مجلسُ اللّغات والثقـافة وتحدّياتُ الهوية الافتراضية
د. بلقاسم الجطاري
يعرف المنشغلون بسوسيولوجيا الأنترنيت حجم التحولات التي تجري في قلب المجتمعات العالمية، مثلما يستشعرون شدة تأثير فضاء الأنترنيت وقدرته الكبرى على خلق أذواق وسلوكات وتصورات وتهويمات تمس كل مناحي الحياة. ثمة، فعلا، عالم جديد قيد التشكل يمكن للخبراء في هذا المجال أن يرسموا خطوطه العريضة بكثير من التفصيل، وإن كان أهم صفاته تتلخص في تقلص مساحات التأثير المادي (الفيزيائي)، وانسحاب الإنسان من دوائر الاحتكاك والتواصل الواقعي، وركونه إلى دوائر الفعل والتأثير الافتراضين، مستجيبا، رويدا رويدا، لنداء التباعد الاجتماعي، خاضعا، ويا للصدفة ! [وقد لا تكون صدفة أبدا] لصدى الاحتياطات التي فرضها تفشي وباء كورونا المعمول بها، حاليا، بين مدائن العالم وأصقاعه.
نعاين في قلب هذا التحول بروز وجه جديد من أوجه الهوية يعرف لدى المتخصصين بالهوية الافتراضية، وهي هوية لا تنفي نظيرتها الواقعية، ولا تقع إزاءها موقع صراع أو تنافس، ولكنها تتواشج معها في أشكال معقدة من التفاعل والتأثير والاستمداد، على نحو لا يجوز الحديث عن استيعاب إحداهما للأخرى، بل عن شبكة من التقاطعات البينية التي تحفظ لكل واحدة تمايزها الماهوي عن الأخرى.
مناسبةُ حديثنا عن الهوية الافتراضية رغبتنا في وضع ملابساتها المختلفة موضع تدبر وتفكير، باستحضار التحديات الكبرى الموضوعة أمام المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وهي المؤسسة الدستورية المرجعية التي أوكل إليها اقتراح التوجهات الاستراتيجية للدولة في مجال السياسات اللغوية والثقافية والسهر على انسجامها وتكاملها، مع ما يعنيه ذلك من الحرص المستمر على استحضار كل أوجه التمثل الرمزي والثقافي، سواء ما تم التعبير عنه عبر الحوامل المادية [الكلاسيكية] أم ما تم تصريفه عبر الشبكة العنكبوتية.
سيكون على هذه المؤسسة الواعدة أن تواكب مجريات تشكل هذه الهوية، وأشكال التعبير عنها، وذلك بالنظر إلى هذه الحيثيات:
1. احتكار مواقع التواصل الاجتماعي لمقدار كبير من منسوب التواصل الذي يجري يوميا بين المغاربة، ودخول المغاربة في علاقات تفاعلية مع نظرائهم من ربوع العالم، مع ما ينتج عن ذلك من أوجه التأثير والتأثر الثقافيين، على قاعدة التنافس والهيمنة على نحو غير مرئي؛
2. احتضان الفضاء الافتراضي (المغربي) لتعددية ثقافية منفلتة من كل أوجه التوجيه الإرادوي، وعدم امتثال الفاعل الثقافي (الافتراضي) لشبكة القيود القانونية كما يحصل في العالم الواقعي، وذلك بسبب جملة من الأسباب، منها ما يتيحه هذا الفضاء من فرص للتخفي باعتماد خيار المجهولية (اعتماد هوية مستعارة)، وهو ما يحوّل هذا الفضاء إلى ساحة للصراعين: المادي والرمزي، بين أفراد وجهات مختلفة، كثيرا ما يغيب عنها الحد الأدنى من الإيتيقا والأخلاق، بدليل ما تتم تزكيته أو تخلقه من أوصام إثنومناطقية أو إثنوثقافية أو طبقية، وما تؤججه من الأحقاد بين عناصر النسيج الثقافي المغربي؛
3. معاينة الفوضى الغالبة على مستوى اللغات المستعملة في هذا الفضاء، على نحو نتلمس من خلاله الحاجة الملحة إلى تخطيط وتهيئة لغويين غير تقليديين، يأخذان لغات التواصل الافتراضي بكثير من العناية والاعتبار، ونحن لا نعني هنا حاجة مؤسسية إلى إقامة نظام الشرطة اللغوية في هذا الفضاء، بحيث يتم فرض معايير لغوية (على مستوى اللغات، وضوابطها التلفظية والغرافية) على الفاعلين التواصليين، بقدر ما نعني تتبعا ومواكبة علمية ومؤسسية لمجريات الاستعمال اللغوي، وبخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي، بهدف تمكين المتتبع من الوقوف على الاحتياجات واستشراف الصعوبات اللسانية- الغرافية- الإملائية التي يعرفها هذا الفضاء، وكي تتمكن مؤسسة المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية من رسم الإستراتيجية اللسانية الدقيقة التي تلائم المستجدات الفعلية، والحاجيات الملحة التي فرضها العالم الافتراضي؛
4. حقيقة أننا صرنا بإزاء تشكل اهتمامات وأذواق جديدة، بفعل الدخول المنتظم إلى عالم التواصل الافتراضي، يرتبط بعضها بعالم الاقتصاد والاستهلاك والتسوق من جهات العالم الأربعة، بينما يرتبط البعض الآخر بعالم الثقافة الفسيح؛ وهكذا أصبح المغاربة مبادرين، بشكل متسارع، إلى اقتناء واستهلاك منتجات مادية وثقافية ورمزية تنتمي إلى منظومات ثقافية مختلفة؛ مع ما يعنيه ذلك من عجز المنتجات الوطنية على المنافسة، في ظل سوق افتراضية تخضع فيها المنتجات الرمزية لقانون السوق الحرة؛
5. دخول جماعات مصالح أجنبية في معركة كسب الولاءات داخل التراب الوطني، واستغلالها مواقع التواصل الاجتماعي لاكتساب أتباع جدد، وخاصة على مستوى الرغبة في خلق خارطة تمذهب جديدة، أو الدعوة إلى اعتناق معتقدات ثقافية متصلة بمحركات سياسية بالدرجة الأولى. ومن خلال هذا الكلام تتضح الحاجة الفعلية إلى فتح جبهة افتراضية؛ دفاعية أو هجومية أو هما معا، شعارها مواجهة كل أوجه التغلغل الثقافي الافتراضي المشار إليها؛
هي حيثيات عامة نعرضها، هنا، لنبين جانبا مهما من التحديات التي تنتظر هذه المؤسسة الدستورية، وهي تحديات ينبغي الانكباب عليها منذ انطلاق عمل هذه المؤسسة، لأن التأخر في مقاربتها من منظور الغايات المحركة لنشاط المؤسسة سيزيد، لا محالة، من صعوبة اقتراح أوجه التدخل الكفيلة بمواجهتها، لا سيما وأن الهوية الافتراضية معطى شديد التركيب، سريع التبدل، كثيف التفاعلات، قادر على إحداث الأثر الكبير بنظام العيش المغربي، وبذلك فإن تأجيل استحضاره والخوض فيه يمكن أن تنتج عنه مساسٌ مفترض بمصالحنا الوطنية.