“علم نفس الوجه في كشف النوايا والأراجيف العامة”
الدكتور محمد بنيعيش
شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
عندما يختل التوازن ؛ وتتأرجح القوة عند الفواجع والجوائح ؛ يبرز التذبذب والزبد والتفل والغاز الكريه على السطح . فتصدر الأحكام التافهة والمتأرجحة بين الغلط واللغط،الذي يعني لغة الخشب والقصب الجارح والطافي على وجه الماء والملفوظة عنوة من أعماق البئران ولجي البحار .
فهل من سبيل لكشف هذه الأوبئة النفسية الراسخة ؛كما يجتهد العالم الآن بكل قواه ؛ لكشف أعراض وحقيقة فيروس كورونا المستجد والعابر لا غير؟.
1)الفراسة والقيافة والتأسيس لعلم نفس الوجه
لا شك أن العرب والمسلمين خاصة قد علموا دور الوجه في الكشف عن مكامن شخصية الآخر وسبر أغواره النفسية وتحليلها.
فقد كانت الفراسة والقيافة وسائل لإثبات عدة قضايا نفسية ونسبية لديهم،وكان المتفرس أو القائف مع اختلاف في الهدف وطريقة الاكتشاف يصيب في كثير من الأحيان الحقيقة التي يبحث عنها من خلال هذا الإجراء المتميز.
من هنا فقد غلب على اعتقاد الناس ثبوت هذين الإجراءين بصفتهما علمين تجريبيين ثابتين،لهما شروطهما الموضوعية -مع اختلاف وظيفتهما ومصادر كل منهما طبعا-إذا توفرت في شخص ما فإنه سيكون مؤهلا لاعتماد أحكامه في إثبات قضايا قد يعجز البحث والتحري العادي عن أن يبث فيها أو يستدل عليها.
فعندما جاء الإسلام لم ينف هذين العلمين وكذلك لم يطلق لهما العنان كي يتدخلا في الصغيرة والكبيرة من الحياة العامة والخاصة للناس مجتمعات وأفراد وفي قضاياهم المعقدة،وإنما جعل لكل من القيافة والفراسة شروطا وظروفا استثنائية يمكن من خلالها الاعتماد عليهما استئناسا أو فصلا قضائيا.
فكان من أهم شروط الفراسة بالدرجة الأولى ،لمناسبتها للموضوع الذي نحن بصدد معالجته الآن،هو قوة الإيمان بالله تعالى وغلبة عنصر أخلاق الصدق على صاحبها حتى يتيسر له بأن تكون أحكامه وبثه في موضوع ما محل ثقة وفأل،قد يصيب الهدف في كثير من الأحيان مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم :”فراسة المؤمن لا تخطئ”و”اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله”.
في حين أن القائف قد يشترط فيهما ما يشترط في الرجل كامل الأهلية ،بحيث لا يقبل قوله إلا إذا كان ذكرا عدلا مجربا في الإصابة حرا،لأن قوله حكم والحكم تعتبر له هذه الشروط…
من هنا فقد كان المسلمون هم الرواد دائما في هذا المجال وخاصة الفراسة،كما رويت عنهم أخبار كثيرة تدل على صدق فراستهم وقوة أحداسهم.
فكان الباب الأول الذي يتسرب منه المتفرس إلى المتفرس فيه هو وجهه،إذ بمجرد ما ينظر إليه حتى يقول له ماذا جئت به وماذا تنوي عمله…
إن هذا النوع من الفراسة وقراءة ما في الوجه قد كان بمثابة وسيلة فعالة للتحليل النفسي الجيد كما كان يقتضي مستويات عالية من السمو الروحي والطهارة النفسية،وكذلك الدربة على صحة التمييز وسلامة النظر وصفاء السريرة مع وجود قوة حدسية فائقة لدى الإنسان.
فهذا ما لا يمكن توفره إلا عند خواص عباد الله الصالحين، وهو ما يصطلح عليه بالفراسة الإلهية -حسب تعبير الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي- قد دلت عليها النصوص الدينية والآثار،حيث يعرفها بأنها:”تتعلق بعلم ما تعطيه الفراسة الطبيعية وزيادة،وهي أنها تعطي معرفة السعيد من الشقي،ومعرفة الحركة من الإنسان المرْضية عند الله من غير المرضية التي وقعت منه من غير حضور صاحب هذا النور فإذ حضر بين يديه بعد انقضاء زمان تلك الحركة ،وقد ترك ذلك العمل في العضو الذي كان منه ذلك العمل علامة لا يعرفها إلا صاحب الفراسة،فيقول له فيها بحسب ما كانت الحركة من طاعة أو معصية”.
لكن الفراسة أو العلم عن طريق الوجه مقصود حديثنا عنه الآن هو تلك المعرفة من النوع العادي التي يمكن تحصيلها عن طريق التجربة والمشاهدة الحسية، وذلك من خلال الملاحظة الدقيقة لتصرفات الأشخاص وحركاتهم،وهو ما يعرف بالفراسة الطبيعية،التي ذكرها ابن عربي في النص السابق،حيث يعرفها بأنها:
“تعطي معرفة المعتدل في جميع أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته،ومعرفة المنحرف في ذلك،فيفرق بالنظر في أعضائه ونشأة كل عضو بين الأخرق والعاقل والذكي والفطن و الفدن الغمر والشبق وغير الشبق،والغضوب وغير الغضوب والخبيث وغير الخبيث،والخداع والمحتال والسليم المسلم،والنزق وغير النزق،وما أشبه هذا”.
2)الوظيفة الرئيسية للعين في التعبير النفسي
من هنا يبدو أن ابن حزم كان قد اكتسب جل ملاحظاته بخصوص هذا العلم أو الفراسة الطبيعية في ميدان الحب ومحيطه،ومن خلاله سيصدر أحكما كلية على وظيفة أعضاء الوجه بصفتها الممثلة الرسمية لخلجات النفس ومكامنها.
فكان من أهم هذه الأعضاء:حاسة البصر،وهي العين بكل أجزائها وحركاتها الخارجية،والتي بواسطتها تدرك علامات الحب،لأن للحب علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي.
“فأولها إدمان النظر،والعين باب النفس الشارع وهي المنقبة عن سرائرها والمعربة عن بواطنها،فترى الناظر لا يطرف ينتقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس”.
وحينما يذكر العين ويقف عندها فذلك لا يعني أنها كل شيء في الوجه،بل إن حركات الوجه وهيئاته ما بين الانبساط والانقباض كلها ذات دلالات خاصة بها وتأثيرات تكاد توازي ما تحتمله الألفاظ الصريحة،بل إن التعبير بالوجه أبلغ من التعبير بالألفاظ وخاصة في ميدان الحب ،فتكون العين أهم عضو يوظف للتعبير عن الرغبة “لأن العين تنوب عن الرسل ويدرك بها المراد،والحواس الأربع أبواب إلى القلب ومنافذ نحو النفس،والعين أبلغها وأصحها دلالة وأرعاها عملا وهي رائد النفس الصادق ودليلها الهادي ومرآتها المجلوة التي بها نقف على الحقائق وتميز الصفات وفهم المحسوسات”.
وحيثما يستثقل الكلام ويصير من الصعب التواصل مباشرة مع الآخر فحينذاك”فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همسا وبالحاجب أحيانا والتعريض اللطيف بالقول”.
هذه الإشارات الخاصة بالعين والوجه سيعمل على تقنينها في قوالب ثابتة وتعريفها بلغة خاصة بها،وذلك عن دراسة دقيقة وميدانية،نظرا لأنه – كما قلنا مرارا- قد علم من أسرار النساء ما لم يعلمه غيره،وهن اللواتي أطلعنه دقائق علومهن وعنهن تحصل على رصيد وافر من المعلومات الخاصة بهذا الموضوع،ألا وهو لغة العين،فأدلى عنها بما توفر لديه على الشكل التالي:
فالإشارة “بمؤخر العين الواحدة نهي عن الأمر ،وتفتيرها إعلام بالقبول،وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف،وكسر نظرها آية الفرح،والإشارة إلى إطباقها دليل التهديد وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه.
والإشارة الخفية بمؤخر العين كلتاهما سؤال،وقلب الحدقة من وسط العين إلى الموق بسرعة شاهد المنع،و ترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عام وسائر ذلك لا يدرك إلا بالمشاهدة”.
كما لا يفوته بعدما أدلى بأهمية العين في الخطاب الإنساني ودورها في التعبير عن النفس أن يعلل سبب هذا التفوق الذي أحرزه هذا العضو.
فقد يعزوه إلى سمو العنصر المكونة منه العين، إذ أن “جوهرها –أي العين-أرفع الجواهر وأعلاها مكانة لأنها نورية لا تدرك الألوان بسواها ولا شيء أبعد مرمى و لا أنأى غاية منها،لأنها تدرك بها أجرام الكواكب التي في الأفلاك البعيدة وترى بها السماء على شدة ارتفاعها وبعدها وليس ذلك إلا لاتصالها في طبع خلقتها بهذه المرآة.
فهي تدركها وتصل إليها بالنظر على قطع الأماكن والحلول في المواضع وتنقل الحركات، وليس هذا الشيء من الحواس مثل الذوق واللمس لا يدركان إلا بالمجاورة والسمع والشم لا يدركان إلا من قريب.
ودليل على ما ذكرناه من النظر أنك ترى المصوت قبل سماع الصوت،وإن تعمدت إدراكهما معا،وإن كان إدراكهما واحد لما تقدمت العين السمع”.
قد لا يسعنا المجال الآن لكي نحلل هذا النص ونقدر صوابه من خطئه حول تحديد ماهية العين أو طبيعة الإبصار،بحيث أنه قد أودع رأيه المفصل في الموضوع عند حديثه عن الألوان في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل.
لكن غرضنا من عرض هذا النص هو بيان المنهج الذي يعتمده في دراسته النفسية وذلك من خلال الجمع بين التعليلات الفلسفية النظرية والتحليلات الحسية التجريبية لتدعيم فكرته في الموضوع،وهو ما رأيناه عند تحديد دور العين النفسي وسبب سموه على جميع الأعضاء الأخرى كدليل على شخصية الإنسان الحقيقية.
إن موضوع المعرفة النفسية عن طريق ملامح وجه الإنسان قد أصبح علما قائما بذاته في العصر الحديث،وهو مازال في طور التأسيس والبداية،كما لأنه ما يزال يفتقر إلى الأبحاث والقواعد العلمية الدقيقة،ومع ذلك فإن علم نفس الوجه قد يعطي بعض التخمينات الهامة والمفيدة،إذ تدل إحدى الدراسات الحديثة في أمريكا بأن أساس الاتصال يحدث عن طريق الوجه وتعطي النسب التالية:
7من قوة الاتصال يحدث عن طريق الكلام.
38من قوة الاتصال يحدث عن الأسلوب في الكلام والتعبير واللفظ.
55من قوة الاتصال يتمركز في الوجه.
والسبب في هذا التفوق للخطاب بالوجه كما يرى بعض الباحثين هو أن اللسان قد يكذب “عدة مرات أما الوجه وخاص العينان فإنها تشير إلى حقيقة المشاعر الذاتية،إن للعين قوة مغناطيسية قد تصبح سجنا للآخر،وعندما يحدق بي الآخر فإن هذا الفعل قد يؤدي إلى الشعور بالضيق والاكتساح -أي أن الآخر بدأ يسلب حريتي على حد تعبير سارتر-فالتنويم المغناطيسي نفسه هو نوع من اكتساح الآخر عن طريق العينين والإيحاء”.
إن حركة الوجه وخاصة العينين ليست بالأسلوب البدائي للتعبير،أي أنها ربما تكون قد تجوزت واستعيض عنها بالكلام نظرا لأنها كانت الوسيلة الوحيدة للإشارة عند الإنسان، بالرغم من أنه لم يبق لها الآن ضرورة فإن الجسد قد احتفظ بها عملا بمبدأ الجمع بين العادات النافعة،-فيما يذهب إليه جميل صليبا-.
بل على العكس من هذا قد نرى زيادة اهتمام بحركة الوجه عند الإنسان؛وخاصة في ميدان السياسة،حيث أننا كثيرا ما نسمع تعليقات الصحفيين والمراقبين على مظاهر التفاؤل والتشاؤم في اللقاءات بين السياسيين الدوليين من خلال وصف ملامح وجوههم وتقاسيمها أثناء محادثاتهم فيما بينهم.
فهم إما أن يوصفوا بالابتسامات أو تقطيب الجبين أو إطالة النظر و تصويبه بحدة،إلى غير ذلك من حركات الوجه التي يستخلص منها الوفاق أو القطيعة السياسية والتوتر وما إلى ذلك مما يدركه جيدا المتتبعون للشأن السياسي عبر العالم.
إن تحديد مكامن النفس من خلال حركات الوجه وخاصة العين قد أصبح دراسة جد مهمة في علم النفس الحديث ولكنه ما يزال في بواكيره الأولى،كما لم يجد متفرغين له بالقدر الكافي وربط معطيات الماضي بالحاضر في هذا المجال وخاصة بموضوع الفراسة الإلهية وكذلك الطبيعية،في حين لم نجد ولو إشارة طفيفة من طرف الباحثين في الميدان النفسي إلى هذا الذي طرحه ابن حزم في كتابه “طوق الحمامة” من تفصيل حول حركات العين ودلالة الوجه في مجال الحب. كما أن هذا الطرح إذا أتقن فقد يساعد على كشف كثير من المزاعم الإعلامية الموبوءة وتصريحات بعض الزعماء المصطنعين والمتصدرين للمنتديات ،عند الكوارث والنوازل،تحت عدة أغطية وأقنعة في ظاهرها مصلحة عامة وفي باطنها خراب وسراب لا يعلمه كثير من الناس كتلبيس إبليس وذريته.
لا ندعي بأن ابن حزم قد كان له السبق في هذا الميدان؛ وهو التركيز على دور العين والوجه عامة في التعريف النفسي للإنسان،بل قد عرفه قبله اليونانيون وغيرهم كما أشار إلى ذلك بنفسه،غير أن أفكارهم حول هذا الموضوع كانت في أغلبها متشابهة وأحكاما عامة تدور مع لغة المنطق وضيقه النظري المحض كما سبق وذكرنا.
لكن التركيز على الدقائق من حركات العين والوجه بالدقة كما ذكرها لهو ما كان يعوز تحليلات المفكرين النفسيين قبله،إذ أن تحديد نقاط معينة في العين وحركات خاصة منها وإعطائها مدلولات ولغة مناسبة لمما يثير الإعجاب والانتباه،ويجعلنا نقول بأن هذا لمن إحدى خصائصه المنهجية وآفاقها الواسعة في دراسة النفس،وهي إحدى محاولاته المبكرة لتأسيس ما يعرف حاليا ب:علم نفس الوجه.يقول الله تعالى:” يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ”.وهو الهادي إلى الصواب.