تحية للأئمة والمؤذنين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
بقلم : عبد المجيد بنمسعود
كانت المساجد في طليعة ما تقرر إغلاقه من مرافق حيوية تتعلق بها حياة الناس ومعاشهم، بمقتضى الإجراءات والتدابير الاحترازية المتخذة من قبل السلطات المسؤولة عن أمن وسلامة أفراد الشعب، من أجل إيقاف زحف فيروس كورونا (كوفيد 19).
وإذا كانت المرافق المتعلقة بالحاجيات الضرورية قد استبقي منها ما هو كفيل بسد الكفاية من تلك الحاجات، فإن المساجد قد طالها الإغلاق شبه الكلي، باعتبار أن ذلك لا يلحق منه ضرر ناجز أو مباشر لرواد المساجد، ولأنه يتعذر اللجوء إلى تعامل ذي صبغة جزئية معها، نظرا لخصوصية الأمر، وعدم قابليته للضبط إلا بعملية الإغلاق الشامل.
وقد استثني من التعطيل، وظيفة واحدة ضمن الوظائف والعمليات التي تجري عادة في المساجد، وعلى رأسها الصلوات الخمس، والجمع والدروس والمواعظ، وهي وظيفة الأذان، التي ظلت قائمة، وظل المؤذنون يرفعون كلمات الأذان، مجلجلة في السماء، معلنة دخول أوقات الصلوات الخمس، لأدائها في المنازل.
وعلى عكس ما قد يتبادر إلى أذهان بعض السطحيين، أو الانتهازيين، أو من لا يفهمون الأمر في عمقه وعلى حقيقته، فإن الأمر لم يكن بالسهل ولا بالهين، بل إنه، لمن يأخذه بأبعاده الكاملة، شديد الوطأة على نفوس ومشاعر من اعتادوا الصلاة في بيوت الله، ممن لا يجدون راحتهم وسكينتهم وطمأنينتهم إلا في رحابها، وبين جنباتها، ولكنها الضرورة تفرض نفسها من أجل الحفاظ على كلية من الكليات التي يوصي الإسلام بحفظها وصيانتها، وهي كلية النفس، فمن المعروف في منظور الإسلام، أن الحفاظ على الأبدان أولى من الحفاظ على الأديان، في الأوضاع الحياتية العادية، وهذا لمن لا يعرف الإسلام، من المؤشرات على واقعية الإسلام وتوازنه، وانسجامه مع الفطرة، ومع المقصد العام لوجود الإنسان، ورسالته العمرانية على هذه الأرض.
إن موقع المسجد في حياة المسلم، هو بمثابة النهر العظيم الذي تلتقي فيه الروافد والأنهار المتعددة، والذي يتم فيه التطهر من الأدران كل يوم، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه:” (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا) متفق عليه).
ماذا لو أخذ هذا المقصد بعين الاعتبار، واستلهمت روح الصلاة ومعانيها العميقة، واستفرغ الوسع في استثمار كنوزها وذخائرها؟ إذن لحظي مجتمع المسلمين بقدر كبير من الطهارة والصفاء، ولتحقق مستوى عال من التقدم والارتقاء، ومن السمو الحضاري، الذي يصحبه الأمن والأمان، والسعادة والاطمئنان، وتجسيد الجماعة – الجسد التي صور الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام وضعها البديع في الحديث الذي يقول فيه، فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما،:”: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” ( متفق عليه).
إن المساجد، وهي بيوت الله التي يستقبل الله عز وجل فيها عباده المؤمنين، هي المجال الرحب، والبستان الخصب، الذي يمارس فيه المسلمون تنمية عواطف المودة والإخاء، وتقوية أواصر التضامن ومعاني الولاء، من أجل تقوية اللحمة الاجتماعية، التي تمثل أساسا راسخا لتحقيق المصالح وتأمين الحاجيات.
وهي المنبع الزاخر، الذي تستقى منه التعاليم والتصورات، وقواعد التصرف والسلوك، التي تضبط حركة المسلمين، في إيقاع منسجم يطبعه التفاهم والوئام، وتستبعد منه عوامل الفرقة والتنابذ والانقسام، وذلك عن طريق ما يلقى فيها من دروس ومواعظ، ومن خطب تثبت العارفين، وتنبه الغافلين، وتطرد الوساوس والأوهام، وترد ما يستهدف حومة الإسلام والمسلمين من الأباطيل والترهات، ومن السموم والسهام.
إن المسجد في كل حومة أو حي، هو بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها رواده، هواء نقيا، مبرءا من الجراثيم والفيروسات التي تسبب الداء والوباء.فكلما كثرت المساجد وتعددت، عظم حظ الأماكن التي تحتضنها من النقاء والصفاء، وقل احتمالها لأسباب الأمراض والأدواء.
ومن هنا يبدو لنا تهافت ونكارة مواقف أناس بله، وأشخاص بهت، عندما يعترضون على الإكثار من بناء المساجد، زاعمين بكل تبجح وجسارة، أن ذلك يتم على حساب مرافق أخرى، يرونها أنفع وأجدى للناس، كالمعامل وغيرها، وكأن بناة المساجد مسؤولون عن قلة المعامل والمصانع، ولهؤلاء المبطلين يمكن أن يقال: دعوا أهل المساجد يبنون مساجدهم، وكونوا أنتم بناة للمعامل، حتى تحققوا التوازن الذي تنشدون. ولكنه التنطع من طرف هؤلاء، والسعي الدائم إلى معاكسة الإسلام والمسلمين، ووضع العصي في العجلات، لعرقلة ازدهارهم ونمائهم. إن هؤلاء مطموسو البصائر، ويعمون عن الحقائق والآيات، فما يكون لهم أن يتجاوزوا مطالب الأبدان، إلى مطالب الروح والوجدان.
لقد فرضت ظروف وباء كورونا، إذن، على المسلمين، مغادرة بيوت الله، مهمومين محزونين، غادروها وفي قلوبهم غصة وحنين، غادروها إلى حين، حابسين أشواقهم، على أمل العودة إليها أصفياء مظفرين، بعد أن يأذن الله الودود الرؤوف الرحمن الرحيم، لكورونا بأن تخلي ساحاتنا وحاراتنا، ومدننا وقرانا، من ترسانتها المغيبة عن أبصارنا وأجهزتنا، ومعداتنا ومجاهرنا، بعد الذي فعلته من أفاعيل، بإذنه تعالى، وهو العزيز الجليل، من له الحكمة البالغة، ولا تخفى عنه في هذا الكون خافية.
ولعل كثيرا من المسلمين قد شاهدوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك المشهد المؤثر والمثير، لقيمين دينيين، أمام أبواب أحد المساجد في إحدى البلاد الغربية، لعلهما الإمام والمؤذن، وهما يطرقانها بقوة وإلحاح، ويرفع أحدهما صوته بالدعاء والبكاء، لرب البيت، والآخر يؤمن، معلنين توبتهما، رجاء أن يفتح لهما، فهما لم يطيقا ذلك الوضع الطارئ الغريب، الذي لم يخطر على البال، أبدا، لم يخطر عليهما وهما في بلاد الغرب الذي له موقف معروف من الإسلام، فما بالك عندنا في بلاد الإسلام.
إن كل شيء في هذا الكون لا يمكن أن يقع إلا ووراءه حكمة، فقهها من فقهها، وجهلها من جهلها، ولكنها بحكم سنن الله واقعة. وهذه الحقيقة ترتب على أهل المساجد،أن يعدوا العدة، وقد بدأت تباشير الضياء تلوح في الفضاء، وإرهاصات انقشاع سحابة كورونا الكالحة من السماء، عليهم أن يعدوا العدة للأوبة الصادقة إلى بيوت الله، وهم أصفى قلوبا وأرواحا، وأنقى هياكل وأشباحا. وإن بين جوانحهم، للتقوي على ذلك والحمد لله، لرصيدا وافرا، مما جنوه من زاد، وما قبسوه من أنوار، بفضل ما صنعوه من جميل الفعال في رمضان، صياما وقياما، وتلاوة لآي الذكر الحكيم، وإنفاقا وزكاة، وما إلى ذلك من توجهات روحانية، وثقت صلتهم بربهم ومالك أمرهم، سبحانه وتعالى.
لقد فرغت المساجد من روادها ومتعهديها، في سابقة من نوعها في تاريخ الإسلام والمسلمين، تطرح ألف سؤال وسؤال، ولم يبق إلا كلمات الأذان ترجعها أصوات المؤذنين، وتررد أصداءها جنبات الكون، معلنة أن هذا الإغلاق لا يعدو أن يكون إغلاقا عابرا، وأن المعول على رحمة الله عز وجل في إعادة فتح بيوته لتستقبل عباده المنيبين، في أوبة صادقة، ينصلح بها شأنهم، وتتوثق بها صلتهم بربهم، إيذانا بفتح صفحة عهد جديد، يتم فيه الرجوع إلى تطبيق شرعه الحكيم، واستلهام منهجه القويم.
إن موقع الأئمة والمؤذنين في حياة الأمة المسلمة لموقع مكين، فهو موقع الدعوة إلى خير العمل، إلى الصلاة وإلى الفلاح، إلى حفظ وتعهد ثاني أركان الإسلام، الذي هو ركن الصلاة، التي هي عماد الدين. فالأئمة والمؤذنون ينبغي أن يكونوا شامات بين الناس، وينبغي أن تيسر لهم شروط ذلك، مما يحفظ كرامتهم، ويصون رفعة منصبهم الذي أعلى شأنه الإسلام، وهي شروط مادية ومعنوية معا. وإن المفروض في هذا المضمار، أن نقطع مع الممارسات الشوهاء، في التعامل مع الأئمة والمؤذنين، والتي قد تجمع بين رواسب الاستعمار الذي كان يقصد قصدا إلى تبخيس منزلة كل من لهم علاقة بحفظ ميراث الدين، وبين ثقافة هجينة هي أيضا ذات صلة بغرس الاستعمار المسموم، في عقول من رضعوا لبانه ويدينون له بالإعجاب والولاء.
إني أتصور، أن المؤذنين، وهم يرفعون الأذان من مآذن مساجدهم، التي هي لهم بمثابة الحصون والقلاع، في عصر كورونا، يبعثون آلاف الرسائل مع كلمات الأذان، التي تختزن كل كلمة منها ما لا يحصى من المعاني والدلالات، وما لا يحصى من العبر والدروس، وما لا يحصى من القصص والآثار.
وإن الذي يستعرض تاريخ المآذن والأذان، في ظل الصراع الدائم والمرير، بين من رفعوا أصواتهم بالأذان في ربوع الكون وأرجاء الأرض، وبين من استهدفوا الأذان والمآذن والمؤذنين، حيثما وجدت تلك المآذن، ووجد المؤذنون، تتبدى له صفحات دامية من العدوان السافر البغيض على رموز الإسلام ومآثره، وعناوينه وشعائره، وفي طليعتها المنائر والمآذن، لما تمثله من رمزية عالية، تجسد جوهر الإسلام ودعوته الفريدة المتميزة.
وإن المآذن عبر بلاد الإسلام، وهي ترسل أصوات المؤذنين الصادحة في أجواز الفضاء، لتشعر كل مسلم بعزة الإسلام، وخلود دعوته، وبقائها ما بقيت الحياة على وجه هذه الأرض، وبأن الظهور سيكون للمعاني الخالدة التي تحملها كلمات الأذان، معاني التوحيد الخالص، وخلوص النية لرب العباد، وأن موكب الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، هو موكب موصول الحلقات والفصول، منذ أن رفع الصحابي الجليل، سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه صوته الدافئ الرخيم فوق الكعبة المشرفة يوم الفتح الأعظم، إعلانا لظهور الإسلام على الشرك والكفر، إلى أن ينفخ في الصور، إيذانا بقيام القيامة، وبعث الخلائق من القبور، للبعث والنشور.
ومن الجميل أن أستحضر الآن، وأنا أثير موضوع الأذان، بيتا جميلا سمعته من الشاعر المصري محمد التهامي، من قصيدة ألقاها في أحد الملتقيات التي نظمتها رابطة الأدب الإسلامي العالمية في المغرب، حيث قال وهو يعبر عن وحدة الرابطة الوثيقة التي تربط بين أجزاء الوطن الإسلامي:
إذا نادت مآذنكم بفاس مآذننا بطانطا تلبي
إن كثيرا من مفردات الإسلام، وقيمه ورموزه ومشاعره، بل وأركانه وشرائعه، قد تعرضت في ظل الهجمة الضروس على الإسلام، للنقض والتشويه، والانتقاص والتهوين والامتهان، وإن الحاجة إلى إعادة الاعتبار إليها- بإعادة مفاهيمها الأصيلة إليها، وإعادتها إلى الاشتغال الصحيح، في إطار العودة الشاملة إلى الإسلام- لحاجة شديدة الإلحاح، حتى تعود الأمة إلى موقعها الصحيح، وتكون في الموعد مع التاريخ، لتصلح ما أفسده الناس، وإن منصب الإمامة والتأذين، بالإضافة إلى منصب الخطابة، لمما ينبغي أن تشمله العناية وإعادة الاعتبار، من أجل أن تعود للمسجد طلاوته وبهاؤه، وإشعاعه وعطاؤه، ولن يتحقق ذلك إلا عندما تعاد إليه وظائفه ورسالته ومهامه.
إن الأئمة والمؤذنين، لينتظرون، بفارغ الصبر، و معهم المصلون، ، انقشاع سحابة كورونا الداكنة السوداء، للعودة إلى إعمار مساجد الله، في وضع أصفى وأنقى، لطلب الجزاء فيما هو خير وأبقى.
وصدق الله القائل:” إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ” (التوبة:18)
وجدة في 2 شوال 1441 موافق ل 25 ماي 2020