيرتها “الجارية” البدائية.
يتأسس موضوع اللقاء على الفلسفة الحربية الفيتنامية ،المتمثلة في كلمة السر:”حولوا الأشياء المدمرة إلى أشياء نافعة”
ما يدمر هنا هو النابالم وما ينفع هو الأرز ؛وحينما نرتب بينهما علاقة سببية ،نجد أنفسنا أمام لغز محير ؛لا تقوى على فك مغاليقه سوى العبقرية الفيتنامية التي تمثلها هنا السيدة “انغا” والعجوز”آمي”.
ولعل في هذه القصة ما يدفعنا- اليوم- في اتجاه “قلب الطاولة” على هذا الرعب الذي اسمه “كورونا” لنجعله منطلقا لتصحيح كل شيء من حولنا؛وبصفة خاصة بناء الإنسان المواطن ؛هذا الذي تتعثر كل جهود الدولة اليوم لإقناعه بأنه إزاء جائحة عالمية قد تأتي على كل شيء بهذه البلاد ؛وليس إزاء مخزن متعسف يستكثر عليه التجوال الحر.
لم تدرك الشريحة الواسعة أن حربنا اليوم ،وفي غياب المصل والدواء، هي حرب وعي؛ولا يمكن أن تكسب بدونه؛مهما جيشنا الجيوش .
الحلقة الأولى:
أشعلت “آمي” AMIغليونها ،جذبت نفسا ،وبمجاملة عفوية قدمته للسيدة “انغا” NGHA الجالسة بجانبها. شكرتها السيدة بوقار ،وجذبت بدورها نفسين طويلين مبدية إعجابها بمذاق التبغ. انتقل الحديث ،الذي ظل الى حد الساعة عاما ومنصبا على مواضيع جزئية ، إلى مجال أكثر جدية بالنسبة لهما.
ليس تقصيرا من الجبليين ،تقول آمي،إذا كان الصيد قد أصبح منذ مدة أقل مردودية.
أعرف هذا ، إن السبب راجع إلى أعدائنا الذين أصبحوا يستعملون أسلحة جديدة.
تُوجت الحفلة الصغيرة ،التي دعي لها الصيادون “الجاريون” JARAIS بوجبة طعام أخوية .جرت الحفلة في واضحة النهار ،قرب محطة غابوية محاطة مخابئ طبيعية وآمنة: مغاور عميقة تخترق الجبل ،يمكن الاحتماء بها من الغارات الجوية؛وتستغل أيضا لتصريف دخان المطابخ عبر قنوات باطنية طويلة ،صوب منحدرات بعيدة.
لم يشهد هذا اليوم أي إنذار ،فلا شيء يعكر برنامج التسلية الذي توالت فقراته ،في إطار من البساطة والبهجة ؛بما اشتملت عليه من الأهازيج والرقصات الدائرية ،والعرض المسرحي الطويل ،الذي قدمته فرقة عابرة.
هذه التظاهرات لم تكن نادرة ،فالعم “هوشي منه” HO-CHI-MINH كان يشجع الفنون ،ويطلب من أحسن الممثلين الهزليين ،كلما كان ذلك ممكنا، تنظيم فرجات للجنود .كان هذا مدعاة فخر بالنسبة لهم ،حتى في مواقع القتال الأشد ضراوة . يصونون ،بهذا، في آن واحد، معنويات الجنود وعقيدتهم السياسية .كانت العروض المقدمة تتضمن بالفعل ،ودائما، إشارات إلى هذه السياسة ،والى المعارك .
إشارات بسيطة وفي متناول الجميع ؛وغالبا ما تكون هزيلة ،ولكنها تطمح إلى خدمة الجمهورية الفتية بكيفية فعالة.
اكتست الحفلة في هذا اليوم نوعا من الأهمية نزولا عند إرادة السيدة “انغا” ،التي رغبت في تخليد الارتباط مع هؤلاء الأصدقاء “الجاريين” الجدد.
لقد أصرت ،ليس فقط على ترأسها رسميا،ولكن على المشاركة فيها بنشاط؛ كعادتها في تتبع كل شيء تقريبا،والاختلاط بالناس كلما أتيحت الفرصة.
وهناك سبب آخر دعاها للحضور :الرغبة في لقاء “آمي” ،الحاضرة والراغبة بدورها في التعرف عليها .خلال العرض توسطت الجبليين ،وحرصت على أن تترجم لهم ،أحيانا،بعض الجمل ؛حينما لا تكفي إيماءات الممثلين لتبليغ المضمون الخفي .
بدت التسلية على سكان الجبال ،بقدرما بدت على الجنود الفيتناميين ،إذ كانت تصدرُ عن الجميع ضحكات صاخبة.
أعقبت العرض وجبةُ طعام حظيت بعناية خاصة ؛فالسيدة “فان” VAN التي كان بوسعها القيام بمهام متعددة ،أشرفت على الإعداد بطلب من السيدة “انغا”،بعد أن أحضرت إلى عين المكان مجموعة من الفتيات المتمرسات بإعداد المأكولات الفيتنامية .
أثناء جلوس السيدة “انغا” إلى جانب “آمي” ظلت حريصة على إبداء البشاشة والمودة ،وقد وفقت في هذا بكيفية جيدة.
المدعوون الآخرون من صيادين “جاريين” ،وجنود غير مُميزين برتبهم،وسائقين أيضا ،اختلطوا في ما بينهم وتبادلوا عبارات ودية .
لقد غدا بإمكان الفيتناميين الجبليين التفاهم إلى حد ما ،من خلال تعلم كل طرف لكلمات من لغة الآخر ؛أو اللجوء أحيانا ،بشكل يثير الاستغراب ،إلى اللغة الفرنسية التي لا تزال آثارها عالقة بأذهان البعض.
وحدهم الحراس انزووا بأسلحتهم جانبا ،وبكيفية غير مرئية تقريبا،ومموهة بما فيه الكفاية ،لحمل المدعوين على نسيان جو الحرب الذي يخيم دوما على الأدغال . بعد أن خلص الطعام تناوب “الجاريون” على غليونهم مشركين معهم الجنود من حين لآخر.
“آمي” بدورها ناولت غليونها للسيدة “انغا” التي بدا عليها تقدير هذه الالتفاتة .
انه خطأ أعدائنا الذين غيروا أساليبهم –تقول السيدة انغا- إذ لم يعودوا يكثرون من إسقاط القنابل ،إنهم يقذفون ب”النابالم”.
نابالم؟ بدأت السيدة “انغا” تشرح كيف أن استعمال هذه المادة الحارقة ،أو الفسفور،تنتج عنه حرارة مفرطة ،تأتي على الأخضر واليابس ؛الشيء الذي يُمكن الطيارين من رؤية مثلى للمواقع المقدر أنها خطيرة.
هذا بعينه ما وصفه لي الصيادون – ردت آمي وهي تحرك رأسها – وتعرفتُ عليه أيضا من خلال الأوراق والنباتات .هذا النابالم..
لقد حفظت الكلمة بشكل جيد ،وبدا واضحا أنها لن تنساها.
لم تنطق إلى حد الساعة سوى بكلمات قليلة ،مكتفية منذ وصولها بالملاحظة والاستماع إلى مضيفتها ؛منتظرة الانتهاء من الطعام للتطرق معها للمواضيع الجدية . إن هذا التصرف منها دليل على اللباقة ؛اذ فطرة “الجاريين” تستوي ،من هذا الجانب ، مع سلوك الآسيويين المتحضرين ،أو الغربيين.
إن صيادي القرية رسموا لها صورة جيدة عن سيدة الفيتنام ،مما دفعها إلى قبول ضيافتها ؛رغم الشيخوخة والمسافة الطويلة عبر الأدغال.
أما السيدة “انغا” فقد أدركت من جهتها أهمية “آمي” ولم تدخر جهدا لكسب ودها وثقتها؛خصوصا وهي على دراية بحسن التصرف حينما تكون راغبة في جذب المودة .
لقد ألحت عليها الرغبة في تكوين رأي شخصي عن “الجارية” العجوز ، التي تبدو نوعا ما كأميرة في عشيرتها؛ ولتحقيق هذا لم تكن بحاجة إلى التفرس في وجهها بإصرار ،كما تفعل الأخرى؛فمجرد ملاحظتين أو ثلاث، ونظرة خاطفة واحدة تكفيها لتقدير “آمي” ،وإدراك سبب حرص “الجاريين” على استشارتها. وحتى قبل التناوب على الغليون كان واضحا أن كلا مهما قدرت الأخرى حق قدرها.
كانت “آمي ” سباقة إلى التعرض لمشكل الساعة ؛فكما لاحظت ذلك فان عمليات الصيد الأخيرة أصبحت مخيبة للآمال.
لقد حدث مرارا أن عاد الصيادون خاويي الوفاض.؛ولم يكن أمامهم إلا التسلي بالحديث عن الحصيلة الوافرة للشهور السالفة.
كما يحدث بالنسبة لأوراق الأشجار والنباتات، فان هذا النابالم يأتي على لحوم الحيوانات المقتولة ،إلى درجة عدم صلاحيتها للأكل.لم يعد الصيادون يعثرون سوى على هياكل عظمية متفحمة.
هو ذاك أنا أيضا علمت بهذا ؛لقد أصبحت عمليات الصيد إذن عبارة عن هدر غير مقبول. يجب ،في رأيي، أن نغير من أسلوبنا ،بمحاولة جعل العدو يلقي بهذا النابالم في الأماكن التي يقل فيها الحيوان . ما رأي “آمي”؟
“آمي” ترى بأن الصيادين كانوا على صواب ؛فسيدة الفيتنام تمتلك ،في نفس الوقت، القوة والذكاء.
إن القوة بيد رئيسنا.
لقد تناهى إلى سمعي ذكره .
لكنني أبذل ما في وسعي لمساعدته.
سنبذل جميع ما في وسعنا من أجل هذا؛ لقد أدركنا الآن أين يوجد أصدقاؤنا؛وبهذا الصدد أريد أن أخبرك بأننا أحدثنا تغييرا في صلاتنا من أجل إبعاد الحرب.،تقول “آمي”.
هنا أيضا جعلتها الفطرة الجبلية تعتمد أساليب الآسيويين ،فهم يرون أنه من الفظاظة التعرض مباشرة لجوهر الموضوع ،دون تطعيم الحوار باستطرادات غالبا ما تكون ذات طابع تقريظي للمحاور. السيدة “انغا” التي تجري في عروقها الدماء الصينية لم تر مانعا من هذه المجاملة؛بل على العكس شجعت “آمي” على المضي في حديثها.
صلاتنا من أجل إبعاد شبح لحرب ،كانت منذ شهور تبتدئ هكذا:
أيها السيد ،يا ملك النار ،نحن الموجودون هناك ،إننا معاقون ومسحوقون من طرف الفيتناميين والكمبوديين ..
توقفت لتلاحظ رد فعل السيدة “انغا” التي لم يرف لها جفن ،واكتفت بالقول: إنني أحب كثيرا صلوات “الجاريين” ،ألا تتفضل “آمِي” بسردها لي كاملة؟
أشارت العجوز بالإيجاب وتابعت:
نحن الموجودون هنا لم يعد بإمكاننا الحرث، وزراعة الحقول، وغرس الأرز وإزالة الحشائش .نحن الموجودون هنا كثر فينا الموت ،وكثرت الجثث بفعل المعارك ،نحن الموجودون هنا نعول على إغاثتك لنا ونسجد لكَ.
استظهرت كل الصلاة التي تنتهي بهذه الكلمات: “اجعل أعداءنا يموتون ،هؤلاء القساة في حق عشيرتنا .اجعلهم يموتون في هذه اللحظة.
هذا ما كانت عليه الصلاة عندنا سابقا ،لكن أكرر القول بأننا غيرنا الآن ،وفي كل العشائر الكلمات الأولى ؛لقد استبدلنا كلمة الفيتناميين ب” الرجال الطائرين :HOMMES VOLANTS.
في هذه اللحظة أحست “انغا” بالحرارة تسري في أوصالها ،وومضت في عينيها دلائل الرضا الممزوج بالفخر ؛إن الكلمات الأخيرة تؤكد نجاح سياستها .بعد صمت وجيز أعقب الاستطراد الضروري ،عادت “آمي” إلى موضوع الساعة .
قلتِ منذ قليل بأنك ستحاولين جعل العدو يلقي بالنابالم في الأماكن التي يقل فيها الحيوان ،وقد أجبتك بأننا سنبذل ما في وسعنا لمساعدتك على إنجاح هذه الخطة .إن صيدينا على دراية بالجبال الخالية تقريبا من الحيوان ؛حيث لن يُحدث النابالم سوى خسائر طفيفة.
إني أشكرك ،ردت السيدة “انغا”.
يتبع
P.BOOLE
LES OREILLES DE LA JUNGLE
FLAMARION/1972