مبدأ التصوف في سياق السيرة النبوية و التاريخ
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا: حال الأمة الإسلامية في الواقع وأحكام الوجود
لو أعطينا هذا العنوان حقه من الدراسة والبحث لما استطعنا وضعه في وريقات قابلة للعد بهذه السهولة،ولما سلمنا من التخلص من البحث حوله إلا بانقضاء العمر ودون استيفائه كاملا،ذلك لأن الأوضاع التي كانت منذ بداية تأسيس الخصوصية الروحية للأمة الإسلامية قد مثلت التكامل التام بين المقتضيات النصية والإجراءات التطبيقية الواقعية على كل الأصعدة،ابتداء من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة حتى عهد التابعين .
والتصوف لم يكن نشازا عن هذه الوحدة والتكاملية،كما أنه لا ينبغي لنا عرضه بشكل منفصل عن هذه الوحدة وإعطائه صفة زئبقية وحلزونية رخوة ولينة تخضع للظروف والتغيرات والمزايدات السياسية والطائفية حتى نرضي الآخر أو نزايد على أجندات ومخططات بعض الدول القريبة أو البعيدة من الإسلام جوهرا وعقيدة وتطبيقا. فيكون كل هذا التنازل من أجل نيل رضا الآخر ،سلطة سياسية أو مالية كانت أو دولة داخلية وأجنبية، وتسهيله لمقامنا عنده أو الاستفادة منه أيما استفادة !!!.
وهذا كله منافي كل المنافاة للتصوف ومبادئه الرفيعة المستمدة من مقام الإحسان:”أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
فليس التصوف مادة للتوظيف والركوب عليه واللعب به لأن هذه الطائفة كما يقول بعض شيوخه “تلعب بالشيطان لا أن الشيطان يلعب بها”.
ومن هذا المبدأ أقول باختصار وتواضع: فلقد اتفق المؤرخون والمحدثون أصحاب الإسناد القوي على أن هذه المرحلة كانت أعظم عصر مرت به البشرية في وجودها كله وفي مسيرتها الطويلة .
ففيها قد بدأت بعثة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،سيد الكونين والثقلين، حاملا الرسالة ومؤديا للأمانة وسراجا منيرا للسالكين . يقول تعالى :”يأيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا”.
فلقد كان هذا الرسول العظيم يدعو إلى الله على بصيرة ووعي تام لا يتخلله شك أو اضطراب”قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني “،فكانت حالته أنه خير العقلاء وكانت صفته أنه خير المتخلقين ” ن والقلم وما يسطرون،ما أنت بنعمة ربك بمجنون،وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم”.
ولقد سئلت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن صفته فقالت: “كان خلقه القرآن “.
و قال في مدحه الإمام البوصيري رحمه الله تعالى في قصيدته البردة مطلعها:
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى أن اشتكت قدماه الضر من ورم
حتى قال:
دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبل غير منفصم
فاق النبيين في خلق وفي خلق ولم يدانوه في علم ولا كرم
ثم:
فإن فضل رسول الله ليس له حد فيعرب عنه ناطق بفم
نعم تلك هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك هو نعته حيث لا يصل ناعته إلى استيفائه حقه، ففضائله أسمى ما تكون الفضائل وأخلاقه أزكى الأخلاق.
فلقد كان يحيي الليل صلاة ودعاء وذكرا،حتى اشتكت قدماه من كثرة الوقوف وتورمت مع أنه قد كان مغفورا له ما تقدم وما تأخر من ذنبه.وفي نفس الوقت كان داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا،وكان رحمة للعالمين بالمؤمنين رءوفا رحيما،فالقرآن خلقه وشريعته وهو “ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”.
ولقد كان لهذا الرسول أصحاب،ورجال حوله،وأتباع آمنوا به وأحبوه وأطاعوه،بحيث لم أجد أية أداة أصدق وأنصع وأسمى أصف بها وضعيتهم وحالهم في صحبة هذا الرسول العظيم، وفي معاملة بعضهم بعضا إلا بما وصفهم به الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حيث قال:”محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر الجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما”صدق الله العظيم.
فلقد كانت سمة المجتمع آنذاك تطبعها الوحدة في القول والعمل،في الحب والبغض،في الخوف والرجاء،والكل يخضع لسلطان الله وشريعته المبلغة بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكان المجتمع يسمى بالمجتمع المسلم،والبلاد بالبلاد الإسلامية والتشريع بدين الإسلام،فلا مذاهب ولانحل ولا طوائف،فالكل معتصم بحبل الله لا يبغي به بديلا “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا،واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها”.
إذن،فلا عملة تتداول في وسط هذه صفته إلا العملة الإسلامية،ولا ألفاظ تنطق إلا ما نص عليها الكتاب والحديث،وهكذا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين،استمرت الحالة على ما كانت عليه:طهر وعفاف وتقوى وصلاح،لم يقع التغير إلا في اختفاء شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهريا وانقطاع الوحي تشريعيا:”من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات،ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ” هكذا قال أبو بكر رضي الله عنه حينما تأكد من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واستيقن من ذلك “وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين”.
ثانيا: حتمية التصوف عند التغيرات الاجتماعية والسياسية
نعم ! لم تنقلب هذه الأمة على عقبيها،بل استمرت في زحفها وأتمت فتوحاتها على كل الأصعدة،روحية كانت،أو فكرية أو اجتماعية أو علمية… فكان الخليفة له منصب عام يتولى من خلاله الأمور الدينية والدنيوية،ويقيم شرع الله كما أمر به سبحانه وتعالى،فلا يحيد عنه قيد شعرة،ولا يزيغ عن محجته البيضاء،ويحمي بيضته من كل دخيل أو متعنت بتحريف أو تأويل وتضليل..
من نموذج هذا ما وقع في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في رواية الدارمي من طريق سليمان بن يسار قال:قدم المدينة رجل يقال له صبيغ،فجعل يسأل عن متشابه القرآن،فأرسل إليه عمر رضي الله عنه فأعد له عراجين النخل فقال من أنت؟قال أنا عبد الله صبيغ!قال:وأنا عبد الله عمر،فضربه حتى دمى رأسه،فقال:حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي!!!.
وأخرجه من طريق نافع أتم منه قال:ثم نفاه إلى البصرة وأخرجه الخطيب وابن عساكر من طريق أنس والسائب بن يزيد وأبي عثمان النهدي مطولا ومختصرا: وكتب إلينا عمر لا تجالسوه! قال :فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا…”.
بحيث قد كان هذا الإجراء ليس قمعا لحرية الرأي أو التعبير كما قد يتوهمه بعض العبثيين وإنما كان عملا وقائيا وعلاجا نفسيا واجتماعيا بوسائل فعالة،غايتها حماية الأمن الباطني للأمة وضمان انضباط المجتمع على عقيدة سليمة وموحدة حتى لا تتشتت المفاهيم وتتسرب الزندقة و التشكيك والميوعة ،وبالتالي قد تتوالى الجراءة على المقدسات الدينية ومرتكزات الأمة وهيبتها قصد الاستهانة بها واختراق حدودها،مما سيؤدي إلى الفساد والانحراف حتما ونتيجة.
وعلى هذا المنهج والاحتياط سيتوالى الخلفاء الأربعة تطبيقا وتحقيقا،والدين لم يمسه شيء من البدع والمجتمع لم يفلس بعد،لأن أفراد الأمة التي مدحها الله سبحانه وتعالى مازالوا أحياء “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه،فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر،وما بدلوا تبديلا”،يمثلون خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.
ولئن كانت قد وقعت أحداث واختلافات في عهد الخليفتين عثمان وعلى رضي الله عنهما وذلك عقب المؤامرة الدولية-إن صح التعبير- بين اليهود والنصارى الممثلون للروم والفرس الممثلون للمجوس إضافة إلى المنافقين بالمدينة،بحيث قد “شاع عقب ضرب عمر أن قتله لم يكن مجرد عمل أبي لؤلؤة المجوسي بل هناك أشخاص اشتركوا في دمه،فقد قال عبد الرحمن بن أبي بكر غداة طعن عمر:”مررت على أبي لؤلؤة أمس ومعه جفينة والهرمزان وهم نجي ! فلما رهقتهم ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه فانظروا بأي شيء قتل،فجاءوا بالخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة فإذا هو على الصفة التي وصفها عبد الرحمن”ناهيك عن تلميحات كعب الأحبار- الحديث العهد باليهودية – وإنذاره لعمر بن الخطاب بقرب أجله من مزعم أنه قرأه في التوراة،الشيء الذي أدخل الشكوك حول كونه له ضلع في القضية حتى نظم على إثرها شعر على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
فواعدني كعب ثلاثا أعدها ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذار الذنب يتبعه الذئب
فكل هذه الأحداث لم تكن لتمس جواهر المسلمين ودينهم،وإنما قد كان ذلك الاختلاف ناتجا عن اجتهادات واعتبارات،تلبست بصبغة سياسية كان لليهود والمنافقين يد طولى فيها،لا أطيل الكلام عنها في هذا المختصر،لكن الكل قد بقي يعبد الله ويوحده وينزهه عن كل أنواع الشرك والشبهات،والكل بقي يقوم الليل ويصوم النهار وينفق في سبيل الله ويجاهد ويذكر ويذكر،فرضا ونافلة ووجوبا وندبا وتطوعا،على تفاوت وتنافس محمود في باب الطاعة،والكل يحترم الشرع في أصوله وفروعه.وذلك ثابت بنص شرعي حيث أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:”خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه”.
وحتى إن ظهرت أثناء ما حصل من تلك الفتن وبعدها بقليل مذاهب وطوائف إلا أنها كانت في جل أقوالها تتعلق بإبداء الرأي في الإمام المنصب والمقتول وما حكم قاتله وما منزلته من حيث الإيمان،فكانت في الحقيقة ليست إلا مذاهب فقهية أو سياسية أو ذات نزعات شخصية وإن تسمت بأسماء دينية عقائدية.
هكذا،وبعد وفاة معاوية، تولى يزيد ابنه الخلافة سطوا وعنفا وغدرا بالعهود-كما قد يصفه البعض- فلقد كثر في عهده المجون والشرود، وأريقت الدماء،وكان من أبشع ما وقع أن سقطت دماء سيد الشهداء وحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما في كارثة كربلاء سنة61هجرية وحوصرت الكعبة المشرفة ورميت بالحجارة،وكذلك غزيت المدينة المنورة في وقعة الحرة،واستبيحت فيها محارم الناس،وأخذ من بقي من أهل المدينة بالبيعة،لا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن على أنهم موالون ليزيد وخول له.
يقول محمد بك الخضري:”لم تقف مصائب المسلمين عند قتل الحسين ومن معه بل حدثت حادثة هي في نظرنا أدهى وأشنع وهي انتهاك حرمة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي الإلهي وهي التي حرمها عليه السلام كما حرم إبراهيم مكة فصارت هاتان المدينتان مقدستين لا يحل فيهما القتال،فانتهاك إحداهما من الشرور العظيمة والمصائب الكبرى فكيف انتهاك حرمتهما معا في سنة واحدة؟”.
وبهذا فقد انتهك أصل من أصول التشريع في الحكم،ألا وهو مبدأ الشورى،وقضي على سنة الخلافة الراشدة و تفرق المسلمون شيعا وأحزابا، وكانت السلطة آنذاك قائمة على ملك عنيف لا يقوم على الدين وإنما يقوم على الأهداف السياسية والمنفعة الذاتية،كما يصفها بعض المؤرخين والأدباء.
ولم تنقض الفتنة بموت يزيد وإنما قطعت مرحلة من مراحلها ثم استأنفت عنفها وشدتها بعد موته فعرضت المسلمين ودولتهم لخطوب ليست أقل جسامة ولا نكرا من الخطوب التي وقعت في عهد –الطاغية- يزيد بن معاوية.
هكذا، وبعد هذه الخطوب وما بولغ ودس فيها من توصيف سواء من طرف المؤرخين الموالين أو المعادين لهذا الفريق أو ذاك أو المتربصين بالجميع،استمر حال المسلمين في انحلال دائب بين مد وجزر يزداد به المجتمع سوء وتضعف فيه همم الرجال،حتى صار الدين غريبا في بعض الأحياء،وأصبحت الفئة التقية والمحافظة على عقيدتها وشعائرها موسومة بالخصوصية.ولم يعد ذلك العموم في التقوى يوصف به المجتمع وإنما دخل الناس وخاصة من ذوي الثراء والسلطة في طور اللهو واللغو، والطرب والغناء…
فكان تطورا وتغيرا سلبيا خطيرا كأنه حدث في الأمة،وكان لابد من رد فعل قوي ضد هذه الظاهرة الغريبة والدخيلة على الحياة العامة،وكان لابد من العمل بكل جهد للمحافظة على الأصالة والعمل على ضمان استمرار نسخ منها في الوجود المرئي والحضور السلوكي والاجتماعي .ومن هنا بدأت بوادر التصوف كثورة روحية وسلوكية متميزة بالحال قبل المقال والواقع السلوكي قبل التعريف والتصنيف والتوصيف …