خاطرة مهداة إلى روح الراحل الأستاذ بنيونس الوالي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
خاطرة مهداة إلى روح الراحل الأستاذ بنيونس الوالي رحمه الله
بقلم عبد المجيد بنمسعود
مع طلوع فجر أول يوم من شهر رمضان الأبرك، لعام 1441 للهجرة، موافق25 أبريل 2020،صعدت إلى بارئها روح أخينا العزيز، الأستاذ الجليل، بنيونس الوالي، تغمده الله برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجعله في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
إن قلوبنا لتختلج بحزن عميق، وتستشعر وحشة الفقد وألم الفراق، وهي راضية بقضاء ربها وقدره المحتوم، قدر الموت الذي كتبه على كل مخلوق. إن كل من كتب له أن يرتبط معك برابطة من الروابط، أو وشيجة من الوشائج في دروب هذه الحياة الموحشة الفانية، أو كل من صادفك عرضا في دائرة من دوائرها المفعمة بالتدافع والصراع، أو التعاون والتداعي، ليشهد لك بطيب نفسك وصفاء معدنك، ورحابة صدرك، وعلو همتك. لقد كنت حقا نعم الأب لأبنائك، ونعم الخل لخلانك، ونعم الأستاذ لطلابك، لقد كنت حريصا على بذر بذور الخير والصلاح حيثما حللت وارتحلت، كانت الكلمة الطيبة شعارك، وحسن الخلق ديدنك، والابتسامة الصادقة مدخلك وعنوانك. كانت كل هذه السجايا سر تجذرك في صميم مجتمعك الذي كنت فيه شامة بين الناس، وسر نفاذك إلى قلوب أحبابك وأصفيائك، وإخوانك وخلانك.
لقد كان سمتك الذي يشي بالتواضع والوقار، أول ما يطالع من يلقاك في زحمة الحياة، فيشعر على التو بالارتياح والاطمئنان، وبالسكينة والأمان، ثم تشفع ذلك بابتسامتك البريئة أو ضحكتك المتميزة، أو بدعابتك الحلوة الهادفة، فيشعر من يقابلك أن معرفته بك، تمتد إلى زمن بعيد، فتمتد لذلك معارفك لتشمل الصغير والكبير والميسور والفقير، فكنت بوسعك، بفضل هذه الخصيصة العزيزة النادرة، أن تجمع حولك حلقة واسعة القطر، تضم ألوانا من عناصر البر والخير. أذكر أنك كنت ممن تعلقت قلوبهم بالمساجد، تحرص على المساعدة بما تستطيع في رفع بنيانها، وإعلاء منارها. بل كنت من جلة عمارها من العلماء والخطباء، فلقد ظللت تصدع بكلمة الحق، وتؤدي رسالة البلاغ، وتهدي الناس في لجة الحياة، إلى قوارب النجاة، وكنت ترسم أمام أعينهم لوحة الإسلام، بألوانها الزاهية، وخطوطها اليانعة الخضراء، وأثوابها القشيبة الزهراء، فكانت قلوبهم تخشع، وأعينهم تدمع، فيستشعرون حلاوة الإسلام، فيهتز وجدانهم بحبه وإعزازه، وتتعلق أرواحهم بقيمه السامية السمحاء. ولست أنسى ليلة كنا مدعوين بمناسبة صدقة أقامها أحد الإخوة، فلما جاء وقت الختم بالدعاء، كان الذي تولى الختم، واحدا ممن نعموا بالتلمذة لك والتعلم على يديك، فكنت أنت ممن خصهم ذلك الطالب العارف بجميلك بالدعاء، ولم تكن أنت حاضرا إذ ذاك، لأنك كنت طريح الفراش، بسبب المرض الذي كنت عايشته لمدة ليست بالسهلة ولا الهينة، فما كان منه إلا أن اغرورقت عيناه بالدموع، وهو يلهج بالدعاء الخالص لك بالشفاء.
أما العلم، فيشهد العارفون بسيرتك أيها الأخ العزيز، أنك كنت من المرابطين في ثغوره، والمتبتلين في محرابه، وكنت من الثلة الخيرة التي، بعد أن استجمعت ما لا بد منه من زاده وعتاده، انتصبت لرفع أعمدته وقبابه، هنا في جامعة وجدة، مدينة الألفية البهية، وكنت حريصا على بذل جوهره ولبابه.
ولست أنسى ذات عشية عندما زرتك وأنت بعد في منزلك بحي لازاري( ظهر لمحلة)، فكان مما قدمت لي بنوع من الإجلال والاعتزاز، حزم الجذاذات الخاصة ببحثك لنيل الماجستير، في موضوع قواعد الترجيح، وكانت تتربع في خشوع وجلال فوق الرفوف، فداخلني السرور بذلك الصنيع، ودعوت لك من أعماق قلبي، بالسداد والتوفيق.
ومما أذكره من مناقبك وسجاياك الجميلة يا أخي بنيونس، التي تعكس نبل روحك، وصلاح طويتك، وخلوص عرفانك لمن أسدوا لك معروفا، ومنه معروف العلم والتعليم، أنك ذكرت لي أنك ما أعجبك سفر من الأسفار، لندرته وقيمته العلمية، إلا كنت حريصا على أن تقتني منه نسختين، تهدي إحداهما لشيخك وأستاذك الذي محضته حبك وإخلاصك، العلامة مصطفى بنحمزة، وكنت أنت ممن تابعوا رسالته بشعبة الدراسات الإسلامية، التي تشرف بتأسيسها، مع ثلة خيرة من الرواد، وإرساء دعائمها بكلية آداب وجدة، في زمن كان مجتمعنا وجامعتنا أحوج ما يكونان لمثل ذلك الغرس الطيب، والشتلة المباركة، التي آتت أكلها بإذن ربها، وأصبحت شجرة وارفة الظلال، استظل بظلها الكثيرون، وناصبها العداء، أصحاب القلوب المريضة، والأفواه المرة، على حد معنى بيت الشاعر أبي الطيب المتنبي رحمه الله:
ومن يك ذا فم مر يجد مرا به الماء الزلالا
أما خصائصك العاطفية فأذكر منها أنك كنت رجلا ودودا، تعبر عن تقديرك، وتعرب عما يعتمل في نفسك لمن تكن لهم مشاعر الود والإكبار والاحترام، وكان ذلك مدعاة منك لتوثيق أواصر المودة بينك وبين من يستشعرون إزاءك ذلك التفاعل الإنساني الرحيب، فيمتد بينك وبينهم حبل الأخوة المتين، فينشأ عن ذلك توسيع لدائرة الخير والتعاون على البر والتقوى، لقد كنت ممن يبذلون الابتسامة البريئة، والكلمة الطيبة الصادقة، متمثلا في ذلك ما أوصى به خير الأنام، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
ومما كنت تتحلى به يا ابن يونس، وكان يمثل تاجا على رأسك، وحلية تزدان بها شخصيتك، خلق الصبر والشكر، فقد واجهت ابتلاءك بصبر لا يخالطه جزع، وكنت تعلو على الآلام والأوجاع، بما حباك الله من قدرة على التحمل والاصطبار، ومن عجيب أمرك أيها الأستاذ الجليل، أن كان من دأبك أن تحول مقام الصبر إلى مقام الشكر، فكنت تدرك ببصيرة المؤمن التي تنفذ إلى أعماق الأشياء، حقيقة الابتلاء، وما يخبأ فيه من صنوف الأجر وجميل الثواب، لمن صبر على الألم واللأواء.
ألم تقل في كلمتك المشرقة في حفل تكريمك في قاعة السلام بكلية الآداب التي كنت من أساتذتها الصادقين، وأبنائها البررة، والتي أطرتها جمعية النبراس للثقافة والتنمية،بتنسيق مع إدارة الكلية، ألم تقل بملء فيك، ومن أعماق وجدانك، وأنت تستشهد بحديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، الذي يبين أن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، فقد قلت بالحرف: أن حياة المؤمن كلها خيرات في خيرات، من الحياة إلى الممات.
ومما كنت أكبره فيك، وأعجب له في نفس الوقت، وأغبطك عليه، تجلدك وثباتك، وأنت تجالس من يعودك من أصدقائك وإخوانك، فكنت حريصا على أن تبعد جو الجلسة عن المظاهر التي عادة ما تسود ظروف عيادة المرضى، فما أكثر ما كنت تصنع جوا من الأنس والانبساط، فتثير من الأحاديث والذكريات التي تربطك بمن عاشروك من إخوانك في مختلف مراحل الحياة، فكان من شأن ذلك أن يحول مسحة الحزن والتأثر النفسي على وجوه عائديك إلى نوع من الانبساط في الأسارير. لقد كان ذلك منك خلقا رفيعا لا يحظى به إلا أصحاب النفوس العظيمة والهمم العالية.
لقد شاءت الأقدار أن تلتحق بالرفيق الأعلى في زمن كورونا التي صححت الموازين، وقومت المفاهيم، لقد رحلت وفي جعبتك الكثير من صور مخازي هذا الزمان النكد، الذي ديست فيه القيم، وأهدرت كرامة الإنسان، وصدق فيه الخؤون، وخون الصدوق.
وكم كان قاسيا على أحبائك أن لا يلقوا على جثمانك نظرة الوداع، ويشيعوك إلى قبرك، بعد أن يصلوا عليك صلاة الجنازة ويدعوا لك بالرحمة والمغفرة والتثبيت.
ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد، ولا اعتراض على قضاء الله وقدره. فلله الحكمة البالغة. لقد قلت لأحد الإخوة، إن الأستاذ بنيونس الوالي، كان خليقا، لو كانت وفاته في الزمن العادي، أن تحضر معه الجموع الغفيرة، فقال لي إنه أمر الله، لقد ذهب طاهرا عند ربه، فنسأل الله له مقام الشهادة، ودعاء ملائكة الرحمن.
من تراني أعزي فيك أيها الأخ العزيز؟ إن الدوائر التي كنت تتحرك فيها بالخير والإصلاح، وبالنفع والفلاح، عديدة ومتنوعة، من أسرتك الكريمة وأولادك الأعزاء، وإخوتك وذويك، وكليتك التي افتقدت فيك الأستاذ العامل والناصح الأمين، ومنبرك الذي سوف يأسى عليك، ويحزن لفراقك، وجمهور الجمعة الذي حرم من زادك وغذائك، ومعارفك وجيرانك، وكل من كنت لهم مصدر أمن وأمان، ونفع وإحسان.
فلكل هؤلاء وأولئك، أعبر عن تعازي الحارة في هذا المصاب الجلل، وعن دعائي لهم بالصبر والسلوان.
وإني لأسأل الله الرحيم الرحمن، أن يتغمد الراحل العزيز برحمته الواسعة، ويغدق عليك شآبيب الغفران، ويلحقنا بك مسلمين لا مبدلين ولا مغيرين ولا فاتنين ولا مفتونين آمين.
وجدة في 04 رمضان 1441 موافق 28 أبريل 2020