كلمة تأبينية في حق الأخ رشيد هداج رحمه الله تعالى
محمد شركي
إن الأخوة في الله عز وجل تلزم الإخوة رعاية حقوق بعضهم البعض أحياء وأمواتا . ومن حق الأخ العزيز رشيد هداج تغمده الله بواسع رحمته عليّ هذه الكلمة التأبينية المخطوطة، وكنت أود لو كانت ملفوظة في حفل تأبين يليق به .
لقد شاركني رحمة الله عليه مسقط الرأس بمدينة العيون سيدي ملوك، وهي يومئذ قرية صغيرة يعرف جل أهلها بعضهم البعض معرفة دقيقة ، ولا يخفى عليهم من أحوالهم شيئا صغارا وكبارا على حد سواء.
ومع أن صلتي به لم تتوثق إلا ونحن طلبة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بجامعة فاس ،وهي يوميذ ثانية جامعة في المغرب بعد جامعة الرباط ، فإنني كنت على معرفة به عن بعد وهو في طفولته الأولى لأن أطفال القرية الصغيرة كانوا يتعارفون فيما بينهم وإن لم تكن بينهم صلة أو علاقة ، وكان كل واحد يعرف الآخر بحارته أو بحيه . وكان الفاصل الجغرافي بيني وبينه هو سكة القطار التي كانت تفصل القرية إلى شمال وجنوب حيث نشأ أعلاها يستنا نشأت أسفلها . وكان لا بد من المرور أمام مسكنه المشهور والمتميز للوصول إلى الدكاكين التي كانت تتوسط القرية . وما كان يميز مسكنه بابه الضخم وقد علقت عليه مطرقة على عادة أبواب المنازل في المدين المغربية العتيقة . وخلافا للفاصل الجغرافي كان نسبي في قبائل بني يزناسن شمال القرية وعلى مقربة منها ، بينما كان نسبه في واحة فجيج على مسافة بعيدة جنوبها .
وكان المرحوم معروفا عند ساكنة القرية لشهرة والده رحمة الله عليه الذي كان عون سلطة، وكان يعرف باسم الشيخ الطيب ، وكان رجلا وقورا مهيبا من حفظة كتاب الله عز وجل ، كما كان له سجل مشرف في مقاومة الاحتلال الفرنسي البغيض ، وكل ذلك جعله يحظى باحترام وتقدير ساكنة القرية، فضلا عن كونه كان يقضي حوائجها الإدارية ، ويسعى في إصلاح ذات البين بينها إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك ، وكان مقبول الشفاعة إذا تشفع به .وهكذا نشأ أخي رشيد رحمة الله عليه في بيت قرآن ومقاومة ووطنية ، وهو بيت كرم ربه كثير الرماد كما تقول العرب .
وبعد معرفة الصبا التي لم تكن تزد عما كان يعرفه أطفال حارات وأحياء القرية عن بعضهم البعض وكان أحيانا على يتعدى ذلك علاقة الزمالة في الكتّاب أو المدرسة أو في فضاءات اللعب ، كانت لي به معرفة أكثر بثانوية عبد المؤمن بمدينة وجدة ، وقد فرقنا الوضع إذ كان هو من نزلاء داخليتها ،بينما كنت خارجي المنزل . وفي فترة الدراسة بهذه الثاتوية بدأ تبادل التحية بيننا ، وكانت عادة أبناء القرية الميل إلى بعضهم البعض حين يغادرونها وتجمع بينهم ظروف الدراسة أو العمل بعيدا عنها. عرفته في هذه الفترة شابا كثير الحركة سريع الخطو ،تغمره الحيوية و البشاشة والدعابة ،سريع الألفة مزاجي الطبع، متعدد المواهب . وقد كان يطرب زملاءه بالعزف على آلة ” الهرمونيكا ” حيث كانوا يتحلّقون حوله في حصص الاستراحة من الدراسة في زاوية من زوايا ساحة المؤسسة ليشنف أسماعهم بالعزف الذي يطربهم ، وأحسب أنه كان يطربهم أيضا بمحاكاة أشهر المغنيين يومئذ. وكان له رحمه الله تعالى شغب محبوب إلا أن الابتسامة العريضة لم تكن تغادر محياه . وكان إذا صافح شد على يد من يصافحه بقوة وحرارة وكأنه يريد التعبير عن قوة عاطفة المحبة عبر تلك المصافحة القوية .
وبعد معرفة المرحلة الثانوية ،ازدادت صلتي به في جامعة فاس التي كانت تشهد فترة أحداث وطنية ودولية كبرى حيث شهد الوطن مسيرته الخضراء لاسترجاع صحرائه بعد احتلال اسباني بغيض . وكان الصراع في شكل حرب باردة على أشده بين المعسكر الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي يومئذ ، والمعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ، وكانا يديران الحرب الساخنة بينهما بعيدا في بلدان العالم الثالث . وحصلت الثورة الإيرانية التي أعلن صانعها أنها لا شرقية ولا غربية ،ففي هذه الظروف عرفت أخي رشيد عن كثب ، عرفته شابا دمث الأخلاق، متدينا ،ورعا تدمع عيناه لسماع ذكر الله تعالى ، رقيق القلب لكن دون أن يتخلى عن شيء من طبعه المرح . وقد فرقتنا الشعب في الجامعة حيث التحق بشعبة الفلسفة ، بينما التحقت بشعبة اللغة العربية وآدابها. ولم يكن اختياره لهذه الشعبة صدفة بل كان ميالا بطبعه إلى التأمل الميتافيزقي، الشيء الذي أكسبه مهارة في الجدل . وكان رحمه الله تعالى يطالع الكتب بنهم خصوصا كتب أعلام العلماء المسلمين الكبار . ولقد استطاع في وقت وجيز خلق علاقات مع كل من كان يرتاد قاعة الصلاة بالحي الجامعي بظهر المهراز . وما لبث أن صار يشارك الأخ السوري المدعو نذير رفع الأذان من الحجرة رقم 480 ، وكان يسميها الزواية حيث كانت في آخر طبقة من بناية الحي الجامعي ، وفي آخر ركن منها وكان الأذان ينطلق منها ، وكان الجميع يطرق بابها . وتميّز الأخ رشيد بنشاطه الدعوي الذي بدأ في شكل كتابات في المجلة الحائطية المعلقة على جدار قاعة الصلاة ، وكان بارعا في رسوم الخط العربي بمختلف أشكالها ، وكانت له تحف خطية في منتهى الروعة والدقة . وكانت له عروض ومداخلات قيمة في شتى القضايا الإسلامية لا تخلو من أهمية وطرافة واستفزاز فكري أيضا .
وكان له رحمة الله عليه ولع كبير بالبحث عن إطار تنظيمي يجد فيه ذاته الواسعة الطموح ، فانتسب أولا أمره إلى جماعة الدعوة بمدينة فاس ثم انتقل منها إلى جماعة العدل والإحسان حيث كان يزور شيخها رحمة الله عليه في بيته بمدينة سلا ، وكانت له صداقة مع زوج ابنته السيد عبد الله الشيباني قبل أن يقترن بها ثم ما لبث أن التحق كمناضل بحزب العدالة والتنمية في آخر المطاف حسب ما بلغ إلى علمي . والمعروف عنه أنه كان شديد الإعجاب بالشخصيات الإسلامية الكاريزمية، لهذا ظل ينتقل من تنظيم إلى آخر حتى أن بعض إخوانه عاتبوه على ذلك ،ولكنه كان لا يبالي بعتاب في بحثه عن الوسط الذي يجد فيه ضالته . وكان لكل فترة يمر بها تأثير على سلوكه، وقد زرته يوما في بيت كان يشاركه فيه بعض معارفه أساتذة وطلبة في إحدى العمارات بشارع علال الفاسي حين كان يدرس الفلسفة بإحدى ثانويات مدينة وجدة ، فوجدته منصرفا للذكر وبيده مسبحة ، فصار يحدثني عن ورد أخذه عن شيخ جماعة العدل والإحسان ، وانتهى به الحديث إلى الكشف عما سماه كرامة عاشها حيث ارتسمت كلمة التوحيد من نور على صعيد تيمم كان يستعمله ، وعرفت حنيئذ أنه كان في تلك الفترة تحت تأثير تصوف تلك الجماعة، كما كان كثير الحديث عن عبور الرؤى إلى درجة انصرافه عن مشروع زواجه الأول بسبب رؤية عبرها له شيخه . ولقد كان ممن اعتقلوا بسبب انتمائه إلى تلك الجماعة . ودخل بعد ذلك في مرحلة تصوف إسلامي فلسفي، وقد حدثني ذات يوم عن شيء من ذلك ثم ما لبث أن ولّى صوب السياسة، فصار مناضلا في حزب العدالة والتنمية ، ولا أعلم كثيرا عن نضاله في هذا الحزب ، وزملاؤه في الحزب أولى مني بالتعريف بنضاله إذا ما خصوه بتأبين .
ولقد عرف في مدينة توريرت بنشاطه في ورشة اتخذها لنفسه ،لأنه كانت له موهبة كبيرة في صناعة التحف الزجاجية وغيرها مما يتخذ زينة في البيوت والمكاتب وغيرهما .
وكانت لي معه قصتي في الحي الجامعي يوم قرر الطلبة الإسلاميون كما يطلق عليهم تنظيم معرض للكتاب الإسلامي خلال ثلاثة أيام ، وكان السبب في ذلك هو منع الطلبة اليساريون أحد الباعة من تسويق الكتب الإسلامية كما كان غيره يسوق غيرها من الكتب العلمانية . ولقد اعترض الطلبة اليساريون على تنظيم هذا المعرض ،فنشأ صدام بينهم وبين الطلبة الإسلاميين، وكان الأخ رشيد حاضرا في الصدام ، وكنت ساعتئذ بجواره حين التقى الجمعان، فأصيب بشج خطير في رأسه فقد على إثره وعيه ، فاحتضنته وقد اختلط دمي بدمه ، ثم حملته على أكتافي بعيدا عن منطقة الصراع حتى نقل بعد ذلك إلى المستشفي وبعد علاجه و تماثله إلى الشفاء نقل إلى سجن عين قادوس حيث كنت أنا ضمن 26 من الإخوة رهن الاعتقال ، وعلى رأسهم المرحوم الأخ العزيز عبد القادر خليد . وما لبثنا أن تركنا السجن بعد أن أخلت المحكمة سبيلنا ،وقضت بفترة حبس نافذ في حق الأخ خليد واثنين آخرين، بينما قضت بفترات سجن مع وقف التنفيذ في حق الآخرين بتهمة العنف داخل الحرم الجامعي . ولقد أشبع الأخ رشيد بذلك الاعتقال يومئذ رغبته في السيرعلى نهج كبار الدعاة الذين كانوا يتعرضون للاعتقال بسبب الدعوة إلى الله عز وجل . ولقد خرجنا يومئذ من تجربة الاعتقال بزهو كبير واعتداد بالنفس، وكذلك دأب الشباب في المرحلة الجامعية .
ولقد حدث أن استضفته رحمه الله تعالى يوما، وكان قد أفرج عنه بعد فترة اعتقال بسبب انتمائه إلى جماعة العدل والإحسان، وكان يومئذ مارا بالقرب من منزلي القريب من المحطة الطرقية التي كان يقصدها للسفرإلى بيته في مدينة تاوريرت ، فدعوته إلى طعام الغذاء، لكنه اعتذر في البداية لأن عنصرين من عناصر الأمن كانا يراقبانه إلا أنني ألححت عليه، فنزل عندي ضيفا ، وكان لهذه الضيافة ثمن حيث منعت من حيازة رخصة قنص ، ولما استفسرت عن السبب اكتشفت أنني قد صنف خطأ أو ظلما مع جماعة العدل والإحسان بسبب سوء تقدير ممن صنفني ، وأنا ليس بيني وبين هذه الجماعة إلا الخير والإحسان كما يقال، ولم أكن في يوم من الأيام منتميا إليها ولم أر شيخها ولم أزره قط ، ولست ممن يميل إلى الانتماء إلى جماعة دينية أو حزب كما ذكرت ذلك مرارا وتكرارا في مقالاتي على مواقع الشبكة العنكبوتية .
وظلت الصلة تربطني بالأخ رشيد رحمه الله تعالى ، وكنت أزوره بين الحين والآخر خصوصا بعد أن أصيب بداء القلب الذي عانى منه كثيرا . ولا يستغرب من قلبه أن يصاب بعلة ، وقد كان وعاء أومستودعا لمختلف العواطف الجيّاشة .
ولقد عاش رحمه الله تجربة زواج أولى رزق على إثرها بابنة فطرت على دماثة خلقه ثم تزوج ثانية ورزق أبناء آخرين مع زوجته الثانية، وهي سيدة فاضلة تفانت في صحبته وخدمته صحيحا و سقيما على فراش المرض حتى وافاه الأجل رحمة الله عليه .
هذه كلمة تأبينية لا أراها أدّت ما عليّ من حق لأخ عزيز فقدته، ولكنها كلمة يصدق عليها قول الهدهد لنبي الله سليمان عليه السلام لمّا أهداه جرادة ،فسأله عن قيمتها بالنسبة إليه وقد آتاه الله ملكا عظيما لم يعط أحدا من بعده :” يا نبي الله هديتك لا قبل لي بها ،والهدية لا تعبر إلا عن قدر صاحبها ” وأنشد قوله شعر فقيل :
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة = أهدت له من جراد كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلة = إن الهدايا على مقدار مهديها
لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته = لكان يهدى لك الدنيا وما فيها
وأنا أقول إن كلمتي التأبينية هذه على قدر صاحبها، وأرجو أن ترضى عنها روح أخي العزيز رشيد الذي أسأل الله عز وجل أن يفسح له في رحمته وفي جنته ، وأن يتقبل منه كل سعي سعاه في سبيله منذ شبابه إلى أن لقيه إنه سميع مجيب . ونسأل الله اتعالى حسن الخاتمة بعده ، وأن يجمعنا به في جنة النعيم فضلا منه ونعمة .