من مزايا الحجر…. مسيرة حياة طفولة ….مرحة وسط معاناة
خنفري لخضر
كنا نحن أطفال حي الزنك العمالي نجتمع ونلعب مختلف الألعاب حسب الجنس والمواسم البنات يلعبن العشة، وهي عبارة عن بيت الزوجية مجسم من التراب والحصى وأثاث من البلاستيك.. تلعب البنات وبعض الصبيان دور الزوج والزوجة والأبناء والذي يحاكي الواقع.. في موسم آخر تلعب البنات الشريطة أو…….وغاموضه مع الأولاد.. أما الأولاد فكانت اللعية الأزليه المفضلة هي كرة القدم وسط الأزقة ، أو لعبة الدراجة والكروسة_ كان وقتها شكل من الإبداع والمهاره- نصنع دراجة ذات عجلة واحدة ومقود مع عربة من علبة السردين- التي كانت الأكلة المفضلة للعمال بالأخص العزاب منهم- نسوق العربة محملة ببضاعة وبيعها لساكنات العشة.. الأطفال الذين يكبروننا سنا كانت لعبتهم الرئيسية الى جانب كرة القدم ، دينيفري ، من الفرنسية ……. مجموعة تهرب وأخرى تركض وراءها للقبض عليها: ويمكن تحرير المقبوض عليهم إذا نجحت عملية الرجوع الى الهدف، أو المخفر.
كنا نلعب ونمرح ،غير مبالين بعالم الكبار حولنا… آحلى الأيام كانت الأعياد الدينية وخصوصا أواخر شهر رمضان وعيد الفطر. كانت الأمهات والأخوات يهيئن شكلان أساسيان من الحلويات ،الكعك و الكاطو. رائحتاهما تملآن الحي وكل الأحياء في الأسبوع الأخير من رمضان، و”فرنك” صاحب الفرن الشعبي يعمل بلا توقف طوال الليل والإبتسامة لا تفارق محياه …
” الأبناء في مرحلة الختان، وقد تكلمت مع الحجام ليأتي غدا صباحا.” سمعت أبي يقول للوالدة .كان عمري لا يتجاوز السنتين..كنا أنا وأخي قلقين بل خائفين. ما أن رأيت شخصا، بمحفظته السوداء المبطنة قرب منزلنا يتحدث مع أبي ذلك الصباح حتى أطلقت ساقي للريح.. ركض والدي ورائي وآرجعني الى البيت مسديا كلاما مشجعا يرفع من معنوياتي.. تمت العمليتان بنجاح.. ذبح كبش بالمناسبة ، دعونا الجيران والأهل وفقيه الحي…
عالمنا الثاني هو المسجد بحيث كنا نتردد عليه صباحا وبعد الظهر.. الفقيه يقرأ ونحن نردد وراءه بصوت عالي خوفا من العصا الطويلة التي يمكن أن تصل أي أحد منا دون سابق إنذار.. بعدها تأتي مرحلة الحفظ والتلاوة عن ظهر قلب .. كان غالبا ما تغفو عيني بعد الظهروأنال نصيبي من العصا على الرأس.. أجمل اللحظات عندما يدخل أحد الآباء المسجد في زينته ، ونحد منهمكون في القراءة الجهرية . عندها نصرخ بصوت واحد وبتشجيع من ملامح الفقيه :” عمي حررنا، عمي حررنا” غالبا ما يصادف ذلك اليوم الخامس عشر من الشهر، “الكانزينا” – أي يوم صرف أجور العمال.. يعطي العم بعض النقود للفقيه ، وفعلا يتم تحريرنا ونخرج في فرحة عارمة. يتجه العم كباقي العمال نحو السوق للتبضع الإستثنائي ذلك اليوم: لحم -خضر فواكه -حلوى للأبناء…
ما أشبه حراك جرادة اليوم! وكأنه لوحة فنان لمآسي لا تنتهي:
“ما هذا العويل؟” تتساءل الجارة” الله يلطف..”
“إنه ابراهيم السوسي، في الزنقة المقابلة.. طاح عليه الحاسي هاد الصبح” تقول أخرى في حزن واضح على قسمات وجهها …يستمر المنظر الكئيب لساعات ، عويل ترقب وصول الجثة.. يتكفل أحد العمال بجمع “عشاء” المرحوم.. مشهد مأساوي يتكرر بسبب ظروف العمل المزرية والصعبة وغياب شروط السلامة..
وتستمر الحياة، حياة لا تخلومن التعاضد والتآزر والحب في الأحزان والمسرات..
“لقد تمت ترقيتي اليوم بعد 18 سنة من عامل إلى مسؤول ورشة” يقول الوالد، “وفد دعوت بهذه المناسبة بعض العمال ومسؤولان”
سأل أخي بفضول وفرح” “متى؟”
“غدا.. بعد الساعة 10 ليلا أي بعد إنتهاء العمل”. طلبت أمي من الجارة أن تساعدها ذلك المساء.. الدار تفوح بما لذ وطاب من الأكل.. تأخر أبي وضيوفه بعض الشيء..غلبنا النعاس نحن الإخوة الثلاته ،وخلدنا الى النوم.
ترقية أبي تعني فيما تعنيه أن العائلة ستنتقل من حي الزنك ، حي العمال إلى الحي الأوربي-ديور النصارى- حي الأطر بشركة مفاحم المغرب..إلى جانب مسؤولين مغاربة كان ما زال هناك أوربيون كثر أذكر منهم ميسيومادام دوكرامير وابنهما جويل، الذي سيصبح أعز الأصدقاء ، أما الإبن الأكبر ، برنار فكان مستقرا بفرنسا. باكو وبناته الأربع أجملهن كانت إليز ، كابريال وزوجته الممرضة مادام مورينا ،ميسيو شاريطا ، جارنا المحترم ميسيو مولا وعائلته ، صاحب الحانة: ميسيو كارمونا… كنا ونحن أطفال نخاف من رجال الدرك بدون سبب واضح ، وبالأخص الدركي المدعو البلعوشي، كانوا يترددون على الحانة تقريبا كل مساء..
ميزات الحي الأوربي أنه حي متناسق ،منظم ، أمام كل منزل حديقة واسعة محفوفة بسياج . رائحة الورود تزكم الأنوف عن بعد.. الحي هو وجهة ” علي شحمه” المفضلة.. لم يكن علي متسولا محترفا .كان يجد هناك مساعدة وراحة نفس.
تعرفت على جارنا جويل ذي الأربعة عشرة ربيعا منذ الوهلة الأولى مع شباب آخرين أذكر منهم عاشور حامدي- عبوش-بنبراهيم- بوسدرة -عفيفي -بنيونس مرزوقي وأخوه، عرفتهم بحي الزنك-مصطفى جدلة- لخضر حمداني الملقب ب الشريف- حسن كروم – قايدي– أحمد الملالي_ محمد أمليل-مصطفى الغربي-عبد الله سيريا- عبد العزيز المحب- عمر عبد الجليل- بربحان الملقب روبير- محمد عاشور- الطيب مجوط- المرحوم عبد الخالق… بطبيعة الحال هؤلاء وإخوانهم الذين كانوا في نفس السن تقريبا ، مع الإعتذار لكل من سقط إسمه سهوا.. جمعتنا لعبتان شيقتان ” مع البعض كرة القدم ، والبعض الآخر الكرة الحديدية . نسطالجيا: نعم معي حالياا 8 كرات حديدية إقتنيتها مؤخرا، وكوني ناشط بجمعية بنخيران تقدمنا بطلب مساحة نخصصها كملعب للكرة الحديدية، لسوء الحظ تزامن الظرف مع جائحة كورونا..و إن شاء الله نحقق الأمنية.
كنا ننظم دوري فرق الأحياء في كرة القدم: حي الغار- حي تازة- حي بوشون- حي شافيه- حي لمخلط- حي الزنك- وبطبيعة الحال فريق ديور النصارى الذي كان يتبادل المركز الأول مع فريق ديور الغار..كانت لنا أيضا لقاآت على صعيد الإقليم: العيون- تويسيت- بوبكر- جرادة- وجدة – قنفوده- التنقل بطبيعة الحال من جيوبنا المتواضعة. كان الفريق المضيف غالبا ما يتكفل بالأكل.. الفريق الذي هزمنا شر الهزائم هو فريق العيون.. كان فريقا قويا ..
كان والد جويل يتقن العربية ومنهم من كان يتكلم الأمازيغية بطلاقة كون معظم العمال من الأمازيغ: سواسة ، أولاد عمرو، ازكاره، بني يعلا، أمازيغ الأطلس.. إلى جانب العرب :تسول ، حياينه، أولاد سيدي علي، صحراوه ، بني ريس، واد أمليل، طانطان.. بكلمة واحده ،جرادة كانت مغربا مصغرا -للأسف مرة أخرى لم تنل حقها من الثروة.. كان العمال يعرفون أبشع إستغلال ،يتوج بمرض السيليكوز القاتل بحيث كان معدل العمر لا يتجاوز 40 سنة يالنسبة لعمال باطن الأرض.
“لخضر، فين صحابك نلعبو………………” كنا غالبا ما نجتمع أمام منزل دوكرامير.. كنت ضمن فريقه ، وابنه الفريق الخصم الذي يضم عاشور وآخرون.. المتفرجون من ساكنة الحي ،عرب وعجم.. كانت هناك أيضا دوري سنوي قي الكرة الحديدية لكن محليا فقط ،لاعبوا جرادة مع لاعبي حاسي بلال لا أخفي سرا أني كنت معجبا بجمال إليز وابتسامتها ومشاركتها في لعبة الكرة الحديديه..
كنا نحب الموسيقى والرقص والغناء ما استطعنا الى ذلك سبيلا ..فريق الموسيقى كان يتكون من جويل نفسه و بنيونس مرزوقي ومحمد بنبراهيم وأحميده بوسدرة ومحمد عفيفي و أحمد الملالي.. كنا نستمتع بالموسيقى بالهواء الطلق، وأحيانا ببيت جويل: ديميس روسوس،ناس الغيوان، ميكري، جاك بريل، إلفيس، هاليداي ، أغاني الأطلس، جيمي هندركس..
كانت أحداث البلد طاغية في أواءل سبعينيات القرن الماضي . كنا نخرج في مظاهرات صاخبة مثل سائر الشباب بالمغرب، وذلك تضامنا مع أحداث 70 -71-72 وإضرابات العمال. كان للمدينة العماليه نصيبها من الإعتقال. أعتقل عدد لا بأس به من العمال والأطر منهم من فارق الحياة داخل الزنزانة بسبب ظروف الإعتقال ومضاعفات المرض المهني.
تداخلت الأحداث مع اشتداد مرض السيليكوز على أبي.. كنت أحيانا أرافق والدتي الى مستشفى الفارابي لزيارته … من وإلى الفارابي، استمرت هذه الحالة أزيد من 6 أشهر. وذات صباح، وبينما أنا راجع من الإعدادية صدمت بالخبر بدون مقدمات : “أبوك مات”
قادتني قدماي إلى وجهة لم أتذكرها لحد الساعة . كلما أعلم أني لم أذهب الى المنزل مباشرة …إنتظار وصول الجثه… عويل ..مراسم الدفن ..التعازي … العشاء..
يغادر أخي الأكبر الدراسة كرها.. كان في الثالثة إعدادي، ليلتحق بمدرسة التمريض للتكفل بشؤون العائلة..
الباكالوريا والتحول
للحياة بالداخلية طعم خاص. كنا تلاميذ بداخلية ثانوية عبد المومن بوجدة.. أول ما تتعلمه الإستقلالية والإنضباط: أوقات الدراسة -الأكل – النوم… كنت أترقب يوم الثلاثاء من كل أسبوع ، يوم إستنائي بأكله ونشاطه، كان يقدم لنا في وجبة العشاء: دجاج\ لحم ، حليب، حلوى . بعدها نتوجه إلى النادي السينمائي للإستمتاع بفيلم قصير أو وثائقي…
خيرة الأساتذة إجتمعت بثانوية عبد المومن ، الثانوية الوحيدة بالمدينة التي كانت تستقبل تلاميذ شعبة الآداب. ..أخذنا نصيبا وافرا من المعرفة، خصوصا مادة الفلسفة وكتاب الأستاذ المقتدر محمد عابد الجابري ” الفلسفة”لطلاب الثانوية العامة أو الباكالوريا … أتذكر استاذا مقتدرا أيضا ، الأستاذ لميم . علمنا روح البحث والتفكير والإستنتاج. كان يعطي دروسا إضافية في المادة بدون مقابل! – لو كانت بمقابل كما نراه اليوم لكان الأستاذ لميم من أغنى أغنياء المغرب الإنتهازيين!!- كان تحليله ماديا جدليا .. فتح عقولنا ونورها، و تعلمنا منه الكثير الكثير. كانت القاعة رغم سعتها لا تتسع لعدد التلاميذ الكبير الذي كان يحظر الدرس عصر كل جمعة.
جاء سلاح المعرفة في الوقت المناسب، بحيث سألتحق سنة 1976 بجامعة محمد بن عبد الله بفاس -كلية الآداب ، تخصص الأدب الإنجليزي.
الحياة الجامعية كانت حيوية بمختلف الأنشطة الثقافية والأكاديمية” محاضرات-ندوات -حلقيات النقاش-مظاهرات. كانت فترة الحظر على الإتحاد الوطني لطلبة المغرب.. كنت متعاطفا مع فصيل رفاق الشهداء- الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية ،اللجنة الإدارية.. وعضو بمجلس القاطنين بالحي الجامعي، والذي كان يشرف على السكن والمطعم والأنشطة الرياضية والثقافية والفنية .. لا يخلو أسبوع من دون نشاط: ندوات ، أمسيات غنائية ملتزمة مع سعيد المغربي ، رضوان أفندي ، الصبار .. للأسف بعضهم تنكر لتاريخه النضالي معتقدا أن دوره إنتهى بخروجه من أسوار الجامعة..
حياة جامعية لا تخلو من نوع آخر من النشاط: علاقات غرامية ، خمرة ،حشيشة وكانت هذه الأخيرة منتشرة بشكل كبير وسط الطلبة. بعضنا ، وهم أقلية غرقت في هذا العالم، عالم المجون.. وهذه كنت دائما أعتبرها نقطة سلبية تنخر الجسم الطلابي وكأن الرجعية الحاكمة فتحت هذا الباب على مصراعيه- وعلى عينيك أبن عدي- من أجل التخذير والإبتعاد عن كل ما هو مرتبط بشعار أوطم آنذاك : لكل معركة جماهيرية صداها بالجامعة.”
يتبع