السياسي والعسكري في مستجدات الموقف الروسي من القضية الليبية
بقلم عمر الطيبي
عزا احمد المسماري الناطق باسم حفتر، في احدى خرجاته الاعلامية الاخيرة، انهيار مليشياته وانسحابها من أمام قوات حكومة الوفاق في منطقة الغرب الليبي لما اسماه “خيانة دولة حليفة لم توف بتعهداتها لنا .. بعدما طمأنتنا على أن الوضع يقتضي منا تراجعا آمنا الى مسافة 60 كلم من طرابلس”، وذلك من دون أن يحدد من هي هذه الدولة بالضبط.
غير أنه وباستعراض لائحة الدول الداعمة لحفتر، يتبين أن المقصود بتلميح المسماري ليس سوى روسيا الاتحادية، اذ وكما بات معروفا، كانت القيادة الروسية قد أمرت وحداتها من مرتزقة “فاغنر” بالانسحاب من المواقع التي كانوا يحتلونها جنوبي طرابلس الى قاعدة الجفرة الجوية، الواقعة وسط البلاد، والتي مثلت خلال حربهم على الغرب الليبي القاعدة المركزية المشتركة لحفتر وحلفائه ومنهم بالخصوص الروس والاماراتيين، لذلك فانه لا يستبعد أن تكون قد اقترحت على مليشيا حفتر، انساحابا لمسافة 60 كلم الى الشمال الشرقي من طرابلس، كما زعم المسماري، وذلك لغاية في نفس بوتين.
لم تعترض عناصر “فاغنر” أثناء تراجعها نحو قاعدة الجفرة اية هجمات ولا حتى مناوشات على ايدي عناصر الوفاق، ولا طاردتها الطائرات التركية المسيرة، كما يفترض في مثل هذه الحالة، بحيث اكمل المرتزقة الروس انسحابهم بسلام، وافسحوا في الوقت نفسه المجال لوحدات الوفاق لكي تتمدد بكل يسر حتى حدود مدينة سرت على بعد 450 كلم، ما أوحى لبعض الملاحظين بالاعتقاد بأن هذه التطورات جاءت نتيجة حصول تفاهم بين الروس من جهة، وحكومة الوفاق وحليفها التركي من جهة ثانية.
ربما استندت مثل هذه التفسيرات الى تزامن مراحل استعادة حكومة طرابلس لهذه المساحة الشاسعة من الارض، مع وصول وفد ليبي مكون من نائب رئيس حكومة الوفاق أحمد معيتيق ووزير الخارجية الطاهر سيالة الى موسكو، في مهمة، ذكرت مصادر اعلامية، أنها تمثلت في سعي المسؤولين الليبين لطمأنة وزير الخارجية الروسي بخصوص مصالح بلاده، سواء منها تلك المتعاقد عليها في عهد القذافي، او تلك المتعلقة بمشاريع اعادة الاعمار المرتقبة مستقبلا، وعلى كل حال فقد اصطدمت المبحثات بين الجانبين الروسي والليبي، حسب بعض التسريبات، برفض الليبيين اطلاق سراح جاسوسين روسيين القي عليهما القبض في طرابلس ومعهما أسرى تابعين لفاغنر .
وقد جاءت التطورات اللاحقة ومنها عودة مرتزقة فاغنر لمهاجمة قوات الوفاق، لكن هذه المرة في مواقعها الجديدة غربي سرت، وايضا اعلان الرئيس بوتين ترحيبه بما جاء في “المبادرة المصرية”، وقراره بالمشاركة في اجتماع البلدان المؤيدة لها المرتقب عقده لاحقا، لتدل بوضوح على أن الامر لا يتعلق بتغير سياسي في الموقف الروسي من القضية الليبية، بقدر ما يتعلق بمناورات ميدانية تستهدف ادخال تعديلات على مواقع الوجود العسكري الروسي على الارض الليبية.
انه لمن الطبيعي أن يستنسخ الروس في هذا الاطار تجربة تواجدهم العسكري في سوريا، مع بعض التعديلات التي تقتضيها الخصوصية الليبية، خاصة ما يتعلق من ذلك بتركيز قواتهم في قاعدتين أساسيتين: قاعدة حيميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية، علما بأن هذا الخيار هو ما مكنهم من التفوق في المواجهات بفضل التطور التكنولوجي، ومكنهم في الوقت نفسه من تجنب المواجهات الميدانية ما أمكن، مع ما يتبعها من خسائر بشرية، وايضا التحكم في قرار الاصطدام بالقوات الاجنبية المنافسة، بحساب جميع الاحتمالات التي قد تترتب عن هكذا اصطدام.
من هذه الزاوية تبدو قاعدة الجفرة الجوية، مناسبة تماما للخيار الروسي، لما تتوفر عليه من خصائص استراتيجية متكاملة، فهي تقع بالضبط في منتصف المسافة الممتدة بين الحدود الليبية المصرية شرقا، والحدود الليبية التونسية غربا، وأيضا بعمق نحو 250 كلم من ساحل سرت، وهي لهذه الخصائص تتيح للمتحكم فيها مراقبة الاجواء الليبية بما في ذلك على مستوى مناطق الساحل المتوسطي والجنوب الصحراوي الممتد، كما تضمن له مراقبة منطقة الهلال النفطي وموانئ التصدير.
في ضوء هذه الاعتبارات يصبح من المفهوم تماما ردة فعل مرتزقة فاغنر ومليشيات حفتر اللاحقة، والساعية منذ ايام لوقف هجوم قوات الوفاق عند حدود التخوم الغربية لمدينة سرت، فالروس وحلفاؤهم ربما يعملون الان على رسم حدود تكاد تطابق الحدود التاريخية بين ولاية برقة وولاية طرابلس، وقد يكون ذلك تمهيدا لفرض حل سياسي يقوم على اساس ” التباعد الجغرافي” بين الولايات الليبية الثلاث، وفق ما نصت على ذلك “المبادرة المصرية”.
ع.ط