التطبيع بين الضرورات والخيارات
فؤاد بوعلي
قبل أزيد من عقد كتب الشيخ محمد مهدى شمس الدين كتابا تحت عنوان: “خيارات الأمة وضرورات الأنظمة”، حلل في ثناياه أجواء مبادرات السلام المعروضة في المنطقة العربية وسبل مواجهة المشروع الصهيوني. والفكرة المؤسسة للكتاب هي ضرورة التمييز في مقاومة المشروع الذي يفتك بالأمة بين مستويين: الضرورات المكبلة للأنظمة وفق التزاماتها الدولية والأمنية، وخيارات الشعوب التي ينبغي أن تنصاع لمبادئ الأمة المؤطرة والمتحللة من كل حسابات السياسة والحاجات العرضية. وهو تمييز ضروري في كل مشروع مقاومة لمسار التطبيع. لكن المتابع للنقاش العمومي المصاحب لحالة الهرولة العربية نحو تل أبيب، والتي فتحت أبوظبي بابها على مصراعيه، يحس أن العقلية العربية مازالت أسيرة ذاكرتها وطريقة تناولها للقضية. فمنذ عقود مازلنا نكرر نفس الشعارات والعناوين دون أن نعي أن قضية فلسطين التي سكنت وجداننا حتى غدت جزءا من وجودنا الطبيعي والثقافي مازالت تعالج بمنطق زمن الثورات العربية والقومية والمحاور الدولية وماصاحبها من مفاهيم في عالم متغير من حيث الأساليب والتوجهات. فلا أحد يحمل في عقله ذرة فهم استراتيجي وانتماء هوياتي، قبل أن يكون لديه حس إنساني بقضية الاستعمار ومآلاته، يمكنه الدفاع عن خطوة أبوظبي أو البحث لها عن الشرعية فضلا عن التنقيب في الدين عن مسوغ عقدي، كما أنه لا أحد تابع توالي الأحداث منذ السبعينات وتراكمها، يمكن أن تفاجئه الخطوة أو يعتبرها حدثا طارئا على الساحة العربية. فالأحداث بمقدماتها. والعنصر الفيصل في هذا السياق هو انسحاب العديد من الدول من فضاء الانتماء إلى فضاء الوظيفية، حيث رهنت العديد من الأنظمة وجودها بأدوارها في الفلك الكولونيالي والذي تجلى عربيا بخلق حالة من الاصطفاف الهوياتي والإيديولوجي المسوغ للانسياق وراء المشروع الصهيوني. فمفردات الحالة الراهنة لا توجد في الاتفاقيات التي توقع ولا في مرافعات المنافحة أو الرفض بل في مسار طويل من صناعة الهويات الضيقة وبناء ذاكرة مزايلة لذاكرة الأمة.
كان توقيع جمهورية مصر على معاهدة كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، التي أعادت تشكيل خارطة المنطقة العربية بصورة جذرية، وأعطت الشرعية السياسية للكيان المغتصب، وفتحت أمامه الباب نحو تدشين كيان معترف به عبر بوابة التطبيع، إعلانا صريحا عن انسحابها من الدور الريادي عربيًا بعدما كان لها الريادة الإقليمية والدولية في كثير من الأحيان. وبالرغم من عودتها للحضن الرسمي العربي وتوقيعها العديد من الاتفاقيات مع العدو، لم تستطع العودة إلى قيادة المنطقة، وهو ما تكشفه وضعيتها على خارطة الملفات الحساسة التي تشهدها المنطقة خلال السنوات الأخيرة. كما أن قرار التطبيع ظل محصورا في إطار العلاقة مع النظام السياسي، حيث ظل المجتمع وما يزال رافضا لكل علاقات التقارب. فلعشرات السنين ظلت إسرائيل العدو الأول في وجدان الشعب المصري، ورغم اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، ظل المقاومون لإسرائيل والمعادون لوجودها أبطالا في عين الشعب. وما يحدث الآن هو قصة مكررة معادة من التجربتين المصرية والأردنية. حيث سيجد المهرول العربي نفسه بعد سنين خارج دائرة القرار العربي وخارج الفعل بعد أن يستكمل وظيفته التي وكلت له في مسار الخنوع، الفرق الوحيد في الحالة الراهنة أن الهرولة كانت خلاصة لمسار التشظي الإيديولوجي والسياسي الذي تعمق في جسم الأمة عبر وسائل الإعلام والتحريض المختلفة. لكن الردود التي تفاعلت مع هذه الخطوة المحدودة زمنيا ووظيفيا في النظام السياسي اتسمت بنوع من الحدة والشمولية من خلال شيطنة الآخر الذي لم يعد غريبا بل جزءا من الذات. ومن ثمة يغدو المثقف والمناضل الإماراتي، وعما قريب السعودي والبحريني وغيره، ومن يدري بما يجري في الكواليس، بين فكي تطبيع النظام وشمولية الشيطنة التي تمارسها النخب العربية. فالهجوم على الدول وإخراجها من الملة والدين والأمة وشيطنتها يؤدي حتما إلى حشر الشعوب المكرهة في الزاوية وتضييق هامش الفعل لديها. والمستفيد الأول من الشيطنة هو العدو الصهيوني الذي يجني منها أكثر مما يجنيه من التطبيع، وكذا المهرول الذي يبرر خطواته بخطابات العداء. فكما أن للأنظمة اختياراتها النابعة من مسار وجودها ووظيفتها التي طبعت التزاماتها، فإن المعول عليه في المقاومة ورد الحقوق هو الشعب العربي الممتد من المحيط إلى الخليج. لذا لا داعي لشيطنة الشعوب والنخب. فأكبر الجنايات تتم باسم الطوائف والانتماءات.