متسولون بهواتف نقالة وبدلات وربطات عنق بوجدة
تعددت الوسائل والطرق والحيل والخدع والهدف واحد، هو الوصول إلى داخل جيب المواطن والحصول على درهم أو أكثر، فمن الشابة المعيلة لأيتام بعد وفاة والدهم إلى المعاق العاجز عن القيام بأي عمل إلى المريض المحتاج لأدوية فمسافر تمت سرقته و”تقطع به الحبل” بمدينة وجدة…وتلك أم وضعت على يد طفلتها جبيرة ونزعت عن قدميها نعليها ووضعت على نصف جسمها قطعة قماش ورمت بها بين السيارات في أحد مفترق الطرقات عند الأضواء تتنقل بين السيارات
متسولون بهواتف نقالة وبدلات وربطات عنق بوجدة
عبدالقادر كتــرة
توقف المارة والمتبضعين من المواطنين والمواطنات على كرسي متحرك ثم تشرع في استظهار خطاب دون تلعثم أو تعثر أو توقف وتنجح تارة في الإقناع وتحصل على درهم أو أكثر أو أقل وأخرى تفشل دون أن تغضب ثم تنتظر مرور مواطن آخر، بعد أن تستل هاتفها النقال وتباشر حديثا مطولا مع مخاطبها بصوت مرتفع قد تتابع مجرياته إذا توقفت لبعض الثواني .
من المواطنين من يتأثر بالمشهد فتسمعه يردد “مسكينة، الله يكون في العون..مسكينة” أو “الله يجعل العاقبة على خير…”، وآخرون لا يعيرون لها اهتماما بل يجهلون أو يتجاهلون وجودها، بحكم كثرة عددهم وتنوع الوسائل والطرق الخادعة التي يسلكها عدد كبير من أمثالها حتى أصبحوا يضايقون المارة والوافدين على الأسواق أو المتاجر أو المساجد أو المقاهي أو أي فضاء للتجمعات…
توقف متسول عند أحد بائعي “الكاسكروطات” وطلب من صاحبها أكلا للشاب “المريض” أو “المتمارض” الذي كان يرافقه، الأمر الذي تمت تلبيته دون مقابل، قبل أن يطلب لنفسه “كاسكروطا” ولكن هذه المرة بالمقابل.
كنا ننظر إليه ونتتبع حركاته ونحاول فهم أسباب وضعيته حيث كان “المتسول” يبدو في صحة جيدة كما كنا نحاول معرفة محتوى الكيس البلاستيكي، لكن كم كانت دهشتنا كبيرة حين رن هاتف نقال في جيبه وأخرجه وشرع يتحدث مع مخاطبه وهو يرسل إلى فمه لقمات من “كاسكروطه” ويلوكها…
أصبحت ظاهرة التسول تسترعي الانتباه وتدفع العديد من المواطنين إلى التساؤل حول أسباب استفحالها وتضاعف أعداد ممارسيها وانتشارهم بجميع أنحاء مدينة وجدة خاصة ومدن الجهة الشرقية عامة.
إن العديد من المواطنين أصبح يتقزز من هذه المشاهد ويتردد كثيرا عند تقديم صدقة قبل أن يتفحص طالبها أو الواقف عند بابه.” ما بقيناش نعرفو المسكين من غيرو. الطلابة كثرو والوجوه تبدلو وكل واحد يشكي بعذرو” يقول أحد التجار الذي أعياه العطاء اليومي.
تفحص أحد المواطنين العاملين بحقل الصيدلة الكيس البلاستيكي للمتسول صاحب الهاتف النقال وإذا به يجد علبا فارغة لأدوية غير متجانسة تماما ومنها علبة من دواء ينصح الطبيب لاستعماله لفتح الشهية وآخر لآلام البطن وثالث للزكام…”خليت الدوا في الدار وجبت معايا غير القوابس” يقول المتستجدي القادم من مدينة من غرب المملكة، قبل أن يدخل في تفاصيل وضعيته التي جعلته يتخلى عن مهنته ويمتهن التسول، “الحمد لله، كاين المحسنين واخا ماشي بحال السنين اللي فاتو…”.
يصطف المستجدون عند أبواب المدينة القديمة وأمام أبواب الأسواق والقيساريات بأعداد هائلة ترعب المواطنين والمتبضعين وفي بعض الأحيان تقلقهم وتغضبهم لكثرة الأيادي الممدودة والمصممة على أخذ “نصيبها” كلما جاد أحد الكرماء على أحدهم، بل هناك من يستفسر ويسأل إذا لم يحصل على شيء.
يطوف بعض الأطفال على المقاهي أو يتسمرون عند مدارات المدينة، يرتدون ألبسة جميلة موقعة ب”ماركات مسجلة” كبعض المتسولين الكبار المرتدين لبدلات جديدة ومكوية وربطات العنق، ويستعطفون الجالسين إلى قهواتهم بدعوى أن زوجات والديهم أخرجنهم من بيوتهم ولم يتناولوا لقمة أكل منذ يوم، ثم يعودون مساء الغد بكسوة أخرى أجمل وبنفس “الأغنية ” دون حياء رغم النهر والقهر الذي يتعرضون له.
لا احد يمكن له أن يحصر عدد الممارسين لهذه المهنة التي تدر أموالا على أصحابها إذ يتجاوز عددهم عشرات المئات منهم القارين ومنهم المارين وكثيرة هي الوسائل المبتدعة والحيل المختلقة في الإيقاع بالمواطنين واستدرار شفقتهم و”تقطيع” قلوبهم حتى سقط البعض منهم في فخه ولم يعد يدري أن وسيلته قد تقادمت أو لم تَعُدْ حيلته تنطلي على احد بل أصبح حديث المواطنين وسخريتهم وبالتالي تجاهلهم له وإمساكهم عن مساعدته مما يثير حنقه وغضبه ويكيل لهم من الشتم والسب ما يريد.
اعتاد أحد المتسولين أن يستعمل عكازين منذ أن وقعت له حادثة سير ويطوف بين المقاهي ويتلقى مساعدات. لكن شفي من كسوره واستمر في مهنته التي وجدها مربحة وسهلة ورفض أن يتخلى عن عكازيه كما رفض المواطنون الذين أن يمدوه بالصدقات بل صار سخرية لهم كلما رفع عكازيه عند عبوره الطرقات وركض قبل أن تلحق به السيارات وهو يسب ويشتم “البخل” و “البخلاء”. وهناك متسولة تجلس القرفصاء أمام أحد أبواب المساجد وبمجر خروج المصلين من أداء صلاتهم تشرع في النواح والبكاء والعويل مطأطئة رأسها حتى لا يلاحظ أحدهم عيونا بلا دموع…لكن طال نُواحها وألف الناس نَدْبها منذ عشرات الجُمُعات…
عرف سوق الاستجداء دخول عناصر جديدة من المستجدين الجدد القادمين من بلدان جنوب إفريقيا أو من سوريا حيث تجدهم إلى جانب “إخوانهم” المغاربة أمام المساجد والمقاهي والأسواق الأسبوعية وأصبحوا يشكلون مشهدا عاديا من مشاهد الفقر والعوز والحاجة.
هؤلاء يثيرون أكثر من غيرهم الشفقة والعطف بحكم وضوح أوضاعهم بالمغرب وأسباب نزوحهم. هؤلاء يلقون التضامن والدعم والمساعدة من طرف المواطنين الذين ألفوا سماع طلبتاهم بكل اللغات الإفريقية لكن كلها تبدأ ب”ماما…” و”بابا…” متبوعة ب” في سبيل أَلله…”.
تعددت الوسائل والطرق والحيل والخدع والهدف واحد، هو الوصول إلى داخل جيب المواطن والحصول على درهم أو أكثر، فمن الشابة المعيلة لأيتام بعد وفاة والدهم إلى المعاق العاجز عن القيام بأي عمل إلى المريض المحتاج لأدوية فمسافر تمت سرقته و”تقطع به الحبل” بمدينة وجدة…وتلك أم وضعت على يد طفلتها جبيرة ونزعت عن قدميها نعليها ووضعت على نصف جسمها قطعة قماش ورمت بها بين السيارات في أحد مفترق الطرقات عند الأضواء تتنقل بين السيارات أمام أعين “الأم” المراقبة لتحركات الطفلة (إن كانت طفلتها حقيقة) من أحد أركان المفترق تحسب عدد الأيدي الكريمة…
ورغم ما يقال عن هذه الظاهرة ورغم ما نسمعه عبر وصلات إشهارية تطلب من المواطنين الامتناع عن التصدق حتى لا يساهم المرء في تشجيع مهنة التسول، ورغم ما نقوله عن هؤلاء الممتهنين لها، رغم كل ما يقال تبقى ظاهرة التسول والاستجداء من مظاهر تخلف المجتمعات ونتاج سياسات حكوماتها وثمار أنظمتها الاقتصادية. ولا شك أن الذي يختار مهنة التسول، قد اختارها قهرا لظروف معينة واختار معها أن يتخلى عن كرامته وأنفته ومروءته ولا شيء أشد من الذل والهوان من مد يد سفلى ليد أعلى تمنح أو تمنع وتقبل كلمات الطرد والنهر والقهر بل أقل قساوة واحتقارا من التجاهل وإشارات بالانسحاب…
إحصائيات رسمية، وضعت المغرب في صدارة الدول العربية التي تعاني من ظاهرة التسول، حيث أن عدد المتسولين يصل بالمغرب إلى حوالي 195 ألف متسول، متبوعا بمصر بـ 41 ألف متسول، وتأتي الجزائر في المرتبة الثالثة بمجموع 11 ألف متسولا.
وكان موضوع ظاهرة التسول مصدر نقاش مستفيض بمجلس المستشارين، الثلاثاء 4 يونيو 2019، حيث أجمع كل المتدخلين بمجلس المستشارين، بأن ظاهرة التسول تقتضي إيجاد حلول اقتصادية واجتماعية، لكون تحسين هذه الظروف يكون سببا مباشرا في الحد من ظاهرة التسول أو تخفيض نسبتها العامة، التي ترسم أرقاما مهولة على الصعيد الوطني.
وفي هذا الصدد، أبرز الأستاذ الباحث في علم الاجتماع، علي شعباني، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن هذه الظاهرة الاجتماعية أصبحت ممارسة خطيرة وفي تطور مستمر في المغرب، فكل فئات المجتمع، من جميع الأعمار ومن الجنسين، فتيات ونساء ورجال وكبار السن يمتهنون على حد سواء “مهنة التسول”.
وأشار عالم الاجتماع إلى أن “التسول يعرف تزايدا لأسباب وعوامل مختلفة ومتعددة”، مسجلا أن ظاهرة التسول أثبت، من وجهة نظر اجتماعية، ومنذ فترة طويلة، أنها حرفة تدر دخلا هاما لا يتطلب شهادات أو جهدا.
وأوضح أن بعض المتسولين الذين يرفضون عروض عمل يتلقونها من المصانع أو المطاعم أو غيرها، معتبرين أن مد اليد يتيح لهم كسب دخل يومي مهم يتراوح بين 250 و300 درهم كحد أدنى.
وفي هذا الإطار، قامت وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة باتخاذ تدابير مختلفة للقضاء على هذه الظاهرة. ويتعلق الأمر على الخصوص، بإطلاق الوزارة بتعاون مع رئاسة النيابة العامة والقطاعات الحكومية والمؤسسات الوطنية المعنية والجمعيات في نهاية سنة 2019 وبداية 2020، خطة عمل حماية الأطفال من الاستغلال في التسول، بغية وضع منظومة متكاملة لحماية الأطفال من الاستغلال في التسول، تشمل الحماية القضائية والتكفل الطبي والنفسي والرعاية الاجتماعية وإعادة الإدماج في مؤسسات التربية والتكوين.
وقد مكنت هذه الخطة، في تجربة نموذجية شملت مدن الرباط وسلا وتمارة، من سحب حوالي 100 طفل من الاستغلال في التسول، وذلك إلى غاية بداية الحجر الصحي.