وجدة : قيسارية التقدم بين الأمس واليوم.
ميمون جلطي
قيسارية التقدم، بمدينة وجدة، والمشهورة عند عامة الساكنة بإسم، زنقة أصحاب الباش، كانت تضم حوالي، عشرين محلا تجاريا أصحابها مختصون في خياطة الباش وصناعة الخيم والكراسي، والواقيات الشمسية، وكل أنواع الأغلفة، والستائر وكانت تعتبر محجا لحركة الراجلين بين قادم ورائح ومسلكا يربط بعدة اتجاهات، وصلة وصل بين الجوطية وساحة باب سيدي عبد الوهاب.
زنقة أصحاب الباش يحدها غربا شارع الضابط بالحسين ومن جهة القبلة شارع المولى سليمان ويحيطها شمالا دوش البركة لصاحبه الحاج محمد وسطي وقيسارية بن التاج ومن جهتها الجنوبية نجد في الزاوية مقهى Belle Life والتي كانت في عهد سابق موقعا لمحطة البنزين شال لمالكها رضى الجزائري الأصل، والذي كان باعها وتخلص منها قبل سنوات وذلك بعد إفلاسه وكساد تجارته بسبب نشاط البنزين المهرب آنذاك من الجارة الشرقية وكان قد اشتراها منه الحاج عياط هذا الأخير شيد مكانها مبنى العمارة ومشروع المقهى.
زنقة أصحاب الباش، كانت بالأمس القريب، تدب فيها الحياة وتتنفس باليد العاملة والرجل العابرة وتنتعش بحركة تجارية وصناعية نشيطة وكان كل مار منها لا يسمع سوى صوت آلات الخياطة، التي لم تكن تتوقف عن العمل والدوران، وتقاطعها قهقهات، شبان نشيطين، وهم يتبادلون نكتا فيما بينهم، لهزم الملل وكسر روتينهم اليومي ودردشاتهم كانت تسمع من بعيد وكانوا يشتغلون على مدار الأسبوع باستثناء يوم الجمعة فهو يوم عطلة، بإجماع الصناع، أما بداية الأسبوع عندهم فكانت يوم السبت يبدأون العمل فيه مع طلوع الشمس وبكل حيوية وحماس وكل منهم يخيط ويبدع حسب طلبات الزبون وكانوا يأخذون قسطا من الراحة والإستراحة يتناولون الشاي المنعنع لإنعاش ذواتهم ولراحة أعصابهم وبعدا الإنتهاء من شرب شاي البراد يعودون لإطلاق زئير آلات الخياطة ومباشرة العمل بكل حيوية وطاقة، ويتسلون في إبداع النكت بلباقة للترويج عن النفس، حتى لا يتسلل إليهم الملل ليفسد عليهم مهنة عشقهم وكان زقاق الشارع، يتنفس بروح بشرية مرحة، ويصدح بهمة نشاطهم وحركاتهم الدؤوبة.
كان يتوسط زنقة أصحاب الباش مسجد صغير يرتاده شيوخ من حفظة القرآن كانوا يتناوبون به على إقامة الأذان وإمامة الصلاة، وكانوا يحرسون على قراءة الحزب يوميا بعد التفرغ من صلاة العصر ومن أقدم الفقهاء الذين عمروا بهذا المسجد كان هو الفقية الراحل صاحب اللحية البيضاء الطويلة الحاج عبد الله رحمه الله وبجانب باب المسجد يوجد كاراج الميلود السيكليس رحمه الله مصلح الدراجات النارية والعادية ومعه إبنه جمال الذي استمر في الصنعة بعد أبيه إيمانا بمبدأ حرفة بوك لا يغلبوك وعلى يمينه يوجد محل الحاج اعمر مول الباش رحمه الله وولداه خالد وعبد الله وبجانبه محل المرحوم بالله مقران مول الباش وأبناءه ومعهم الكندوز وعلى يسار الجامع يوجد محل الحاج ميمون الريفي مول الباش رحمه الله وإبناه إبراهيم وبومدين الذي توفي مؤخرا رحمه الله وبجانبهم نجد محل، ناصر مول الباش، وشقيقه كريم، وكلهم كانوا أشخاص يشتغلون بأمانة وإخلاص، وصناع في قمة الإبداع، مداومون على العمل بدون انقطاع.
وفي الجهة المقابلة، نجد في أقصى الزنقة جمال مول الباش وبجانبه بنجعوط العشاب ثم محل سعد الدين مول الباش مع أخيه رشيد ويتوسطهم محل ميمون الحلاق أو الكوافور كما ينادونه وبجانبهم دائما يوجد محل أحمد مول الباش وحسن ثم يليهم عبد الله ورشيد مول الباش، وفي زاوية الزنقة نجد محل الحاج مصطفى وأبناؤه وكان في عهد سابق مختص في بيع قطع غيار الدراجات قبل تحويل المحل إلى مطعم ثم إلى إصلاح الهواتف النقالة وبعده إستسلم أبناؤه لحرفة جيرانهم فحولوا المحل إلى خياطة وإصلاح الباش ومستلزماته كما لا ننسى أنه كانت في الزاوية المقابلة مقهى الحاج العيد أو كما كانوا يسمونها، قهوة الزاج، كانت أجيال ترتادها، للعب الورق وشرب كؤوس القهوة السوداء وبراريد الشاي، وكان ذلك قبل أن يشتريها منه البنك، فهذا جزء من الماضي المعدم من زنقة أصحاب الباش قبل أن تنتهي بها الحياة كانت عبارة عن سوق مصغرة ينشطها صناع تقليديون معلمون ومتعلمون منهم من ورثوا الحرفة عن آبائهم وحملوا المشعل من بعدهم ومنهم من استفادوا منها كمساعدين وأصبحوا مهنيين ومحترفين وكلهم كانوا رجال معروفون إشتهرت بهم قيسارية التقدم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
وجوه كثيرة مألوفة، مرت من هنا بالأمس، وأشخاص رابطوا بهذا المكان لسنين طويلة، رحلوا اليوم عن الدنيا، وغابوا من الوجود، وتركوا حرفتهم لمن يرثها بعدهم هكذا علمتنا الحياة كل من عليها فان ولا يبقى فيها جماد ولا إنسان، كما هو حال زنقة أصحاب الباش اليوم توقف قلبها عن النبض وانتهى بها الزمان، فلا طير يطير ولا بشر يسير، وأصبحت مكانا مهجورا وملجأ للتبول والمتسكعين وتحولت إلى أطلال تبكي حاضرها الحزين وترثي ماضيها الدفين وصار لها حنين يخشع له القلب وتدمع له العين.