تفشي الوباء:لماذايغيب الوعي؟
كمال الدين رحموني
لست أدري ما أصابنا، وما الأمر الذي دهانا، بل أين عقولنا؟ وأين وعينا إن كان لنا وعي؟ وما الحيلة والنجاة مما نحن فيه؟ في الأشهر الماضية مع بداية الوباء، كان يبدو أن الناس قد شدّوا أحزمتهم، واحتكموا إلى عقولهم، حتى ظننا أن منا أولو الأحلام والنُّهى. ومن قبلُ ظلّ كثيرٌ منهم يردد قائلا: ما هذا الوباء؟ ما كورونا؟ وأين ظهر؟ ونحن بمنأى عنه، وهذا اسم جديد من أسماء الفيروسات التي حيّرت العالم،ومعها الدولة. ولأن البون شاسع بينا وبين من ظهر فيهم أول مرة، ولأننا ظللنا نشعر دائما أننا أقل منهم وعيا وتحضّرا، واهتماما ووسائل وإمكانات، فإن هول الوباء قد أفزعهم إلى الحدّ الذي سلموا لخطورته فقاموا يهيئون من الوسائل والأسباب التعاطي معه، وحصل الاقتناع بحجم الخطورة والحقيقة المفجعة، والمصيبة القاتلة. لكن مع امتلاك الوعي ظل غائبا لدى العامة، الذين طال بهم الأمد والتزموا بالحجر أشهرا، لكن سرعان ما عبروا عن ضآلة الوعي وطغيان الحاجة إلى الاستهلاك، فإذا بهم ينفكون من عقال، ويتمردون على الإجراءات الصحية فكانت الكارثة عشرات الآلاف من الضحايا، هذا مع وجود المؤسسات الصحية والحاجات المعيشية، ولكنهم بكل الالتزام السابق، والتمرد اللاحق، هاهم يعودون إلى الحياة القسرية ويعودون إلى الإغلاق، فهل هؤلاء سذّجٌ أو بلهاء؟ُ أو مستهترون؟
ولنعد إلى حالنا، فلا المؤسساتُ الصحية كافية مع كل البطولات التي يقدمها نخبة من رجالات الوطن، ولا الدولةُ بمؤسساتها الجيدة والمهترئة قادرة على التعاطي مع خطورة الوضع، ينضاف إلى كل هذه الإكراهات عينة من طينة بشرية” لهم “قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها”، يحارُ المرء في أي الخانات يُصنّفون، ولو ووصفتهم كوصف الآية لاحتجوا عليك بقوله تعالى: “لقد كرّمنا بني آدم”، فكيف يُهانُ الناسُ بهذا الشكل؟ والمفارقة أن هذا الصنف لا يصدق فقط على من يقول لك إذا سألته:”ما قاريش”، بل قد يكون ممن لا يلتزم بالإجراءات الصحية “قَاري”، وصاحب علم أو شهادة أو منصب أو مقام. فأي انفصام هذا ؟ وأي سلوك هذا الذي يصدر عن هؤلاء مهما كانت مراتبهم ومراكزهم؟ وهل صحة المواطن ذات أهمية، أم لم تعد كذلك كما كانت من قبل؟ وانظروا كيف أصبحت الإصابة بالوباء شيئا عاديا اليوم مقارنة بالشهور الأولى، وانظروا كيف أصبحت أعداد الوفيات بالعشرات حين بالناس بها، كيف أصبح خبرها “خفيفا” من بعد ما كان خبر وفاة أخ أو عزيز أو صديق في الشهور الأولى كالصاعقة، فعاد اليوم مع ارتفاع أعداد الوفيات الرهيب لا يُخلّف فينا أثرا أو “حزنا” بينا، كل ما في الأمر لا زلنا لم نفقد بعدُ التعبيرَ عن الدعاء والمغفرة مرددين: “لا يرحمهم”.
ولعل رتابة الموت التي لا تتخلف عنا يوما فتُفجِعنا في من نحِبُ، لعل هذه الرتابة، وقد أصبحت شيئا متقبَّلا، تترجم رتابة مقيتة، تؤكد أننا كلُّنا فقدنا الإحساس بقتامة الوضع الصحي إلى الدرجة التي أصبحنا نشيّع العشرات في اليوم، وكأننا في “نزهة” أو “حفل بهيج”، والحقيقة الصادمة أنه الرَّزء والفجيعة والدمعة والشجى والألم الذي يخيم على كل بيت أرْدَتْ كرونا فيه أحدا من أفراده أو جماعة منه. لماذا تبلّدت أحاسيسنا فلم نعد “نتأثر”؟ لأن التأثر الحقيقي هو الذي يترجمه السلوك المنضبط الملتزم، وإلا كيف نفسر هذا الهيجان “الفئوي” في لحظة “فرح وتتويج” هل تم تخيَل مآل الفرح المزعوم على من حضر، ورقص، وزغرد، وأشرف، وكرّم؟ هل فسحنا المجال وامتلكنا مسحة عقل في لحظة التعبير عن الفرح، وتم الالتزام بالإجراءت الصحية، أي فوائد سنجنيها؟وأي مكاسب سنغنمها حتى ولو كانت اللحظات مشاعر فرح؟ لماذا مُنعت التجمعات في ملاعبنا لحد الآن منذ شهور، وحين انتهى الرهان، فقدنا فرامل العقل وكوابح القرار، والأسوأ أن يأتيَ هذا التفلّتُ ممن اسْتُودِعوا رقابَ الناس وصحتَهم، فهل المواطن حين يتفلّت من الإجراءات ويتمرد عليها على أبواب الإدارات، يُلام، ويُشتكى منه، ويُتَّهم باللامبالاة؟ أليس يكون للتمرد “مبرر” مع الإقرار بأن لا مبرر لسلوكه؟
لقد كان مما جعل نبي الإسلام يتصدر قائمة مائة رجل من عظماء التاريخ كما صنفه الكاتب الأمريكي الراحل “مايكل هارت” لما سئل عن السبب قال” لقد بحثت في سِيَر كل العظماءالمائة فما وجدت أعظم من محمد، فقد كان لا يأمر بشيء إلا كان أسبقَ الناس إليه، ولا ينهى عن شيء إلا كان أبعدَ الناس عنه”. هذه القدوة والمثال exemple الذي نريد فعلى قدر صلاح القادة والمسؤولين والتزامهم يكون صلاح الناس، والعكس صحيح. وإذا غاب الردع المادي، فأين الردع المعنوي؟ أين دور المساجد والخطباء في تخويف الناس من عدم الامتثال وتحميلهم المسؤولية الشرعية إذا تسببوا في العدوى، ومن أسبابها الاختلاط الحاصل، على الناس أن يعلموا أن من تسبب في العدوى لأخيه وكانت سببا في وفاته، فقد ذكر بعض فقهائنا أنه قد يُصنَّف ضمن القتل الخطأ وما يترتب عليه من أحكام. من جانب آخر حين نقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إتيان المسجد لصلاة الجماعة إذا أكل ثوما أو بصلا، والاكتفاء بالصلاة في البيت، هذا ما الفائدة الغذائية للثوم والبصل، لكن علة النهي تكمن في شيء ذوقي فقال عليه السلام:” حتى لا يؤذي أحدا من المسلمين” بالرائحة، فكيف إذا كان الأذى نقلَ وباء فتاك ؟ لا بد أن يسمع الناس المتفلتون هذا النصح، وأن يلتزم به العامة والنخب من المسؤولين.
رحم الله الموتى ورزق أهاليهم الصبر الجميل وبشرهم بالشهادة بإذنه سبحانه، وعجّل للمصابين بالشفاء وألهم الناس الفهم والوعي، مع خالص التضرع للرحمن الرؤوف الرحيم أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وأن يحيي قلوبنا حتى نمتثل ونلتزم.