إلى أي مغرب سنعود؟
رمضان مصباح الإدريسي
“العِلم في شهب الأرماح” لا في الدعاء:
إن الجائحة ،بوطننا وبالعالم ،إلى انحصار،ما في ذك شك؛وقد تؤول حتى إلى زوال تام في وجود المصل الزؤام.
لكن هذا الخلاص لن يكون بالدعاء الديني –أي دين – الكسول والخالي من عناء البحث العلمي ،وهو من تفاصيل “اقرأ” التي سبقت “ادع”.
سيكون ،حسب ما نتتبع اليوم الإرهاصات والمنطلقات،من بنات العقل البشري ،ذي الثقة في جوهره الذي يتميز به عن سائر الكائنات المعروفة؛والمتوثب دوما لمقارعة التحديات التي تتمخض عنها الطبيعة ،والمسار الدينامي لهذا الكون الشاسع والرائع.
فكما مُكنا من الأظافر العشرين – زائد الأسنان – التي يقتضيها الحد الأدنى من السعي من أجل المعاش البدائي،مُكنا من عقل لحظي و استراتيجي يرسم مسارنا التاريخي التحضري، القائم على التحدي والاستجابة.
ما محل فيض الأدعية الكرونية هنا،إلا أن تكون تأكيدا على عضنا بالنواجذ على كوننا من المخلفين ،ومن المودعين على أرصفة كل القطارات المتجهة صوب محطات الحضارة.
وإلا أن تكون غذاءا وجدانيا ،فرديا وجماعيا ؛قد يفيد في مجاله ؛لكنه لا يقدم شيئا ناجعا – باستوريا – للإنسانية ،وهي في أمس الحاجة إلى من يعبر إلى المغارات الرهيبة،بالجزر النائية، و يقطع رأس الوحش،كما في الميثولوجيا اليونانية .
لا يجب أن يغرب عن بالنا أن أنوار العلم لاحت حينما غربت شمس الأجراس والأدعية.
وما دعا الفاتحون الأولون،فقط، بل ضربوا أكباد خيولهم و فتحوا.. و”إذا رابك أمر فقع فيه” كما يقول الإمام علي . لا تقع فيه بالدعاء فقط ،لأنك إن فعلت ،في حرب وتدافع مثلا، ما أسرع ما تشحذ الشفار رأسك.
وقديما قالها أبو تمام :
والعلم في شهب الأرماح لامعة ** بين الخميسين لا في السبعة الشهب
إلى أي مغرب سنعود؟
بموازاة التدبير الطبي والاقتصادي لهذا القضاء الصحي الذي نزل ؛وفي ركابه رجة اجتماعية ،اقتصادية،سياسية وثقافية،لم يكن أحد يتوقعها ،دوليا ووطنيا؛يجب الاشتغال ،بنفس الزخم،على سؤال العودة هذا.
لقد توقف محرك الاقتصاد كلية ،أو كاد؛وسيطوي شهرين أو أكثر ،وهو في وضعية الموات واللاشحن لبطاريته.
فكيف نضمن أن تسعفنا هذه البطارية الضعيفة في إشعال المحرك بعد الخروج من الحجر؟
وهل سيكون هو نفس المحرك الذي أسكتناه في العشرين من مارس؟
يحضرني ،وأنا بصدد مقاربة هذين السؤالين ،حوار قديم ، دار بيني وبين أحد أطر شركة مفاحم جرادة ،التي عرفت ما يشبه السكتة القلبية ،بموجب اتفاق 17فبراير1998،الذي أفضى إلى إغلاق سريع لجميع مناجمها وتسريح 5000عامل وإطار(سنة1999).
كان الحوار على خلفية الوضعية الاقتصادية والاجتماعية المأساوية التي أصبحت عليها المدينة،بعد سنوات على الإغلاق ؛ بعد أن همدت الحياة،تماما، في قلبها الأسود النابض. أذكر أن محاوري أكد لي أن إغلاق الشركة عرف ارتجالا كبيرا غير مبرر؛إذ كان يتطلب عشرين عاما على الأقل ،للتصفية الناجعة لوضعية العمال،وآليات وممتلكات الشركة ،وإيجاد البدائل الاقتصادية للفحم بالمنطقة كلها.
لقد ضرب لي مثلا بالمصنع الذي كنا نتواجد به؛والذي باعته الشركة ،بعد الإغلاق،لبعض مهندسيها بأبخس الأثمان:80مليون س على ما أذكر،والحال أن آلة واحدة به(جديدة) أرانيها :TOUR اقتنتها الشركة ب:200 مليون س.
هذا عن الإغلاق النهائي لشركة واحدة بمدينة صغيرة ؛فماذا عن الإغلاق المؤقت، الاقتصادي والاجتماعي، لكل الوطن ؛ثم معاودة فتحه،بعد كل الخسارات الرهيبة المسجلة في أغلب قطاعاته؟
حتى العود على بدء لم يعد ممكنا ،لأن وضعية البداية لم تعد قائمة،كما كانت.
طبعا اقتضى الانتشار الرهيب والسريع للجائحة إلى ترتيبات قاسية سريعة ؛تأسست على أمر تاريخي لجلالة الملك :
حياة المغاربة مقدمة على اقتصادهم .
ليس هذا بديهيا كما يبدو،لأن دولا عظمى تلكأت ،واستهانت مفضلة دوران العجلة الاقتصادية على حياة الناس،وقد تركتهم لمصيرهم ،كقطيع هَملٍ ينتظر نبيا اسمه المناعة،انتظار “غودو” .
لقد كان الأمر الملكي بمثابة الشرارة الأولى ،وقد أعقبه توهج غير مسبوق لوطنية مغربية خلناها في طريق الانقراض.
تدخلت الأوزان المالية الثقيلة في صندوق كورونا؛مما صالح الشعب مع أثريائه ؛ونهضت للأمر كل السلطات ،بوجه آخر لم يعرفه لها المواطنون: قائدات وقواد ،بكل أطقمهم ومهاراتهم التواصلية ،يترجونهم ،حد الدمع الحار،لحفظ نفوسهم من الوباء.
رجال أمن ودرك وجيش وقوات مساعدة، لا هم لهم عدا تحصين الناس بتوعيتهم ، وتنظيم تحركاتهم الاستثنائية.فارقوا أسرهم ليتفرغوا للأسرة الكبرى.
واكتمل الصلح بتغير نظرة المواطنين إلى الأطباء والممرضين – المخزن الصحي – واقتناعهم بأن بعض الثمار الفاسدة لا تعني أن الشجرة كلها باتت لا تصلح إلا للقطع. أطباء وصل بهم الأمر إلى الاستشهاد البارد،لغياب آلة الحرب من أمصال وأدوية وأجهزة تنفس،إضافة إلى الافتقار للوجستيك استقبال المرضى.
ستتدخل الإرادة الملكية ،مرة أخرى، ليتحرك الجيش الملكي الصحي ،مما أكمل مشاهد حرب حقيقية.
ورغم العوائق الموضوعية، واصلت الأطقم التربوية عملها عن بعد، لندخل ،إلى حد ما ،مرحلة “مجتمع بدون مدرسة “الذي نظر له “ايفان اليش” في كتابه المعروف.
وامتشق أرباب القلم،من المثقفين، أفكارهم ليساهموا في التوعية ،وتثبيت قرارات الدولة الصحية ؛وتخليد تفاصيل حرب فيروسية ضروس،لتنضاف إلى الأرشيف الوبائي الإنساني.
وعليه فان سؤال :إلى أي مغرب سنعود لا يدفع فقط في اتجاه تحديد سبل تجاوز النكسة الاقتصادية المباغتة ،كطعنة خلفية غادرة؛بل يستدخل أيضا سبل صيانة “مكتسبات” الجائحة ،بكل اشتغالاتها السياسية،الاقتصادية،الاجتماعية والثقافية.
إنها كما عرضت خطوطها العريضة،غنيمة حرب كورونا ؛كانت دائما موجودة في متاعنا ،لكن دون أن ننتبه لها، لولا أن حمشتنا الجائحة ،فنهضنا ونهدنا ،لا نلوي على شيء عدا الوطنية “المستعادة”.
ونحن في هذا لا نزيد على الروح المتأصلة في المغاربة منذ القديم؛يفرقهم الرخاء والدعة والسكينة ،وتجمعهم الهجمات الخارجية ،فينهضون “حرْكة “واحدة لا تترك عدوا غازيا إلا أغرقته في أنهارها، أو ألقت به من شواهقها.
الغنيمة والعزيمة:
بهما يجب أن تمتلئ كأس لا نصف فارغا فيها.
كأس وأنخاب فرحة العودة إلى مغرب آخر ؛وان استمر كما كان – وهو لا يستمر – فلن تقوم لنا قائمة ولن تنتشر لنا أجنحة نزهوا بها عاليا. سنقنع ،كسالى، بترميمات مرتجلة للاقتصاد ؛وسننسى من جديد هبتنا الصحية والتعليمية والأمنية؛وستعود القائدة حورية وأخواتها إلى مكاتبهن لقراءة بريد الوزارة وتوقيع الوثائق .
مغرب آخر يمتح من شرعية الإجماع الملكي والشعبي الذي ربح معركة الجائحة،وهي أشرس من معارك الآلة الحربية المنكشفة البشاعة والأسنان.
ولا حجة لأحد لكي لا ينشط لهذا المغرب الجديد:
لقد انكشف المخزن فإذا به عاشق متيم للوطن والمواطنين ؛خلافا لكل من ظل يؤمن بأنه قاطرة جذب إلى الوراء،ومشتت جمال القافلة ،لاغير، حتى تثَّاقل في سيرها .
لقد تأكد في لحظة الحسم في مصير البلاد ،ألا شيء يتحرك تحت الطاولة ؛وليس فوقها غير بذل الجهد لصيانة الحياة ولو جائعة.
وقد تحققت الاستجابة المواطنية التامة ،وتكرر توقيع عقد اجتماعي بطعم بيعة جديدة؛وانزوى الناس في منازلهم ،موقعين للدولة/المخزن على بياض؛ويمضي الشهر الأول والثاني ،وهم على العهد والعقد.
أي انطلاقة أقوى وأصح من هذا، لنقتنع بأننا أهل لمغرب آخر جديد،نصوغ فيه مشروعنا الوطني التنموي ،بثقة كاملة في النفس.
لقد جربنا حتى أن يُغلق العالمُ دوننا ،وننهض لعزلتنا وحربنا ،واثقين في عضلاتنا الاقتصادية والاجتماعية ،بعيدا عن قوى دولية كنا نخال ألا حياة لنا بدونها.
واكتشفنا أن حظوظنا في البقاء أقوى من حظوظ دول ،كنا لا نتجرأ على مطاولتها اقتصاديا.
واكتشفنا أن نكون نحن ،ولا شيء غير هذه النحن ،المغربية المقاتلة والصامدة؛التي ورثناها ثروة لا مادية أضخم وأفيد من كل الثروات.
إن كل توابل النهضة المغربية الجديدة متوفرة؛ولا ألذ وأنكه ،في مطبخنا ومائدتنا ،من بهار الثقة في كل مؤسساتنا ،التي رسختها – يا للمفارقة- جائحة خلناها أم قشعم شمطاء ،لا تنبت غير الزقوم.
طبعا ،وكما في كل قصص النجاح،لن نعدم –خارجيا بالخصوص – من سيسعى لإفساد ما اكتشفه المغاربة في أنفسهم من طاقات.
سنعتبر كيدهم ،أيضا،غنيمة من غنائمنا تشحذ عزائمنا ،في جهادنا الأكبر .
لقد تم التفريط ،اضطرارا أو سهوا،في أمور كثيرة ،في مغرب ما قبل كورونا ؛وأتمنى ألا نفرط في شيء من أمور مغرب المابعد.
تاريخنا يلزمنا وجغرافيتنا تصغي إلى مخاض عزائمنا.
وليس لنا إلا أن ننطلق ببطارية جديدة. وبعد العزم والفعل التوكل على الله .