من فن الوصف
محمد شحلال
الشعر،،ديوان العرب،،! مقولة يصادفها كل عاشق لقراءة عوالم الشعر العربي،ولا سيما القديم منه.
تناول الشعر العربي القديم أغراضا عديدة،برع في كل منها شعراء ينتشي التاريخ بذكرهم،وحسبي في هذه الخاطرة،أن أتوقف عند فن الوصف من خلال بعض النماذج التي لا تلغي غيرها.
يستوقفك في العصر العباسي جماعة من كبار الشعراء الذين تميز بينهم ابن الرومي بالتصوير،،الكاريكاتوري،،حيث تحيلك أبياته على الصورة التي يرومها فورا، وهو ما جعل منه مصورا متميزا.
كان ابن الرومي يجهد نفسه في البحث عن الصور الشعرية المستعصية على غيره،وهو ما لفت اهتمام المفكر الكندي ،فقال عنه : (إن هذا الفتى لن يعمر طويلا،لأن عقله يأكل من جسمه كما يأكل السيف الصقيل من غمده) !
إن مقولة الكندي تجد تجلياتها في مختلف الأبواب التي عرض لها ابن الرومي،لكن دقة الوصف تعتبر علامة فارقة في شعره،وهو ما نلمسه في المثالين المواليين.
قال ابن الرومي يصف شخصا بخيلا يدعى عيسى:
يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد
غير أن براعة تشخيص الصورة ،تتجلى أكثر في وصفه لرجل أحدب،حيث قال فيه:
قصرت أخادعه وغاب قذاله فكأنه هو متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة وأحس ثانية لها فتجمعا
إن هذا اللون من الوصف ،يصنف ضمن الوصف الهجائي الذي ازدهر في العصرين الأموي والعباسي، وكان له روداه الذين لا يكتمل الحديث إلا بذكراثنين من أشهرهم، وهما : بشار بن برد ونظيره في المجون :حماد عجرد.
لم يحل العمى دون إبداع بشار في القول،حتى إن بيته الموالي،كان كافيا ليحظى بشهرة لم يصلها المبصرون.
يقول بشار متغزلا:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا
هل من دواء لمشغوف بجارية يلقى بلقياها روحا وريحانا
عندما سطع نجم بشار،لم يتردد في تسليط لسانه على الآخرين،فكان أن وجه سهامه لنظيره في المجون،،حماد عجرد،،فهجاه قائلا:
نعم الفتى لو كان يعبد ربه ويقيم وقت صلاته حماد
وأبيض من شرب المدامة وجهه وبياضه يوم الحساب سواد
لم يتأخر حماد عن الرد الذي أبكى بشارا ،حيث قال:
ألا هل من مبلغ عن ي الذي والده برد
إذا ما نسب الناس فلا قبل ولا بعد
ويا أقبح من قرد إذا ما عمي القرد
دنىء لم يرح يوما إلى المجد ولم يغد
يروى أن بشارا قد بكى بكاء مرا، فلما سئل عن ذلك،قال:
يراني فيصفني وأنا لا أراه فأصفه !
هذه شذرات من جميل القول الذي برع فيه شعراء العرب خاصة في العصر العباسي،لكن فن الوصف ليس حكرا على الشعراء المفلقين،ذلك أن من العامة من امتلك هذه القدرة، ولا سيما في البوادي.
لقد اشتهر في بلدتنا أشخاص سيظلون على كل لسان هناك بفضل أقوال خالدة،اخترت منها ما صدر عن أحد المعارف وهو يستقبل قريبا له.
كان ذلك صباح يوم السوق الأسبوعي،حيث كان الرجل جالسا بمدخل دكان أخيه. كانا يتبادلان أخبار الأسبوع حينما أقبل ابن أختهما لتحيتهما،وكان شابا ذميم الوجه كما شاء خالقه.
قبل الشاب رأسي خاله،وراح يستفسرهما عن أحوالهما،بينما كان أحد الرجلين يتفحص وجهه،وما أن انصرف حتى خاطب جليسه:
-أوما، مميس نولماثنغ،إكسي سيذي ربي ذيلقباحث يسروساس خووذم ألميثيمتو !
والمعنى التقريبي:
أرايت يا أخي كيف أن الله تعالى قد راكم الذمامة على وجه ابن اختنا حتى واراه فيها !
كان صاحب القولة رجلا رزينا كما عرفته، وكان ابن اخته ذا خلقة غريبة كما أرادها صانع الخلق،ومع ذلك فإن هذا الرجل ربما قال ماقال إشفاقا وليس تشفيا.
جميل أن يستحضر المرء قصة نبي الله نوح حين ضحك من صورة كلب نحيف،فأنطقه الله ليفحمه قائلا:
هل تضحك على النقش أم على النقاش؟
-إن ضحكت على النقش،فهو لم يختر نقشه،وإن كنت تضحك على النقاش،فهو الذي نقشني ونقشك !
يقال بأن النبي نوحا إنما سمي كذلك لكثرة ما ناح منذ سمع رد الكلب ! (وهو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء).
صدق الله العظيم.