الاستثمار التاريخي والاجتماعي للأخلاق عند ابن حزم الأندلسي
الدكتور محمد بنيعيش
شعبة الدراسات الإسلامية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
العلم الأخلاقي بين مصادر الرواية والمعايشة
نتناول في هذا الموضوع مسألة الأخلاق في التاريخ والمجتمع كرصد ميداني موثق ومقعد ، وذلك من خلال روائع الفكر العربي الأندلسي الإسلامي ابن حزم نموذجا ،والذي سيحدد لنا هذا المنهج الرصدي في كتاب”الأخلاق والسير”الذي عبر فيه بأنه كان قد بلي بتصاريف الزمان وإشراف على أحواله حتى أنفق في ذلك أكثر عمره،وهذا إن دل على شيء سوى أنه لم يكن من أولئك العلماء الذين يصدرون أفكارهم من موقع أرائكهم ومن دون الاندماج في مجتمعهم وممارسة عملهم في ساحته.
فقد كانت له معايشة وجدانية لأحداث عصره،بحيث إنه حينما يذكر تصاريف الزمان هاته فلا يقصد بها أحوال نفسه الخاصة وإسقاط الذاتية وإنما يصور المجتمع بصفة عامة،حتى قد يبدو هذا الأثر العام أكثر بروزا لديه في “طوق الحمامة”منه في كتاب الأخلاق السير.
لهذا فقد كانت محصلاته العلمية غالبا ما تأتي على شكل إخباري بينما في “الأخلاق والسير”قد غلب عليها الطابع الإنشائي بالدرجة الأولى وذلك في قالب نظري ملخص ومحتو لعصارة محصلاته الفكرية.
في حين قد عرض بعض فقرات كتابه هذا بصورة إخبارية كمثل التي يقول فيها:
“غاضني أهل الجهل مرتين من عمري: إحداهما بكلامهم فيما لا يحسنون أيام جهلي،والثانية بسكوتهم عن الكلام بحضرتي،فهم أبدا ساكتون عما ينفعهم ناطقون فيما يضرهم،وسرني أهل العلم مرتين من عمري: إحداهما بتعليمي أيام جهلي،والثانية بمذاكرتي أيام علمي”.
إن هذا التعبير وإن صاغه بصورة شبه إخبارية إلا أنه يمثل بناء نظريا في مضمونه وليس إخبارا عن حادثة معينة،لأنه يمكن تطبيق هذه الفكرة على مر العصور وشتى المستويات والمجتمعات الإنسانية متى توفرت الظروف الممهدة لها .وخاصة في زمننا هذا حيث التسيب والتكالب والتهافت بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
هكذا فقد لا نكاد نجد أثرا لذكر حادثة معينة أو استمارة واستبيانات بالمصطلح الحديث مدرجة في هذا الكتاب،يبني عليها فكرته -كما فعل في طوق الحمامة-ويستشهد عليها بالوقائع المشاهدة من طرفه،باستثناء استشهاد واحد أورده في العجب بالعلم،ذكر فيه أن أحد معاصريه وما عرض له في علمه ،كما يقول عنه :
“ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته،وأنه ركب البحر فمر به هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه إخلالا شديدا لم يعاوده ذلك الذكاء بعد.
وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له،فما عاودته إلا بعد أعوام”.
أما باقي أقواله في هذا الكتاب فأغلبها ملاحظات عامة وقواعد نظرية صاغها على شكل فقرات مختلفة يضمها موضوع خاص بها،وهي في أغلبها نابعة من ملاحظات دقيقة ذات مصدر اجتماعي وأحداث واقعية عاشها بشكل مباشر،ولم يكن وضعها في قالب حكمي إلا تلخيصا وتتويجا لتجارب مر بها في حياته الاجتماعية.
2)التاريخ والسير في ترسيخ الأخلاق
فلقد تضمن كتاب “الأخلاق والسير” تلخيص محصلاته العلمية وخاصة تلك التي كانت نتيجة الممارسات الاجتماعية،وليس أدل على مستوى اندماجه المجتمعي من ذلك الكم الهائل من الدراسات الفقهية التي تركها لنا والتي تمثل أكبر حقل لممارسة الحياة الاجتماعية على أوسع نطاق وإعطائها الحلول الملائمة للمشاكل والنوازل المعترضة لها.
إذ في كتب الفقه سيفرغ أخلاقياته ومذهبه فيه كما أن لجوءه إلى التاريخ له أيضا مبرر اجتماعي وأخلاقي في آن واحد.
بحيث يرى أن دراسة التاريخ جد مهمة في التربية الخلقية ،لأن الإنسان له ميل طبعي نحو الاقتداء بالأفاضل،وبقدر ما ذكروا في التاريخ بقدر ما كان لهم من الأثر أكثر وقعا في النفس لدى أغلب الناس من النصح الشخصي والتوجيه الصريح.
إن أهم جانب في التاريخ هو سيرة نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمن:”أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه”.
فسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عنده دليل قوي من الأدلة الساطعة على ثبوت نبوته،حقا؛إن المعجزة من أدلة النبوة ولكن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تزيد في قوتها ودلالتها على سائر المعجزات المادية.
من هنا فقد كان الجانب الذي مثل أهم مبحث في دراسته حول السيرة هو جانب أخلاق النبي،لهذا فهو حينما كتب سيرة الرسول في كتابه جوامع السيرة سيميز بالعناية البالغة فصلين هامين منها وهما:أعلام الرسول وخلقه وشمائله.
هذان الموضوعان سيكررهما في كتاباته الأخرى،لأنهما شاهدا حق على نبوة رسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأن ثانيهما يمثل الجانب العملي في الكمال الخلقي”.
يقول بهذا الصدد:”إن سيرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة تشهد له بأنه :رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا،فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى”.
فالأخبار العلمية جد مهمة في الجانب الأخلاقي،وهي إما أن تؤخذ عن طريق الرواية وهذه لا مجال لإعادة صياغتها،وإما أن تلتقط عن طريق المشاهدة والممارسة الذاتية،وهذه تحتاج إلى صياغة شخصية وإطالة الوقوف عندها وربطها بأشباهها في الماضي وإخراجها على شكل تلخيصات وبنود أخلاقية،وهذا ما سلكه في كتاب “الأخلاق والسير”.
فهو حينما يورد الفكرة الأخلاقية لم تكن مجرد رؤية نظرية وإنما هي تعبير عن محصلات علمية وواقعة من الوقائع الاجتماعية التي عايشها وتأثر بمنظرها ثم صاغها في قالب أخلاقي عملي.
فإذا رأيناه يتحدث عن سلوك السلطان مع حاشيته فليس ذلك إلا لأنه رأى نمطا منه والآثار المترتبة عنه ،كما يعلل لنا في هذا النص :
“لاشيء أضر على السلطان من كثرة المتفرغين حواليه،فالحازم يشغلهم بما لا يظلمهم فيه،فإن لم يفعل شغلوه بما يظلمونه فيه،وأما مقرب أعدائه فذلك قاتل نفسه”.
3)ابن حزم وابن خلدون حول الأخلاق الاجتماعية
هذا النموذج السياسي الذي أورده قد نراه مطابقا لواقع عايشه فانطبع في ذاكرته حتى أخرجه على شكل قالب حكمي،وهو إذا تأملنا نجده يؤسس نظاما إداريا خاصا بهيئة الدولة حتى يستمر العمران ويستقر أمر الدولة.
فالمنحى الاجتماعي في تفكيره شبيه بالطريقة التي نهجها ابن خلدون في دراسته للعمران والتي اعتمد فيها على الجانب الأخلاقي بالدرجة الأولى وذلك حينما يقول:”الظلم مؤذن بخراب العمران”.
فهذا يكاد يطابق قول ابن حزم:”فالحازم يشغلهم بما لا يظلمهم فيه فإن لم يفعل شغلوه بما يظلمونه فيه”،بحيث يكون هذا الظلم ليس صادرا من البنية الفوقية نحو التحتية وإنما هو من البنية الفوقية فيما بينها.
ولهذا فالمسؤولية الأخلاقية تبقى ضرورية في ما يخص حضورها سواء لدى العامة أو الخاصة،كما أن البناء الاجتماعي ينبغي أن يسوده التكامل في وجهات النظر وخطط العمل المشترك بين السائس و المسوس .
فكان هذا جانبا مهما من تفكيره الاجتماعي الذي صاغه في قوالب أخلاقية ربما تكون قد أثرت في طريقة تحليل ابن خلدون من هذه الناحية،وخاصة حينما ربط هذا الأخير قوة العمران بمستوى الأخلاق وارتهانه بها…
“وإذا تأذن الله بإقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة و لا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك وجعل في يديهم من الخير:”وإذا أدنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا”واستقر ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيرا مما قلناه ورسمناه”.
فلقد تنبه بعض الباحثين إلى وجه التشابه بين الرجلين في هذا الجانب الاجتماعي وطرق التحليل لمظاهره،الشيء الذي حدا بهم إلى وضع علامات استفهام حول ما أورده ابن خلدون من أفكار اجتماعية فذة في “المقدمة” هل هي نتيجة الدراسات المباشرة للأحوال الاجتماعية ومعطيات الدراسة التاريخية أم هي اقتباسات من كتب كانت قد أوغلت في هذا الميدان قبله؟
فلقد ذهب إحسان عباس بقوله:”وقد نبهتني هذه المذكرات وغيرها إلى أن ابن حزم ربما كان من أولئك الرواد الذين مهدوا لابن خلدون طريقه لوضع علم الاجتماع،فذهبت أقارن ودلتني المقارنة على اتفاقهما في بعض المظاهر مثل اعتقادهما أن التاريخ علم شريف الغاية:لأنه يوقفنا على أحول الماضي من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم حتى تتم في ذلك فائدة الاقتداء لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا” .
فابن حزم حينما كتب التاريخ قد كان يؤرخ للعصر القديم و الماضي والمعاصر،لكن أبرز أفكاره الاجتماعية والسياسية كان يفرغها في تحليله لأحداث عصره وخاصة عما يجري بالأندلس الذي عاش في أحضانه ومثل جزء منه.
لقد راقب عن قرب الأحداث التي تعاقبت عليه،فكانت السمة الغالبة عليه هي أخذه في الانهيار والإشعار بالأفول،فلم يستطع السكوت عن هذا الوضع وخاصة الجانب السياسي منه،لغاية أن كان يصيح بانتقادات علميا وجدية كإنذار لمجتمعه بسوء المصير حيث يقول:
“اجتمع عندنا بالأندلس في صقع واحد خلفاء أربعة كل واحد منهم يخطب له بالخلافة بموضعه،وتلك فضيحة لم ير مثلها:أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام كلهم يتسمى بالخلافة وإمارة المؤمنين،وهم خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام من بعد اثنين وعشرين سنة من موت هشام وشهد له خصيان ونسوان فخطب له على منابر الأندلس وسفكت الدماء من أجله،ومحمد بن القاسم خليفة بالجزيرة ومحمد بن إدريس خليفة بمالقة وإدريس بن يحيى بن علي ببشتر”.
هذه المظاهر السياسية المتردية والأوضاع الاجتماعية المتسمة بالظلم والانقسام- كما شاهدها- سيضعها في قوالب أخلاقية مجملة ومستخرجة من صميم المجتمع،كما أنه سيحكم ملاحظاته للطبقات الاجتماعية وسيقسم النماذج الأخلاقية على حسب تلك الطبقات وانعكاس مستوياتها المعيشية المادية والبيئية على أخلاقياتها.
فليست الرذيلة هي مجرد انحراف سلوكي ووليد قصور فكري أو إرادي فردي فقط،وإنما قد تكون في بعض الأحيان انعكاسا لواقع معين وبيئة خاصة على أشخاص تحتضنهم في جناحها…
فالأنماط الاجتماعية الأكثر توريثا للبذاءة باللسان لدى بعض الناس قد تتمركز في ميادين و مهن معين،إذ أشد الناس استعظاما للعيب بلسانه هو أشدهم استسهالا لها بفعله.
ويتبين ذلك في “مسافهات أهل البذاء ومشاتمات الأراذل البالغين غاية الرذالة من الصناعات الخسيسة من الرجال والنساء،كأهل التعيش بالزمر وكنس الحشوش والخادمين في المجازر وكساكني دور الجمل المباحة لكراء الجماعات والساسة للدواب.
فإن كل من ذكرنا أشد الخلق رميا من بعضهم لبعض بالقبائح وأكثرهم عيبا بالفضائح وهو أوغل الناس فيها وأشهرهم بها”.
إن استحقاق ابن حزم لأن يسمى فيلسوفا أخلاقيا من خلال هذه الملاحظات الدقيقة وتعليلاتها الاجتماعية قد يكون ليس بالمبالغ فيه، إلا أن فلسفته هاته لم تكن مجرد نظرية تعتمد المنطق والدوران في ساحة ضيقة – كما نكرر مرارا- بل هي فلسفة حركية قائمة على البحث الميداني،تعتمد الظاهرة الاجتماعية أولا؛ ثم تعللها بالظاهرة النفسية ،وتختم عليها بالطابع النظري الحكمي التعليلي والمتجوهرة بالجوهر الإسلامي الخالص من منطلقاتها إلى نهايتها.فهل فلاسفتنا ومفكرونا وسياسيونا وفقهاؤنا المعاصرين على هذا المستوى من التفكير والتحليل ناهيك عن التطبيق؟أكيد تنبغي المراجعة…