-ماكرون- وإسلام مواطنيه.. وزن الريشة في مواجهة الفيل
رمضان مصباح الادريسي
توطئة:
تؤدي فرنسا ،اليوم،ثمن غفلتها ، وهي لاتنتبه إلى أن إسلاما رُفع من تراب الجمهورية العلمانية، تدريجيا، ليحل محله إسلام آخر.
حتى السرية ،في الاختراق الاخواني والوهابي ،لم تكن مطلوبة، في غياب الفهم الفرنسي العميق للدين.
اليوم تدير فرنسا إسلامها ، وبين يديها شيوخ متقاعدون – من الزمن الجميل – هدهم المرض والرطوبة؛ أما الشباب فهناك من عرف كيف يستغل تواجدهم في الأحياء الهامشية المهملة ،ليجعل منهم تكفيريين حاقدين حتى على آبائهم وأجدادهم.
هكذا تسرب من بين أيدينا وأيديهم حلم التعايش السليم وقبول الاختلاف؛ ولم يعد أمام الجميع سوى خطاب الفواجع في الشرق كما في الغرب.
قبل الغربان:
كانت هناك طيور مهاجرة ، تمضي صوب الشمال خِماصا لتعود بِطانا. لم تكن تهتم بسؤال الرزق: لماذا هو هناك في الشمال الأشقر البارد، الذي لا ينهض إلا لعمل؟
ولماذا لم يتيسر في الوطن الحلم، وطن الاستقلال؛ حيث الشمس الدافئة ،والصلاة خير من النوم والعمل معا.
وقتها لم تكن الدولة – كما اليوم- قد انتبهت ل’ماركتينغ” العودة؛ لتؤطر تدفق المال الصعب، صوب الوطن الكسول ، قبل تكريم عرق المهاجرين؛ وقد “قُدر” لهم ألا يعرقوا إلا في بلد الجليد والضباب. كانت الهجرة إلى الضفاف السعيدة فتنة حقيقية؛ تبدأ من محنة الجواز ، وقد ارتقت به بيروقراطية الستينيات من القرن الماضي، إلى مصاف صكوك الغفران والدخول الى الجنة. وقتها كان الحصول على عقد للعمل في فرنسا ،بالخصوص، أسهل من الحصول على الجواز الوطني الأخضر.
رْفدت الباسبور لخضر وقُلت أنا دِي خيار الحياة
جْبَرْت البابور يرجى في المرسى مْسَطْرة بالرايات
نْهار إللي مشيت خاطَرْ، ودَّعت أحبابي وقلبي مهموم
خَلِّيت اميمتي تْنَوَّح وتقول وْليدي مْشالي للرُّوم
فعلا عرف الشيخ ،محمد اليونسي البركاني، كيف يُعبر عن جيل من الشباب ،لم يكن يرى له مستقبلا – ولا حتى هوية- إلا في بلد الأنوار.
طبعا خارج كل مدارات فلسفة الأنوار، وأحقاد الأديان . كم أطربتنا رائعته ،وهي تُبث على مدى ساعات النهار في مقاهي الشاي والنعناع بوجدة.
رغم تجربة الاغتراب – بالجمع- المؤلمة في القصيدة، فإنها لم تكن في الحقيقة سوى دعوة لمقارنته بالاغتراب داخل الوطن ،وبظلم ذوي القربى ،حينما لا يرون في الشاب إلا مشروعا لمهاجر عامل تُعلق عليه كل الآمال والأحلام المادية .حتى بنت الجيران لم يكن لها من أمل، بعيدا عن هذا الشاب الذي يغادر باكيا ليعود في الصيف محملا بالسعادة.
يعودون ليتحدثوا ،بلغة الخبرة الشعبية، وبكل التباهي البريء، عن أوطان أخرى ،يشيع فيها دفء الأحضان وليس وطء الأقدام. أوطان لاشيء فيها يحول دون الإنسان وحقوقه .أوطان لا يحرص فيها الناس على إغلاق منازلهم، لأن للبيت أمن يحميه.
كان هذا قبل أن تُحلق الغربان في سماء المهجر ، وتتكدر الأنوار؛ ويحل الشاب المجاهد محل المهاجر العامل.
أرض الكفار:
بدءا من سبعينيات القرن الماضي شرع خطاب العودة، المنبهر بأوربا والمُغري بها، في التغير تدريجيا. بدل الاستمرار في التمدد صوب الحرية ، ومتعة المواطنة الأوروبية، وبريق الحضارة؛ انزوى صوب الدين منتبذا به مكانا قصيا؛ حتى لا يذبحه الغربُ الكافر.
ثم احتد الانحراف عن مركز الحضارة والحداثة ليُؤثَّثَ خطابُ الغرب الكافر ،بسباب الكفار “لعنهم الله”.
حينما سمعتها لأول مرة ، من قريب لي ثارت ثائرتي لشدة جحوده، ونكرانه لأحضان بدلت شقاءه هناء وسعادة أسرية.
ماكان له ،وهو المنقطع مبكرا عن الدراسة، والمنكفئ الى فقر البادية، أن يكون له أي مستقبل خارج جنة “الباسبور لخضر”. تأتى له العمل المربح، وأُطْعِم كرامة آدمية حد الشبع.
تربى الأبناء في المدرسة العلمانية ،حتى لا يكفرهم أحد من الفرنسيين الخلص؛ ثم تجنسوا وحازوا وظائف مهمة في مجتمع يعتد بالمؤهلات الفردية ،ولاشيء عداها.
فجأة يُلقى بالمهندس “سنمار” من أعلى البرج الذي أبدع وأخلص في إعلاء عِماده.
هكذا يصبح كافرا ،هذا الغرب الذي لم يقصر في استقبال كفار بمسيحيته.بل لم يسأل أصلا عن عقيدة أحد.
شيئا فشيئا تغيرت حتى الأزياء ؛وبدأنا نستقبل مغاربة أوروبا وكأنهم من ساكنة “كابول” ،وبعبوس كأنه قد من جبال “طورا بورا”. الْتَحت اللحية والكلام. بل حتى السيارة صارت لها أكثر من لحية وتعويذة لحمايتها من عيون الكفار.
من أفسد زواج الشرق والغرب؟ من هزم الغرب ،رغم كونه وفر كل بنيات الاندماج ،في عقر سياساته وبرامجه ؟ من أنسانا في مهاجري الستينيات؛ وكل قصائد الاغتراب عن الديار، والشوق الأبدي للوطن وأعراسه الصيفية؟ من أحل الاغتراب الديني محل رباعيات الشيخة الريميتي الغلزانية، والشيخ العنقا، ونورة ورابح درياسة ؛ ومعلقات خليفي أحمد؟
حينما انتبهت وزارة الأوقاف المغربية ،على عهد الوزير السيد العلوي المدغري، الى أن خبز المهجر أصبحت تخالطه وجبات الفقه الحنبلي المتشدد كانت كل البنية اللوجستيكية التكفيرية، قائمة في مواقعها عبر التراب الأوروبي كله، و في أقصى درجات الإنتاج.
هكذا لم تفلح أفواج الوعاظ ، الرمضانيين والقائمين، في رد الصائل الوهابي والاخواني، الذي تسير في ركابه قناطير الذهب والفضة.
ومن المفارقات ألا تُنفق أموال البترول “القار ونية” إلا في المَهاجر الغربية؛ “مُحَصِّنة” المسلمين من “كيد” الكفار؛ والحال أن إنفاقها في أوطانهم الأصلية ،كان سيغنيهم- أصلا- عن الهجرة.
مدرسة فاشلة اقتصاديا وناجحة عقديا؛ ولكل عاقل أن يسأل :كيف نفشل في تنمية العالم العربي و الإسلامي ،وهو بثروات لا حصر لها؛ ولا نفلح إلا في مراقي تشديد العقيدة، وصولا ،اليوم، إلى اقتتال مللها ونحلها، بما تأتى من سلاح ،ولو أحجارا ونِبالا فقط ؟
“صليبية” ماكرون العلمانية:
لايمكن أن تكون حلا؛ الا اذا كانت سيتم بمحاكم التفتيش الاسبانية، في القرن الخامس عشر وعلى طريقة “فرديناند وايزابيلا”.
هذا مستحيل طبعا ،اليوم.
في فرنسا اليوم قرابة العشرة ملايين مسلم ؛ ثلثهم من الممارسين فعلا لشعائرهم ،وهؤلاء في ازدياد متواصل ،بفعل التدخل الخارجي الشرق أوسطي بالخصوص.
هم فعلا لا يملكون خرائط تخصهم داخل التراب الفرنسي ؛لكن كل طموحهم الاختراقي يسير في هذا الاتجاه؛ حتى أصبح من الصعب على الشرطة الفرنسية ممارسة مهامها داخل ضواحي وأحياء بعينها، دون الاصطدام بالساكنة.
يريدونها ولايات إسلامية خاصة ، وربما حتى بأمراء سلم وحرب؛ وهذا ما أرعب الإدارة الفرنسية ،ورفع الأمر الى مستوى الإشكالية المستعصية في التدبير العميق للدولة حالا ومستقبلا؛ وهذا يعني ،من ضمن ما يعنيه ،ورقة انتخابية بامتياز ؛قد توصل الى السلطة وقد تحرم منها ،حسب الأحوال.
لم ينتبه ماكرون وحده للأمر ،بل حتى اليمين الفرنسي العنصري ،بات بفضل هذا الوضع الاشكالي قاب قوسين من السلطة ؛ومن المرجح أن يتسلمها في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
اذا ابتعدنا عن هذه الدينامية الإسلامية ،الاختراقية بالنسبة للبعض ،والانتخابية بالنسبة للفرقاء السياسيين الفرنسيين؛ وقاربنا مداخل الحل الجذري لمشكل اسلام فرنسا، فسيبدو لنا الرئيس ماكرون ،بمشروعه، كطفل يلعب على الشاطئ ،في حين أن الحقيقة توجد في قاع البحر.
انه يخوض حربا يفترض فيها – اعتبارا لكونها في العمق المسيحي -أن تكون مسيحية صليبية ؛لكن لا أسلحة بين يديه عدا متاريس العلمانية ،وهي لا تقتل الخصم وانما تهيجه وتقويه.
ولا يمكن لفرنسا أن تستعيد الزخم الصليبي ،لأنه غير موجود أصلا.
هنا المشكل ، وليس في الدول الإسلامية المخترقة.
وزن الريشة في مواجهة ما نعته “أوغست موليراس” –منذ أزيد من قرن ،بالجزائر- بالفيل الإسلامي.