الذكر ووظيفة التكرار بين الصوفية وعلم النفس
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الذكر كمحور ومعيار عقدي وعملي عند الصوفية
يعتبر الذكر عند الصوفية كأقرب وأسلم الوسائل إلى الله تعالى ،وهو عمودها الفقري الذي لا يمكن أن تنتصب بدونه،وليس بعد قراءة القرآن الكريم وترتيله عبادة تؤدى باللسان وتتحرك بها الشفاه أفضل من ذكر الله تعالى.
ويؤكد ابن عطاء الله السكندري ضرورة الذكر للسالك، والإصرار على مداومته في كل الأحايين،فيقول:”لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه،لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره،فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عن سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز”.
ولهذا فلقد كان الذكر وما يزال علامة الولاية ومنشورها،ومن أوتي الذكر فقد أوتي منشور الولاية ومن سلبه فليس له إليها سبيل..
والذكر أعظم باب أنت داخله لله فاجعل له الأنفاس حراسا
إن الإنسان إذا أكثر من ذكر الله تعالى أورثه خشوعا وتقوى وزيادة إيمان،وألبسه وحضورا تاما يراقب من خلاله خالقه في كل تصرفاته ويراقب نفسه في كل ما يصدر عنها من عمل ويحاسبها عليه.وبهذا فكان الذكر أحسن عمل يقي صاحبه عذاب النار وأهوال يوم القيامة،وهو بالذكر قد يكون أقرب إلى التقوى وأبعد الناس عن المعاصي.
إن الذكر أكبر عامل من عوامل الشعور التام بالحياة ومجابهتها ،وتوجيه النفس التوجيه الصحيح حتى يصبح الإنسان واقعيا مطمئنا في قلبه و قويا في إرادته،كما في الحديث النبوي الشريف : “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت”.وهذا أحسن وأدق تصوير لحقيقة الذكر و فعاليته في الروح والوجدان.
فالحياة المقصود بها في هذا الحديث ليست العضوية أو حياة الجسد ذي البنية المادية بطبيعة الحال،ولكن المراد منها حياة القلب الروحي الجوهر،والذي” إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله”.
إن الذكر في حقيقته،تكرار اللفظ مع تذكر المذكور قلبا حتى يتولد من جراء هذا التكرار عادة التذكر،فيصبح القيام بمحتوى التذكر سهلا مهلا لا يحتاج إلى كلفة،فإذا كان الذكر قد يقصد به تثبيت الإيمان في القلب،وإذا كان الإيمان يقوم عند الصوفية على عقد بالقلب وشهادة باللسان وعمل بالأركان، فإن الذكر يكون هو السبيل الوحيد لتسهيل القيام بكل ما تحتوي عليه الشريعة من أوامر ونواه وفروض وواجبات وسنن ومستحبات.
وقد لا يمكن أن يكثر الإنسان من الذكر وقلبه ليس بمطمئن وليس بمقتنع بما يقول،و هذا ما يفهم من قول الله سبحانه وتعالى في وصف المنافقين:”إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا”.
بحيث قد تكون هذه المظاهر علامة على ضعف الإرادة التي تحتاج إلى تثقيف الذهن وملئه بالعلم النافع حتى يكون الدافع والحافز إلى القيام بالعمل الصالح والانسجام معه بكل محبة ورضا.وهذا هو الشيء الذي اتخذه الصوفية في مسلكهم حينما أوجبوا العلم قبل العمل،والتزموا العمل عند العلم،بحيث لا تكون الإرادة قوية إلا إذا كان تصور هدف الفعل ومعناه واضحا وجليا في ذهن من أراد القيام به.
ثانيا :الذكر بالتكرار عند الصوفية ومقاييس علم النفس
فعلى الصعيد الصحي عند الأطباء النفسانيين-وشتان الفرق عند المقارنة بين المنهجين-فإنهم في طريقتهم المسماة بالإيحاء الذاتي لتقوية الإرادة والتركيز قد يقومون بإجراءات ممهدة وتحضيرية من مقدماتها:
عملية التثقيف الذهني،والذي في أساسه قد يهدف إلى إقناع المريض نفسانيا بوجود علاقة بين الروح والجسد،وتأثير متبادل بين الطرفين،ولأنه يمكن أن يتسرب المرض النفساني فيؤثر على الأعضاء الجسدية و تصير هي بدررها مريضة،كما يمكن كذلك أن يكون المرض عضويا فيؤثر على نفسية المريض فتصير عليلة متذمرة …
هكذا،وبعد الإعلام بهذه الحقائق،فقد يأخذ الطبيب مريضه ويلقنه كيف يمكنه أن يقوي إرادته،وذلك من خلال استعمال مخيلته وإصدار إيحاءات ذاتية،بعد ما كانت دخيلة وكان يتلقاها من الخارج.
ولقد كان أحد العلماء النفسانيين “كوئه” يدلل على ما للروح – النفس- من تأثير على الظواهر الجثمانية وذلك بإجراء تجارب ثلاثة تعرف باسم :
أ- تجربة الرقاص . ب – تجربة السقوط . ج – تجربة الأيدي.
ويشترط أن تجرى هذه التجارب في حالة تركيز تام وفي أثنائها يلقن المريض كلمات تناسب التخيلات والأفكار التي يركز عليها،وتصاغ هذه الكلمات بصفة الترديد بسرعة وبصوت منخفض لحد الهمس،حتى لا يترك مجالا للتشويش وضياع التركيز،وذلك كأن يردد “زالت الآلام،زالت الآلام ،زالت الآلام …”.
إن كل هذه الإجراءات لا غاية لها إلا محاربة القلق الذي يساور أعماق النفس البشرية،والذي يعد من المشاعر المؤلمة التي قد لا يستطيع الإنسان تحملها ومداراتها مما يدفعه إلى استعمال كل الوسائل،وتخطيط شتى البرامج لعله يجد راحة مما يعانيه،لأن القلق هو جوهر المتاعب ومركز العصاب والخوف والعنف والتطرف…
لهذا فقد كانت النفس البشرية دائما بطبيعتها تسعى إلى السيطرة على القلق واقتلاع جذوره لعلها تضمن لنفسها التكيف والملاءمة والتناسب والتوافق اللازم مع داخلها وخارجها،ومع المجتمع،ومع الوجود كله،والذي لا غنى لها عنه من أجل السعادة والهناء.
فللتكيف لابد من العادة،وللتعود لابد من التكرار وهو ما تؤكده وتلح عليه طريقة الإيحاء الذاتي كما سبق،ولقد كان أرسطو يقول:”العادة بنت التكرار”.
فالتكرار إذن عامل أساسي لتكوين العادة،والتي هي الضابط الأول لسلوك الإنسان وانتظامه على وتيرة محكمة،تمنعه من التقلب والتغيرات المفاجئة،وهذا ما يقرره علماء النفس أثناء بحوثهم.
فإذا كان التكرار مجردا قد يؤدي إلى هذه النتائج الإيجابية وخاصة في الجانب النفسي وتقوية الإرادة،فكيف بتكرار ذكر الله سبحانه وتعالى،ما بال من يصبح ويمسي ولسانه رطبا من ذكر الله؟.
ولا أجيب بنفسي عن هذا التساؤل، بل أدع أحد رجال التصوف ينوب عني في ذلك كما يقول الشيخ أبو القاسم القشيري في الموضوع:”الذكر عنوان الولاية ومنار الوصلة وتحقيق الإرادة وعلامة صحة البداية ودلالة صفاء النهاية،فليس وراء الذكر شيء، وجميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن الذكر”.
فالتكرار قد تنتج عنه كما قلت سابقا العادة،ومن العادة تتولد الأوتوماتية(الآلية) .
ثالثا:الذكر وتسامي مقصد الآلية عند الصوفية
وقد يصل الصوفية إلى أوتوماتية سامية بحيث قد يبلغ الذاكر إلى حالة يستغرق بها عن الذكر،وليس ذلك حلولا أو اتحادا،وإنما ذلك حكمة وقدرة من الله سبحانه وتعالى، وبيان ذلك أن يكون القلب في حين يذكر الإنسان ربه فارغا من كل شيء،ولا يعود يسري في وسطه إلا ذكر الله.
وبهذا يكون القلب بيت الحق مملوءا منه،متجردا إليه،فيخرج حينذاك الذكر من غير قصد أو تكلف أو ذاتية في الإرادة والتدبير.
يقول الغزالي عن هذه العادة أو الأوتوماتية المتكيفة عند الصوفية كتجربة شخصية بعدما لقنه المتبوع المقدم ذكر الاسم الأعظم”الله”:”فلا تزال تقول “الله الله”مع حضور القلب وإدراكه إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك لكثرة اعتياده،ثم تصير مواظبا عليه إلى أن يمحي أثر اللسان فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على هذا الذكر من غير حركة اللسان،ثم تواظب إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ ولا يخطر ببالك حروف اللفظ وهيئات الكلمة،بل يبقى المعنى المجرد حاضرا في قلبك على اللزوم والدوام،ولك اختيار إلى هذا الحد فقط.ولا اختيار بعده لك في الاستدامة لدفع الوساوس الصارفة،ثم ينقطع اختيارك فلا يبقى لك إلا الانتظار لما يظهر من فتوح ظهر مثله للأولياء”.
فهذه النتيجة وإن كانت صعبة المنال وتبدو خاصة ومتعبة بحسب المنهاج الذي سلكه الغزالي إلا أنها مع ذلك قد تؤسس بطريقة علمية لمبدأ العادة ونتائجها الإيجابية في مجال الذكر وترسيخ معانيه في الوجدان.
ومن جملة ما ينتج عن العادة أيضا أنها قد تؤدي أيضا إلى التكيفالذي هو في حد ذاته عملية ديناميكية،ذات صبغة استمرارية ومتواصلة يهدف بها الشخص إلى بلورة سلوكه و وتشكيله أو صبغه بالصبغة الملائمة،وبناء على هذا فقد يمكن أن نعرف هذه الظاهرة -أي التكيف – بأنها القدرة على تكوين العلاقات المُرْضية بين المرء وبيئته.
فإذا كان الإنسان بعمليته الديناميكية هذه قد يهدف إلى إحداث علاقة أكثر توافقا بينه وبين بيئته،فما هو وجه المقارنة بين هدفه كشخص عادي قصير النظر وماديه وبين الصوفي البعيد الغاية وشريفها “وأن إلى ربك المنتهى”؟
إن الصوفي قد يهدف إلى التكيف من خلال تأسيس عادته الخاصة والراقية مع الوجود بأسره دنيا وآخرة،عالم الشهادة،وعالم الغيب،عالم الحيوان وعالم الجماد، عالم المادة وعالم الروح .
يريد الصوفي أن يستشعر ويتكيف مع كل هذه العوالم على سلم الترقي والسفر المتواصل حتى يصير هو وهي وحدة استشعارية وتوافقية منسجمة ومتناسبة لا تنفصل عن بعضها البعض إلا في الشكل والمظهر والموضع والمقامات.