الصحراء المغربية بين تقوية الاستثمار وترسيخ الاستقرار
منذ استرجاع الصحراء، والمغرب يبذل قصارى جهده في تنميتها وإدماجها ويؤثرها في ذلك حتى على النسيج الوطني المماثل من الناحية العمرانية والبنية التحتية، فخاض مجموعة من الملاحم التنموية التي ربحها بعزم وحزم في كل المدن الصحراوية، غيرت ملامح الحياة فيها من مجرد حياة الفقر والبداوة و الترحال في الفيافي و الخلاء، إلى حياة المدنية والاستقرار و الرفاه، وسط بحبوحة من الماء والهاتف والكهرباء، والمؤسسات التعليمية وأحياء من الإقامات السكنية، والموانىء البحرية والمعامل الصناعية، والضيعات الفلاحية والمراعي والملاعب الرياضية..الطاقات المتجددة والمطارات القارية، الطرق المعبدة من أكادير إلى الداخلة، وغير ذلك من مظاهر التقدم والازدهار مما عرفته المنطقة لأول مرة في تاريخها، ولا يخفى ذلك على أحد يزور المنطقة ويكون في ضيافتها وكرمها؟؟.
وتبقى الصحراء وأهلها الفضلاء يستحقون كل خير، يستحقون هذا وأكثر، وقد تضامن معهم كل المغاربة بما كانوا يتحملونه من تخصيص ميزانيات سخية لشؤون الصحراء، وأيام عمل تضامنية لتمويل ذلك لازالت مستمرة إلى يومنا هذا بطابع رسمي، مما أعطى امتيازات تفضيلية لكل ساكنة الجهة و وارديها من حيث التعويضات والعلاوات ووفرة المواد الاستهلاكية ورفق أثمنتها ؟؟. وكلنا يتذكر في هذا الصدد تلك الحظوة التي حظي بها شباب الصحراء في إيجاد بعض مناصب الشغل عبر كافة التراب الوطني، رغم ما حدث بعد ذلك – مع الأسف – من تحول “الأشبال” إلى “أشباح” لتتوقف خدماتهم في مؤسسات الاستقبال وتستمر التعويضات التي نجهل مصيرها، كما أن كلنا يعلم بالمبلغ الضخم والذي يقدر ب 77 مليار درهم قيمة الغلاف المالي الخاص بالنموذج التنموي الجديد لأقاليم الصحراء، لم تحظى بمثله غيرها من الجهات رغم حاجتها الماسة و حراكاتها الشعبية من أجل ذلك (جهة طنجة الحسيمة و درعة تافيلالت نموذجا)؟؟.
ومع الأسف أيضا، فكل هذا الجهد المبذول على المستوى التنموي للمنطقة وهو جهد واجب ومحمود، ومن الأنوار التي طردت وتطرد الظلام في المنطقة ولكنها لم تنعكس على مستوى الاستقرار والارتياح العاطفي والوجداني للساكنة، رغم ما يبدو لدى غالبية إخوتنا الصحراويين من صدق الانتماء وعمق المواطنة التي ما فتؤوا يعبرون عنها في كل مناسبة وبغير مناسبة، وعدم الارتياح هذا، وإن كان هامشيا، يمكن استنتاجه من مجموعة من التوترات الاجتماعية والأحداث الصدامية المتتالىة هناك، طيلة كل هذه العقود المؤلمة من صراع القضية، آخرها ما أوردته بعض المواقع هذه الأيام من بعض الموجات الاحتجاجية من انفصالي الداخل المتظاهرين في بعض المدن الصحراوية تضامنا مع انفصالي “المخيمات” على خلفية تطهير الجيش المغربي الباسل لفلول الانفصاليين الذين تعنتوا لأسابيع في عرقلة حركة المرور الدولية عبر معبر “الكركرات”، معبر التواصل التجاري بين أفريقيا والمغرب، يضاف إلى ذلك بعض ما شهده تاريخ القضية من عوامل القلق والتوتر الدائم ومن ذلك:
الحرب المسلحة مع الانفصاليين بداية القضية.
الفرار إلى المخيمات وإن كانت هناك عودة البعض الآخر منها.
الأحداث المؤلمة لمخيم”اكديم إزيك”، وما شهده من التغرير بالمواطن والتخريب والتصفيات الدموية في حق بعض شهداء الواجب الوطني من رجــــال الأمن؟.
وقفات احتجاجية ومظاهرات بين الفينة والأخرى، ترفع فيها أعلام الانفصاليين والشعارات المؤيدة لهم، مع تحدي رجال الأمن عبر التخريب و قذف الحجارة ؟.
نمو الفكر الانفصالي لدى انفصاليي الداخل، والذي توج أخيرا بالمحاولة الفاشلة لتأسيس فرع “البوليزاريو” في العيون والتضامن مع فلول “الكركرات”، ممن يأكلون الغلة ويسبون الملة ؟.
مطالبة “المينورسو” والمنظمات الدولية بضرورة حماية حقوق الإنسان في الصحراء، رغم سبق المغرب في توجهه لطي الملف الحقوقي عبر التجربة المريرة ل”الإنصاف والمصالحة”، والتي لا زال المجلس الوطني الاستشاري لحقوق الإنسان يسهر بكافة حقوقييه على أجرأة توصياتها ومنها الحد من الانتهاكات ؟.
توتر، وتيرة، خطورة، تدبير ومعالجة مرنة في الغالب على غير ما تعالج به غيرها من الحراكات الاجتماعية في المدن والجهات الأخرى للوطن، و رغم ذلك، فكل المؤشرات تدل على أن الصحراء مغربية وستبقى مغربية، وأن الراكبين في سفن الانفصال إنما يركبون سفن الغرق المحتوم، لأن السفن تسير على الماء وليس على الرمال والأحجار، ولأن الصحراء ليست ولن تكون “جوبا” في جنوب السودان ولا “تيمور الشرقية” في اندونيسيا ؟، ولكن تبقى المعضلة في القضية – حسب المتتبعين – بين التنمية والاستثمار و الوحدة والاستقرار، وكيف ينبغي أن تكون العلاقة بينهما متكاملة ؟، وعليه، فتنمية الاستثمار جهود ضرورية وينبغي أن تستمر، لكن بمعالجة بعض جوانبها السلبية كحالة الدعة والاسترخاء الذي تخلقه لدى العديدين وكأن لسان حالهم يقول:(لا داعي لفعل شيء ما دامت الدولة – لا بورك فيها – تأتينا بكل شيء)؟؟، وحالة التهريب والاسترزاق المعهودة عند البعض الآخر، إلى درجة يتمنى فيها هؤلاء، عدم تسوية القضية حتى يدوم لهم استرزاقهم، طبعا ولا أعمم ؟؟، وأخيرا، حالة العدالة الاجتماعية والإنصاف في وصول ثمار التنمية إلى الجميع، وفي ضرورة جمعها بين الجانب المادي العمراني والجانب البشري الإنساني؟؟.
وهذا الجانب البشري الإنساني هو المدخل الحقيقي والفعال لتنمية الاستقرار، ولا زالت كل التطورات والأحداث في المنطقة تؤكد على أهميته وأولويته حتى على قوة الاستثمار أو على الأقل موازاته لها، ويمكن أن يتم ذلك عبر مجموعة من التدابير الشمولية والسياسات التكاملية التي تتمحور حول:
تنمية عقيدة التوحيد وفكر الوحدة بدل عقيدة الانفصال وفكر التشييع الشيوعي الذي اندحر في كل العالم، ولا زال الانفصاليون يعيشون على أوهامه وأحلامه المزعومة؟،
تنمية سلوك المواطنة الحقة والمساواة في الحقوق والواجبات وحظوظ المشاركة لدى شباب مختلف القبائل، مع ضرورة تحديد هؤلاء لموقفهم مع من هم وضد من قولا وفعــلا ؟،
تنمية ضمان الحرية والكرامة وغيرها من حقوق الإنسان في إطار الدستور والقوانين، دون انحراف من المواطن الذي قد يبلغ به انحرافه حد المس بالوحدة الوطنية والدعوة إلى الانفصال، ودون تعسف من السلطة التي قد تمنع حرية التعبير والتجمع أو التنقل أو حتى حق تأسيس بعض الجمعيات ؟.
وحسنا فعل المغرب بنشره للحياة التمثيلية الجماعية في المنطقة وإنعاش الحياة الجمعوية المدنية والنيابية البرلمانية وهي تضع ممارسة معظم السلطة وتدبير شؤون الساكنة في أيادي أبنائها؟،
وحسنا فعل المغرب بندائه قولا وفعلا:”إن الوطن غفور رحيم”، وبقبوله برحلات صلة الرحم بين الأسر والمخيمات، بل وأكثر من ذلك أن يسمح لكل “انفصالي تندوفي” بالعودة إلى هذا الوطن الغفور الرحيم، وأن يسترجع أملاكه أو يقيم مشاريعه بمجرد توفره على جواز سفر إسباني أو جزائري أو موريتاني؟.
وحسنا فعل المغرب برده الحاسم على عصابة قطاع الطرق وإخلائهم من معبر “الكركرات” التي عطلوا فيها لأسابيع حركة المرور التجاري بين أفريقيا والمغرب، حتى يفهم المتغابون معنى السيادة المغربية على أراضيه، ومعنى المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، ومعنى من ينطح الصخر لا يدمي إلا رأسه، ومعنى..ومعنى..ومعنى أن قطاع الطرق – رغم كل عنترياتهم – لا يظلون إلا قطاع الطرق، سرعان ما يفرون أمام أصحاب السيادة البواسل ليستنجدوا ببعد ذلك بكل العالم لعله يساعدهم لاسترجاع ما تركوه في المعبر هرولة من نعالهم؟؟.
وهكذا حياة القضية التي أصبحت قضية الحياة، تصدمنا دوما بتحديات صعبة، و مشاكل معقدة، ولكن أكيد أن جرحا دون جرح وعلاج دون علاج، واختيار استراتيجي دون اختيار، لذا فواجب الوقت الآن كما يقول الكاتب والمحلل المغربي”بلال التليدي” وغيره، هو التأكيد على الإجماع الوطني، وتقوية الجبهة الداخلية، وتكامل الخطة الرسمية بالدبلوماسية السياسية و المبادرة المدنية، للحفاظ على المكتسبات، وإفشال كل خطط العدو وداعميه التي تروم المس بالوحدة الوطنية للمملكة أو تغيير الواقع الميداني في منطقة “الكركرات” بتنصيب شرطة انفصالية في معبرها، ما غير ذلك من الإشكالات الاجتماعية والصراعات السياسية والمنافسات المؤسساتية، يؤجل إلى حين رد العدو على أعقابه خاسرا، وهو الذي كان سيربك المواطن قبل الدولة والمعارضة قبل الأغلبية، دامت لنا دارنا البهية دار وحدتنا الأبدية، ودام الجميع من أبنائها وروادها على تشابههم واختلافهم من حماتها وبناتها ؟؟.
الحبيب عكي