الحصى العالق
“الحصى العالق”
الدكتور يحي خالفي
يوحي العنوان أننا بصدد سرد مقاطع قصة أو مسرحية أو رواية، ولا يعلم الكثير من القراء السياقات التاريخية والسياسية والاستراتيجية لهذه العبارة الجهنمية “الحصى العالق”، لكن المعاصرين لأحداث النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين يَعُون جيدا المقصود منها، والتي سنفسر أسرارها وتداعياتها على شعوب المغرب الكبير في الصفحات الموالية.
كما استوحيت فكرة كتابة هذا المقال من قراءة بعض المجلات والكتب المتمركزة مواضيعها في الغالب، حول تاريخ المغرب وتاريخ الجزائر الفرنسية، ثم الجزائر المستقلة، والديموقراطية، وحقوق الإنسان، وجائحة كورونا 19، والنظام العالمي الجديد، وتفاعلات القوى العظمى الإيجابية والسلبية في منطقة مينا “MENA أي منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط” ومن بينها المغرب، والغارقة في أوحال سميكة، تتعمد الدول العظمى تغذيتها، متى شاءت، في المناسبات وفي غيرها، وبالأخص البلدان الإمبريالية السابقة للمنطقة مثل فرنسا والمملكة المتحدة وإسبانيا، (إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية)، والتي لا زالت تدعي أنها دول ديموقراطية، متناسية تاريخها الدموي وقوانينها الشبه عنصرية، المؤمنة برسالة الرجل الأبيض، مُخَلِّص العالم من الفقر والجهل والمرض والفوضى والتفرقة. إنها دول تدعي الديموقراطية لتتحكم في رقاب الشعوب اللاديموقراطية ومنها العربية، والإسلاموية (التيوقراطية)، ولِنقل الإسلامية بشكل عام.
وقد غاضتني المفارقات الغريبة الكامنة وراء تحالف الغرب والشرق، رغم صراعاتهما، للإبقاء على الوضع القائم بمنطقتنا، بل إضافة شعلات إضافية إلى نيرانها الملتهبة “لغاية في نفس يعقوب”، فلا روسيا الاتحادية ولا الصين ولا الهند ساعية في سياساتها لحماية مصالح العالم الجنوبي وحل بعض مشاكله، بل هي متحالفة ضده، وصامتة أمام استمرار تعقد متاعبه، مثل حالة الصراع المستدام بين المملكة المغربية والجزائر. وهو موضوع سبق أن نشرت حوله مقالا منذ سنوات خلت، بعنوان “موريتانيا، العتبة المستعصية على الدبلوماسية المغربية”([1])، (وسنعيد نشره في آخر المقال) والذي استشعرت من خلاله أبعاد وغايات النظام العسكري للبلد الجار (الجزائر)، الكامنة في ربط متاعبه الداخلية بالأوضاع المغاربية والمتوسطية، لذا لا يرغب أبدا في حل مشاكل الجهة حتى لو كان رابحا. إضافة إلى استراتيجيات المغرب المستقبلية ـ في علم دبلوماسية الممكن ـ وخاصة التركيز على الجانب الاستثماري والتنموي في الصحراء المغربية وموريتانيا، الشيء الذي فطن له المسؤولون مؤخرا لعوامل وضغوط خارجية واخرى برغماتية وجهوية، تشمل كل منطقة شمال غرب أفريقيا.
ونتساءل فعلا إن كان مقالي سنة 2015 قد نبه المسؤولين المغاربيين الذين استنزفوا خزائن بلدانهم، إلى ما يمكن أن يساهم في الحل سلميا ومجتمعيا، لأن قضية الصحراء المغربية طال حضورها في المحافل العالمية والجهوية، وساهمت في توتر مجاني للعلاقات الدولية وخاصة بالقارة الأفريقية.
لمحة تاريخية عن الوضع بالمغرب
كان المغرب منذ تأسيسه “عهد الأدارسة” كيانا مستقلا عن مركز الخلافة في المشرق العربي، وموضوع قلق وتآمر تارة، وفخر وتنويه بإنجازاته البطولية سياسيا واقتصاديا مرات أخرى. وأود أن نبعد الجانب الاجتماعي عن هذا الكيان العربي ـ الأمازيغي حتى لا نصدر إسقاطات قد تكون سببا من أسباب انتباه عيون، غايتها الرئيسة هو تغييب كل محاولات الإنتاج الفكري الحر، أو المشاركة من قريب أو بعيد في تحليل واستشراف الأبعاد السوسيوـ اقتصادية، والسوسيوـ مجالية في هذا الركن من أركان العالم.
لن ينس هذا الشعب المغربي الأبي كيف تمكن أجداده عهد المرابطين والموحدين خاصة، من التحكم سياسيا في بلدان الغرب الإسلامي من طرابلس الغرب (غرب ليبيا حاليا) إلى إشبيلية وغرناطة وقرطبة وجنوب البرتغال في الأندلس شمالا، ونهر السنغال وتومبوكتو جنوبا. ولن ينس هزمه لأكبر قوة في العالم “البرتغال آنذاك” خلال معركة وادي المخازن سنة 1578م، المعروفة بمعركة الملوك الثلاثة.
لكن المغاربة لم يفرحوا كثيرا بإنجازاتهم العظيمة التي كانت مصدر هيبة جميع الأمم، ومنها الإمبراطورية العثمانية التي بلغت حدود المغرب الأقصى وتوقفت عن التوسع غربا.
وقد استغل الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان يتحرك بجنوده، مدعوما بالقبائل المغربية والسلطان عبد الرحمان بن هشام، “لأن أهون الأمور وقتئذ تحريض القبائل ضد النصارى. وكان إقحام السلطان في ذلك أمرا مرغوبا، لذلك قدم إليه الأمير، مع بداية 1844، جملة اقتراحات، لكن السلطان قابلها ببرودة؛ وكان مولاي عبد الرحمن رغم ذلك مؤيدا لبطل الجهاد هذا…”([2]) يتحرك بين الريف وقبائل بني زناسن ووجدة، استغل المناسبة لتوريط السلطة المغربية في حرب مباشرة مع فرنسا، والتي كانت بداية تفكيك الإمبراطورية المغربية.
بدأت المؤامرات تحاك بشكل جماعي من لدن الأوربيين الغربيين لإركاع هذه القوة العظمى المهابة، وكان الحل متأخرا جدا، وتجلى في خطة تقسيم الإمبراطورية المغربية لكي لا تقوم لها قائمة، انطلاقا من اتهام فرنسا المغرب بمساندة المقاومة الجزائرية، وهزيمته في معركة إسلي سنة 1844، وتوقيع معاهدة للامغنية سنة 1845، التي أماطت لثام الهيبة عن قوة المغرب، ومن ثم فقدان تومبوكتو شمال مالي 1894 والصحراء الشرقية “تحت سلطة الجزائر حاليا بمراكزها القديمة توات وإكلي وكورارة وتيديكلت والساورة سنة 1900” والجنوبية “موريتانيا حاليا” من خلال انتزاع شنقيط وأطار سنة 1907 (ألم تنشأ الدولة المرابطية بزعامة عبد الله بن ياسين بجزيرة وسط نهر السنغال؟).
ويجب الإشارة هنا إلى استغلال فرنسا هذه الفرصة لتوسيع نفوذ دولتها “الجزائر” غربا وشرقا وجنوبا، لاعتقادها أنها ستظل فرنسية، وسكانها فرنسيون إلى الأبد، مما يفسر التوسعات الفرنسية على حساب تونس وليبيا والمغرب ومالي والنيجر، ويفسر الشكل المجالي الضيق شمالا (الرأس) والمنفرج جنوبا (البطن المنتفخ) لخريطتها.
وبعد هزيمة حرب تطوان مع الإسبان 1859ـ1860، ومنحهم حق الصيد بسواحل الساقية الحمراء ووادي الذهب “بداية احتلال الصحراء الغربية” التابعة للمغرب حاليا، تنفيذا لاتفاقية تطوان 1860، ثم انفراد الإسبان بالشمال سنة 1909، وضمه إلى سبتة (1415) ومليلية (1497)، ثم تحويل طنجة إلى منطقة دولية بإيعاز من الأنجليز وموافقة الإسبان والفرنسيين، واقتطاع إقليمي سيدي إفني وطرفاية وضمهما لممتلكات الإمبريالية الإسبانبة.
لم تكن تحركات الفرنسيين والإسبان والأنجليز والألمان في المغرب حرة، بل خضعت لضوابط قانونية إمبريالية، وافقت عليها الدول الأوربية خلال مؤتمرات واتفاقيات علنية وسرية، ونقتصر على ذكر مؤتمر مدريد سنة 1880 حول المسألة المغربية، ومؤتمر برلين الثاني 1884ـ1885 حول تقسيم القارة الأفريقية، والاتفاق الودي الفرنسي ـ الأنجليزي سنة 1904 حول المغرب ومصر، وكذا بسبب أزمتي المغرب الدولية سنتي 1905 إثر زيارة الإمبراطور الألماني غيوم الثاني لطنجة، ودفاعه في خطابه الشهير عن استقلال المغرب وسيادة سلطانه، مما تسبب في انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، ثم سنة 1911 بسبب أزمة البانتير الألمانية في ميناء أغادير، إثر إلحاح الألمان على أخذ نصيبهم من المستعمرات الأفريقية التي لم يتبق منها سوى المغرب، والحبشة المسيحية (1935) وليبيريا ــ التي تكونت من قبل السود الأمريكيين العائدين إلى أصولهم الأفريقية بموافقة ودعم السلطات الأمريكية ــ.
إن جيوـ استراتيجية التقسيم الإمبريالية في إطار تنفيذ مبدإ “فرق تسد” قد نجحت في إضعاف الإمبراطورية المغربية وتفكيكها، والدليل على ذلك وضعها السياسي والاقتصادي الراهن، واستشراف مستقبلها من خلال المؤامرات والدسائس المستمرة للمحافظة على الأمر الواقع في مجالها. فالقوى العظمى و”الصغرى” تستعمل القانون الدولي تارة، والتهديد بالسلاح أو تزويد الدول المعادية بالسلاح تارة أخرى، وفرض الأمر الواقع مرة ثالثة، فكل الوسائل صالحة، في كل زمان ومكان، للمحافظة على تفوقها وغناها واستغلالها واستنزافها للدول الجنوبية ومن بينها مجموعة مينا.
وقد ارتكب المغرب خطأً استراتيجيا باسترجاع أراضيه عبر مراحل؛ منطقة الحماية الفرنسية في 02 مارس 1956، والمنطقة الخليفية التابعة لإسبانيا في أبريل 1956، ومنطقة طنجة الدولية سنة 1957، ومنطقة طرفاية الإسبانية سنة 1958، ومنطقة سيدي إفني الإسبانية سنة 1969، ومنطقة الساقية الحمراء الإسبانية سنة 1975، ومنطقة وادي الذهب الإسبانية سنة 1979، ولا زالت مدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المتوسطية محتلة من قبل إسبانيا، والصحراء الشرقية انطلاقا من ثنية الساسي إلى شمال مالي محتلة من لدن الجزائر.
لا يجوز لأي مغربي أن يلوم ملوك المغرب السابقين ولا المعاصرين، لأن ذكاءهم فاق كل التصورات، ولولا هذه الفطنة والهيبة لما تلاعب وصمد المغرب أمام أربع قوى إمبريالية (فرنسا وإسبانيا وأنجلترا وألمانيا) حتى سنة 1912.
إن المشكل ليس في السلطات الحاكمة بل في عدم تحالف المسلمين وتعاون المسيحيين، والدليل على ذلك صمود الحبشة المسيحية “أثيوبيا حاليا” حتى سنة 1935 رغم ضعف قوتها ونفوذها شرق أفريقيا.
لذا أطرح الأسئلة العريضة الآتية:
لماذا تدعي البلدان العظمى الغربية والشرقية أنها ديموقراطية وتطبق القانون الدولي وحقوق الإنسان ومبادئ الحرية وخاصة حرية التعبير؟
“أليست دول ذات حكومات شعبوية ــ يمينية أو يسارية ــ كما كتب حسن أوريد الناطق باسم القصر الملكي (سابقا) مؤخرا([3])؟
ألم تنته القطبية الأحادية منذ زمان؟
إسقاط وكساد الديموقراطيات
انحنى المغرب لرياح الديموقراطيات (بالجمع) على طريقته، بحيث تجرى الانتخابات وينصب أعضاء المجالس القروية والحضرية والإقليمية والجهوية والبرلمان بمجلسيه، ويعين رئيس الحكومة من الحزب الحاصل على أكبر عدد من النواب، لكن دون أن يلمس المواطن العادي تحسن مستوى التنمية لديه، أو لدى جيرانه، بل بالعكس يحس بالغبن واللامساواة وغياب العدالة والشفافية لأن تحالف السلطة والمال قد جرد الديموقراطية من بصيص أملها عند المواطن العادي، ومن الأفضل تجنب الخوض في هذه المسألة، أو كما قال أوريد “لا يمكنني الحديث عن الديموقراطية في بلد غير ديموقراطي”([4]).
إن سهام الانتقاد لا نقصد بها أحدا، بل الواقع الحالي سيعيد إنتاج نفسه مستقبلا، لأن البديل الديموقراطي والصحيح غير متوفر الآن في المغرب أو غيره من بلدان مينا، وربما تنتج لنا بعض بلدان أفريقيا ما وراء الصحراء نماذج نقتدي بها مستقبلا. والسؤال المطروح حول الموضوع هو: إلى أي حد تطبق مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان حتى بالدول الأفضل احتراما لهذا النموذج العالمي مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا؟ ألم نعد نتحدث عن كساد الديموقراطية وفشل النموذج النيوـ ليبرالي؟
لا زالت الليبرالية الجديدة (نيوليبرالية) تراوح مكانها، لكون محاولاتها الانتقال من عصر الليبرالية بمعنى الحرية المطلقة (بشعار: دعه يعمل، دعه يمر، مع مفكري عصر الأنوار مثل آدام سميث ودافيد ريكاردو) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى حدود سنة 1917 مع نجاح الثورة البلشفية، وخاصة مع الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929، إلى عصر الليبرالية الجديدة بعد أزمة الخميس الأسود.
لم تتمكن الديموقراطيات من تحسين صورتها أبدا خلال القرن العشرين، وبالعكس من ذلك تمكنت الفاشية والفردانية في السلطة من فرض وجودها دوليا، فما يثير الانتباه هو استخدام الأنظمة السياسية في العالم نوعا من الخدع القانونية للاستمرار في السلطة، فالنموذج الروسي مع عصر النظام البوتيني أو إعادة صياغة الدساتير للاستمرار في الحكم ببلدان العالمين الثالث والرابع، وهيمنة زعماء الحزب الشيوعي على تدبير الشأن العام بالصين (الديموقراطيات الاشتراكية)، وتناوب الجنرالات على حكم العديد من بلدان العالم(الديموقراطيات العسكرية على شاكلة النظام الجزائري)، لدليل قاطع على فشل الأنظمة الديموقراطية وكساد نماذها حتى ضمن أكبر الديموقراطيات في العالم مثل الهند والولايات المتحدة الأمريكية (ديكتاتوريات شعبوية مع الأحزاب الكبرى المتحكمة في السلطة والمال).
صمود القرن العشرين
يجوز أن يقول قائل إن القرن العشرين قد انتهى، وبدأ القرن الحادي والعشرين سنة 2000، لكن الأمر عند السياسيين وخاصة عند المؤرخين ليس بهذه البساطة، والقرن الجديد لم ينطلق بعد، لأن الصدمة الكبرى التي يمكن أن تنهي القرن العشرين لم تحدث بعد، فلا أحداث، سقوط حائط برلين، ولا كارثة 11 شتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية، ولا أزمة وباء كورونا الصحية والاقتصادية العالمية، أسقطت القرن القديم.
إن اعتقادي المتواضع يميل إلى دور التكنولوجيا الرقمية وآفاقها المستقبلية، التي بإمكانها تغيير النظام العالمي وإنهاء القرن العشرين انطلاقا من وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا الأمريكية، والادعاءات المتشائمة حولها كثيرة، ومنها دورها في التحكم في حركات وسكنات الإنسان، وأيضا فيما يفكر فيه ولو في أحلامه أو آماله، لكن الأهم هو الدور الريادي في تحقيق التنمية، وإعادة توزيع الثروة، وإدماج العامل المعلوماتي في تدبير الشأن العام والمحلي، فتسهل المراقبة والمناقشة الإلكترونية بين الجميع، وآنذاك سيصل الطعام للفقير والدواء للمريض والحق للمظلوم، والرقي للمجتهد، إنها ليست أحلاما بل واقعا سيحدث عندما تسقط الفاشية المهيمنة على النظام العالمي الحالي، أي أعضاء مجلس الأمن المتمتعين بحق الفيتو، ومجموعة العشرين، والدول المالكة للسلاح النووي، والحكام غير الشرعيين، وما أكثرهم في العالم، خدام الإمبريالية الجديدة.
لكن الجانب الاقتصادي يمنحنا تصورا لما آل إليه البلد بعد استقلاله سنة 1956، فالسلطة كانت على علم من خياراتها اللاتنموية، لأن تنمية الاقتصاد مقرونة بتنمية الإنسان في جميع الدول، وتنمية الإنسان تعني تعليمه، ومن ثم إخراجه من الأمية والجهل والفقر. ولربما تعمدت السلطات في زمان معين ترك “دار لقمان على حالها”، وخاصة مع تصاعد احتجاجات المتعلمين وموظفي التعليم والصحة، واختلافهم مع النهج الانتخابي المطبوخ على نيران هادئة بوزارة الداخلية. ليس لدي الحجج لإثبات الاختلالات، لكن الواقع يثبت أنه لا حاجة لنا لأي دليل، فما يحدث اليوم هو استمرار متنور وحداثي لما حدث بالأمس، ليس في المغرب فحسب، وإنما بجميع دول مينا التي تئن شعوبها في صمت.
بين المشروع الوحدوي النظري والمشروع التجزيئي الواقعي
ناضلت شعوب المغرب الكبير من أجل الاستقلال والوحدة سنوات طوال، وكان لقاء طنجة المغاربي الشهير نموذجا لما تسعى إليه المنطقة، ورغم كل انتقادات الجزائرين قبل وبعد استقلالهم، فإن بلوغ هذا الهدف لم يكن ممكنا لولا مساعدة المغرب وتونس، فمعظم الأسلحة والزعماء كانوا مستقرين أومختفين بهذين القطرين الجارين. إن كشف الستار عن مجهود الجيران لانتزاع استقلال الجزائر يزعج حكام قصر المرادية (مقر إقامة الحكومة الجزائرية) حاليا، فمبدأ “الخير بالخير والبادئ أكرم” تحول إلى مبدإ “الخير بالشر والبادئ أظلم”. فقد تحول مشروع الوحدة وتأسيس اتحاد المغرب العربي سنة 1989 إلى مشروع التقسيم والهدم والتهديد بالحرب، أو الحرب بالوكالة، لتدبير الأبنية والتنمية عند كل جار طموح ينافس الجزائر التي تحولت إلى زعيمة من ورق في المغرب الكبير سياسيا واقتصاديا وتنمويا.
إن نظرية التقسيم نكاية بالملك الحسن الثاني كما كان يرغب الرئيس الليبي السابق معمر الكذافي، ومؤازرة حكام الجزائر للمشروع إضعافا للتنمية بالمغرب، ومقاربة للزعامة في المغرب الكبير، نجحت إلى حد كبير في إيهام شعوب المنطقة بالبروبكندا الشيوعية المناهضة للرأسمالية ـ الإمبريالية والرجعية كما يرددون لحد الآن ـ .
منعطف الكركرات: ذكاء الأنتيلجنسيا المغربية أم سذاجة النظام الجزائري أم تحكم الاستخبارات الأمريكية؟
أوضحت أزمة معبر الكركرات مدى نجاعة الاستخبارات المغربية الخارجية، التي استغلت سذاجة اندفاع الجزائر عبر وسائطها في الخارج والداخل، والأوضاع الدولية المناسبة ــ كما حدث ايام استرجاع الصحراء المغربية من إسبانيا سنة 1975، إبان فترة احتضار الدكتاتور الإسباني المارشال فرنكوــ المتجلية في غياب السلطة العليا في الجزائر، واستحالة تحمل اتخاذ القرارات الحاسمة من قبل قادة العسكر، وخاصة التدخل العسكري في الصحراء المغربية، خارج حدوده، بعد موافقة الدستور الجديد بأغلبية العار، الممقوتة في القانون الدولي الذي يحترم معنى الديموقراطية، (رغم استشهاد وسجن العديد من أفراد الجيش الجزائري المتدخل خلسة في بعض النزاعات الدولية قبل هذا التاريخ ـ معركة أمغالا الأولى والثانية نموذجاـ ، وكذلك استغلال انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالانتخابات الرئاسية، ودور استخباراتها المركزي في فرض مخططاتها مثل حالة “الفوضى الخلاقة”
و”الفوضى العارمة” و”الفوضى الهادئة”، وتحديات العالم الإسلامي للحكومة الفرنسية الحالية، ومتاعب دول العالم مع وباء كوفيد 19، إلى جانب أخذ الموافقة الضمنية من أعضاء مجلس الأمن الدائمين وإشهاد هيأة الأمم المتحدة عبر عناصر المينورسو المشتغلة في الكركرات، ومباركة موريتانيا المتضررة من إغلاق المعبر الذي دبر في شكل فخ في المكان والزمان المناسبين، وخاصة موافقة إسبانيا المتخوفة أكثر من غيرها من وصول الجماعات المسلحة والألغام البحرية على النموذج اليمني، وتدفق المهاجرين السريين، في حالة بلوغ الجزائر السواحل الأطلسية عبر ذراعها المسلح غير الشرعي.
إن ربح ممر الكركرات مع موريتانيا قانونيا وبمساندة الدول الفاعلة في الملف أصاب المخابرات الجزائرية بالذهول والصدمة، لأن مشروع محاصرة المغرب من الجنوب وبلوغ السواحل الأطلنتيكية باستنساخ أزمة مخيم أكديم إيزيك، وتكرار حصار الكركرات سنة 2016، باء بالفشل الذريع، وبلغ نقطة اللاعودة.
يمكن للمينورسو (قوات حفظ السلام الأممية) أن تغادر المنطقة العازلة الآن، كما قال الدكتور حسن أوريد([5]) وبدعم من فرنسا، سيعود الجيش المغربي للحدود الدولية مع الجزائر، لكن النشاط الدبلوماسي ضروري لإقناع القوى العظمى والدول المجاورة، ويمكن ربح الموافقة الجزائرية وإنهاء مغامرتها التقسيمية والعودة إلى المشروع الوحدوي (لكونها تؤمن باتحاد المغرب العربي 1989) مقابل تنازلات مغربية مثل حقوق المرور عبر الصحراء، والتبادل التجاري الطويل الأمد، والتخلي عن التفاوض مع الدول الأفريقية حول مادة المحروقات، والتخلي عن مشروع إمداد أوربا بالطاقة الخضراء، وتدخل في إطار دبلوماسية الممكن، دون المساس بالسيادة الوطنية.
إن وضع الجزائر اليوم، غير قابل لاتخاذ قرارات تحتاج سنوات من التدبير والتهييء، رغم تحكمها في اليد المارقة المستخدمة لإزعاج الجيران وليس الجار الواحد ــ المغرب وموريتانيا ومالي وحتى بوركينا فاسو والنيجر وتشاد والكاميرون ونيجيريا ـ فالقدرات المالية الهائلة بدأت في النفاذ، والمعارضة الداخلية للنظام العسكري ستستعيد حيويتها بعد تعميم التلقيح ضد جائرة كورونا 19، وأخذ الإذن بالتدخل الخارجي يحتاج تضحيات كثيرة ولوبيات عريقة ودائمة.
لكن السؤال المطروح هو: من المحرك الرئيس لملف الصحراء المغربية؟ الجزائر أم فرنسا أم إسبانيا أم الولايات المتحدة الأمريكية؟ ومن قراءات بسيطة وأولية يبدو أن الجزائر ليس لها ثقل كبير أمام القوات الغربية الأخرى. كما أن انهيار وتضارب الخطاب السياسي الفرنسي، وتراجع قدراته الاقتصادية ليس غريبا عن مثل هذه الأزمات التي تندلع في المغرب، وخاصة أن ماما فرنسا تبتز البلاد في مجلس الأمن بفرض اللغة والمنتوجات الفرنسية على الأسواق المغربية. والأهم هو الإشارة إلى من يشتغل في الظل ويحرض، ومن يدفع الأموال ويغذق بالمؤن، من مؤسسات المجتمع المدني العاملة بإسبانيا، التي تتحكم فيها الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترغب في إنشاء كيان جديد خدمة لأجنداتها، وتعاكس استراتيجيات المغرب أحيانا مثل حالة توقيف استيراد الفوسفاط المغربي رغبة في امتلاك بعض أسهمه، ومساندة النظام الجزائري تارة والمغربي مرات أخرى.
المغرب من جانبه حقق بعض النجاحات الاستراتيجية، بعد تمكنه من توسيع قاعدة البلدان المعارضة لنشأة كيان جديد في المنطقة ([6])، وقد كان رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية السابق محمد ولد عبد العزيز واضحا في هذا الأمر قبيل مغادرة السلطة، إذ صرح في إحدى مقابلاته الصحافية أن الدول العظمى والمؤثرة لا ترغب في إنشاء دولة جديدة تفصل بلادي عن المغرب([7])، كما أضحت إسبانيا حساسة لهذا التغير السياسي والمجالي، رغم رغبتها في استمرار الأزمة لكي لا يلتفت المغرب إلى سبتة ومليلية والجزر الجعفرية. كما يكمن هذا النجاح في قرار المحرك غوغل العالمي إلغاء الحدود بين المغرب وصحرائه على خرائطه.
إن الأهم من كل ما ذكرنا، هو النظرة الثاقبة للمؤسسة الملكية والاستخبارات المغربية المتمثلة في تمتين العلاقات والروابط مع أعضاء مجلس الأمن الدائمين، عسكريا (عقد صفقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا)، واقتصاديا (توقيع معاهدات تجارية وصناعية ضخمة مع المملكة المتحدة مثل مشروع خط الربط الكهربائي البحري المباشر واتفاقية التعاون التجاري بعد الريكسيت في الفاتح من يناير 2021، وإعادة إبرام اتفاق الصيد البحري ومشروع بناء محطة لتكرير النفط مع روسيا الاتحادية، ومشروع مد أنبوب الغاز بين نيجيريا وأوربا عبر موريتانيا والمغرب، مما يفسر أهمية معبر الكركرات)، وتكنولوجيا (تكليف الصين الشعبية بتشييد مدينة محمد السادس التكنولوجية طنجةـ تيك، وتشييد ميناء طنجة ميد 2)، والإبقاء على أطماع وتنافس فرنسا والصين الشعبية في الاستحواذ على مشاريع البنيات الطرقية (مشروع الطريق السيار: طنجةـ دكار) ومشروع القطار الفائق السرعة (LGV) بين مراكش وأغادير، وجميعها بأرقام فلكية (مئات الملايير من الدولارات الأمريكية والامتيازات الطويلة الأمد)، تضمن تحريك ملف الصحراء لمصلحة المغرب وإنهاء المغامرة والغرور عند النظام العسكري الجزائري.
لقد انتظر المغرب الفرصة المناسبة، وشجع الجزائر على الاستمرار في نجاحات إغلاق حدود الكركرات، وتحمل تموين السائقين لمدة ثلاثة أسابيع، حتى أضحت جماعة صغيرة من العصابة تتحكم في مصير تجارة دول أفريقية عديدة من أهمها المغرب وموريتانيا والسنغال ومالي وبوركينا فاصو وغينيا الاستوائية والكوت ديفوار، لتنفيذ الضربة القاضية، وخاصة أن الطيران الأمريكي مستعد للتدخل في المنطقة، في إطار حملات مكافحة الإرهاب، وموافقة موريتانيا التي تحسنت قدراتها العسكرية بعدما كانت عاجزة على مواجهة تغلغل العصابة في أراضيها بالسلاح الجزائري الثقيل، ورضى إسبانيا وفرنسا، وسكوت روسيا الاتحادية والصين الشعبية.
ويجوز استعمال الورقة الاستخباراتية الجزائرية التي اعتقدت أن الفرصة مواتية لتحريك الملف الراكد في الصحراء، (دون السماح بحله)، وجر المغرب إلى خرق بنود اتفاق وقف إطلاق النار مع المينورسو (جهاز المراقبة والمسؤول عن تنظيم الاستفتاء التابع لهيأة الأمم المتحدة) سنة 1991 (مع العصابة أولا ثم المغرب شهورا بعد ذلك)، مما يفسح المجال إلى التخلص من قرار وقف إطلاق النار، ونقل انتباه الجزائريين إلى التراب المغربي، وخاصة تجنيد السكان والبلاد لحرب وشيكة (دون إمكانية اندلاعها، مع المحافظة على حالة اللاحرب واللاسلم) ، ونسيان المشاكل الداخلية وخاصة مشكل الفراغ السياسي، وغياب القيادة العسكرية الحكيمة.
ويعتقد أن الاستخبارات الجزائرية وجدت نفسها في ورطة، رغم مسؤوليتها غير المباشرة وغير القابلة للشك، ودعت إلى التريث وضبط النفس، ولم تمنح الضوء الأخضر للعصابة بالتحرك الميداني، لكون الظروف الداخلية والخارجية في غير صالحها.
عموما، لقد وجد كل طرف نفسه في أزمة معبر الكركرات، سواء المغرب أم الجزائر، لذا يتغنى كل جانب بأحقية طروحاته السياسية والعسكرية والدبلوماسية، إلا أن تدخلات القوى العظمى ليست بعيدة عن خلق هذا الوضع الجديد (لتأجيج الخلاف بين البلدين الجارين) لمصالح استراتيجية واقتصادية وعسكرية ومالية، فهي الرابح الأكبر من خلال عقد الصفقات وجني الفوائد على المدى المتوسط والبعيد، وخاصة مع النظام المستقر والمستديم (حالة الملكية في المغرب نموذجا)، لأنها لا تثق كثيرا في النظام العسكري المشاكس وغير المستقر.
استراتيجية اللاحرب واللاسلم الجزائرية
ناورت الجزائر دبلوماسيا، وحققت نجاحات كبيرة، إذ فرضت عضوية العصابة وأرغمت المغرب على الانسحاب من الاتحاد الأفريقي، كما ناورت في جميع المحافل الجهوية والقارية والمتوسطية والدولية لإزعاج المغرب رافعة يافطة “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، ورغم فشل هذا المطلب إثر استحالة تحديد الهيأة الناخبة، لا تزال نفس الشعارات تراوح مكانها، حتى في الكتب المدرسية ويمتحن الصبية حول وضعية جنوب المغرب كأنهم سياسيون ومناضلون، أو تعول عليهم للاستمرار في أسلوب العداء الأبدي للجار الغربي.
إلا أن مظاهر الفشل الدبلوماسي كثيرة ومتعمقة في المكان والزمان كذلك، سواء في الأوساط الدولية أوالجهوية أو في الموضع المعني بالأمر، حيث تعذر وضع موطئ قدم للإطلالة على المحيط الأطلسي، والاستفادة من هذا الموقع الاستراتيجي لتصدير المواد الخام، وكذا محاصرة المغرب نهائيا، وإقفال بعده الأفريقي الغربي.
لن يرتاح بال النظام العسكري الجزائري (نفسيا) إلا بعد اندلاع حلم حرب شاملة مع المغرب، بوساطة العصابة أو دونها، باعتبار المغرب بلدا ذي نظام ملكي مستدام، في حين يتمسك النظام الجزائري العسكري بالبقاء، رغم تغييب المنية لمعظم زعماء الثورة الجزائرية. لكن الحرب ـ الحلم المحتملة تحتاج لمقومات يصعب الحصول عليها لأي دولة في العالم حاليا، نظرا لشروطها القاسية ـ حتى على الدول العظمى ــ، من موافقة الدول القوية ومنها المتمتعة بحق الفيتو، ودول الجوار والمنظمات الدولية، وتوفر الدعم العسكري والمالي المستمر، والخبرة المعلوماتية الإلكترونية، والدعم الاستخباراتي النزيه، وخاصة اختراقات أنتلجانسيا العدو ومعرفة مدى قدرته على المقاومة والثبات لفترة قصيرة، لكون الحرب مرهقة ومكلفة ودون نتيجة إيجابية حتى في حالة تحقيق النصر، لأن المنتظم الدولي سيعيدك إلى حدودك السابقة مرغما (ستاتيكو/ Statu-quo).
ونتساءل في هذه النقطة مع الخبراء السياسيين والعسكريين: هل ستدعم روسيا الاتحادية أو الصين الشعبية أو كلاهما الجزائر في حالة اندلاع الحرب مع المغرب؟
إن الجواب سيكون بالنفي، نظرا لتحكم فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في الملف بمجلس الأمن، وكذلك بسبب ارتباط القوتين الشرقيتين بمشاريع اقتصادية وعسكرية وصحية ضخمة مع المغرب، ولا ترغب في فقدانها.
إن الخطوة المقبلة للجيش المغربي نحو المنطقة العازلة غير محبذة قانونيا وعسكريا، لأن الجزائر ستستغل الفرصة، عبر ذراعها غير الشرعي، لإرسال بعض القذائف من تندوف، يصعب الرد عليها لكونها ستصيب التراب الجزائري، ومن ثم سينقلب الراي العام والمنتظم الدوليين على الدولة المغربية ـ المعتدية آنذاك ـ، في نظر الخبراء الجزائريين، مما يفسر تبصر وحكمة الرؤية المغربية. ورغم ذلك يمكن إحداث ثغرات في المنطقة العازلة عبر الساكنة الصحراوية المدنية، وإيجاد السبيبل القانوني لإغلاق الحدود المغربية الموريتانية كاملة، ومن ثم تشتيت تركيز الاستراتيجيات العدائية للنظام الجارـ العدو.
وتعود عوامل تشبت النظام العسكري الجزائري ــ وعلى الأقل جناحا من أجنحته المتقاتلة للسيطرة على السلطةــ بهذا الوضع العدائي تُجاه المغرب إلى أسباب تاريخية لم ينذمل جرحها بعد من أبرزها:
ــ صراع العمالقة بين الغرب الرأسمالي الإمبريالي والشرق الشيوعي محرر الشعوب الذي انتهى عهده بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، المعروف بفترة الحرب الباردة لا زال مستمرا في ذهنية النظام العسكري الحاكم.
ــ الرغبة في الانتقام لهزيمة حرب الرمال سنة 1963، المشهورة بعبارة الرئيس الجزائري آنذاك “حَكرونا، حَكرونا”، ولو بالطرق الدبلوماسية والقانونية.
ويشكك بعض الزعماء الجزائريين في أسباب اندلاع هذه الحرب، ويرجعون الأمر إلى رفض فريق من الثورة الانصياع لأوامر جماعة وجدة، وتحصنهم بالجبال الغربية، قبل جرهم إلى محرقة سهلة على الحدود.
ــ الرغبة الملحة للنظام الجزائري في الحصول على منفذ عبر المحيط الأطلسي، ولو على حساب دويلة تابعة لا يمكنها الصمود طويلا في منطقة الساحل الملتهبة.
ــ الضغط على موريتانيا لتجميد علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والتنموية عموما مع المغرب، وتهددها بإرسال ذراعها المسلح ـ اللقيط ـ كما حصل في السنوات السابقة حينما أوشكت العاصمة نواكشوط على السقوط في يد الجزائر عبر وكيلتها.
ــ الرغبة الملحة لمحاصرة المغرب، انعكست سلبا على القطر الجزائري الذي أضحى محاصرا بدوره من جميع الجهات؛ المغرب من الغرب وليبيا وتونس من الشرق وموريتانيا ومالي والنيجر من الجنوب حيث تنتشر الجماعات المسلحة.
ــ محاولة إضعاف، أو على الأقل، تعطيل التنمية في هذا البلد الجار والمنافس، للانفراد بالزعامة بالمغرب الكبير، من خلال رفع شعار “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، الذي لم يطبق حتى في الأراضي الجزائرية، بمنطقة القبائل المتوسطية ومناطق الطوارق الصحراوية. والمغرب غير معني بهذه الحركات الانفصالية لأن منهجه السياسي يقوم على مبادئ الوحدة والاتحاد. وفي هذا الإطار نرصد صمت الحكومة الجزائرية حينما يتعلق الأمر بحق شعوب الأكراد بتركيا والعراق وسوريا وإيران، وحق الكاتالان بإسبانيا، وحق إقليم ناغورني قره باخ، وحق سكان كوسوفو وسكوتلاندا وكورسيكا وغيرها في تقرير مصيرها.
ــ كما أن الجزائر لا زالت تكن العداء للمغرب الذي ترك مشكل الصحراء الشرقية التي ضمتها فرنسا لممتلكاتها الاستيطانية بالجزائر سنة 1900، معلقا، ينتظر موافقة البرلمان.
ــ نجاح التحالفات مع قوى أفريقية وغيرها، لإذكاء نزعة الانفصال، كما يحدث في أثيوبيا الآن (ثورة المطالبة باستقلال إقليم تيغراي بدعم من مصر والسودان إثر الخلاف بين الدول الثلاث حول بناء سد النهضة خلال شهري نونبر ودجنبر 2020)، أو كما حدث سابقا في تيمور الشرقية والسنغال (أزمة الكازامانس) وجزر القمر والسودان مثلا.
سياسة الممكن في الصحراء المغربية
إن صمود القوتين الإقليميتين بالمغرب الكبير لمدة تفوق الأربعين سنة حول قضية الصحراء المغربية ــ سياديا من خلال رفع العلم وتواجد الإدارة والجيش ــ يدل على الأبعاد الكبرى والحاسمة لكل جانب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ونفسيا واستراتيجيا وبيئيا. ومن غير المستبعد أن تتخلى الجزائر عن ملف أحرقت بواسطته جميع أوراقها، فصمودها سيستمر حتى آخر رمق، من خلال تطبيق نظرية خاسر ـ خاسر، باعتبار القضية حرب يخسر فيها جميع المتحاربين.
لا شك أن إدارة هذا الملف في أعلى المستويات عبر المؤسسة الملكية ورئاسة قصر المرادية حاليا، يبرهن على دور اللوبيات العالمية في تحريك أو تجميد الملف، حسب الظروف الدولية والجهوية، والمساهمات في حل أزمات أخرى، حتى لو كانت في الشرق العربي. ولا يجوز أن نغفل دور المملكة المغربية في حلحلة بعض المشاكل الشرق ـ أوسطية عبر الجالية المغربية، ومنها اليهودية في مختلف بقاع العالم وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، ورفع الأعلام الوطنية بإسرائيل وبعواصم الدول الغربية لم يكن مفاجأة لأحد.
ولاريب أن سياسة فتح القنصليات بالعيون والداخلة في الصحراء المغربية، وخاصة بعد مشاركة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، لدليل آخر على نجاعة دبلوماسية المؤسسة الملكية، من خلال ربح أصوات مؤيدة دائمة للقضية (مجموعة بلدان الخليج العربي زائد المملكة الأردنية)، وتشتيت برامج الاستراتيجيات المعاكسة المستديمة للجزائر، التي سارعت إلى البحث عن حلول بديلة (عبر جولة وزير خارجيتها مؤخرا لبعض الدول الأفريقية ومنها نيجيريا) إثر فتح معبر الكركرات؛ الممر البري الأفضل لأنبوب الغاز النيجيري ـ الأوربي.
ويصعب على المغرب مواصلة الحرب الدبلوماسية مع الجزائر دون إنزال ومشاركة كبيرين للساكنة الصحراوية ضمن آلياته الإدارية والإعلامية والتواصلية. وأتساءل عن عوامل ضعف ردود فعل الساكنة الصحراوية للتعبير عن مغربيتها أثناء الاحتجاجات والتصرفات المعادية، فالكثير من العناصر المؤيدة للعصابة تتمتع بصلاحيات واسعة في إطار مبادئ حقوق الإنسان وحرية التعبير والتجمع، دون أن تلقى معارضة مباشرة في الميدان وفي وسائل الإعلام والتواصل الجهويين من لدن الصحراويين، ولربما تعتبر بدورها أداة استخبارية مزدوجة.
ألا يعتقد بعض الصحراويين أن من مصلحتهم استنزاف الطرفين المغربي والجزائري، وخاصة أن لهم موطئ قدم هنا وهناك؟ فلِيَدُم الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ حسب تفكيرهم. لذا يمكن للسلطات المغربية إنزال المزيد من القوانين الإجرائية لتمتين علاقات الإدماج الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية بين ساكنة الجنوب والوسط والشمال.
إن أفضل الحلول لربح القضية محليا هو إعمار المنطقة (وخاصة المعبر الحدودي مع موريتانيا كما أشار إلى ذلك الشيخ بيد الله مؤخرا)، وتغيير البنية الديموغرافية بشكل جذري كما تحاول الجزائر إحداثه بضواحي تندوف؛ وتعد سياسة الاستثمار والتجهيز بالصحراء وموريتانيا مفتاح التمركز السكاني الجديد.
وقد لعبت البنية التحتية الجديدة، ومشاريع التعليم العالي، والصحة العمومية، والأنشطة الاقتصادية، رغم تأخرها، دورا جوهريا في تغيير مقاربات المغاربة عموما، من الشمال والوسط والجنوب، حول فكرة الاستقرار والاستثمار في الصحراء، باعتبارها امتدادا طبيعيا وتاريخيا وديموغرافيا واقتصاديا للمغرب.
وإقناع الشباب الجزائري عبر الوسائط الإعلامية والتواصلية بفشل مقاربات نظامهم العسكري، وبفشل دولتهم البترولية، التي أهدرت مئات الملايير من الدولارات الأمريكية على قضية خاسرة، استنزفت خزينة الدولة وقلصت فرص التنمية البشرية لديها؛ وما انتشار ظاهرة قوارب الموت إلا دليلا قويا على مظاهر الإحباط واليأس الذي يحس به شباب القطر الجزائري. وينطبق نفس الأمر على المغرب الذي صرف الملايير للدفاع عن مقاربته الوحدوية مرغما، في إطار التسابق نحو التسلح، حبذا لو صرفت لتحقيق التنمية البشرية.
وهنا نطرح سؤالا استفزازيا: أليست القضية الصحراوية وسيلة لإلهاء الشعوب، وتركها منزعجة نفسيا أمام الفقاعات الإعلامية المطبوخة من هنا وهناك؟
ألم أُعَنوِن مقالي ب”الحصى العالق” في أحذية ساكنة المغرب الكبير؟ لايتركها تحقق تنميتها مجتمعة، ولا منفردة، بسبب عبارة تاريخية قديمة قدم فترة استقلال الجزائر. فلِيرقد في سلام مدبرو مؤامرة “وضع الحصى في حذاء الملك الحسن الثاني”([8])، لأن الحصى عَلِقَ في أحذية كل شعوب بلدان المغرب الكبير بنجاح باهر، ربما لزمن لا زال بعيدا، إن لم تختفِ الحكومات الشعبوية البرغماتية والانتهازية في العالم، التي تشجع الفرقة والصراع والحرب لتحقيق مآربها المعلنة والخفية (لايمكن أن نبعد دور المخابرات الأمريكية والإسبانية والفرنسية أبدا)، وإن لم يختفِ حكم العسكر المتمسك دوما بشعار العدو الخارجي (الكلاسيكي حسب السلطات العليا حاليا)، وعقيدة مؤامرة الجيران، للاستمرار في السلطة ونهب خيرات البلاد، وتزول هذه المؤامرة الكبرى المدبرة من قبل عسكر الجزائر، ويسقط القناع، كما يعتقد بعض المحللين الذين اشتعل رأسهم شيبا من كثرة الانتظار وأملا في الانفراج والوحدة.
لقد ضاعت فرص التنمية عند شعوب المغرب الكبير التي أضحت من الأمم الأكثر فقرا وبطالة وتشتتا، وانحرافا في السلوك (وضعية الصحراويين في مخيمات الحمادة، وأزمات الشعب الجزائري، والحرب الأهلية في ليبيا، وضعف القدرة الشرائية والتنمية بتونس والمغرب وموريتانيا)، بسب نزوات التمسك بالسلطة من قبل أجنحة العسكر المتمردة على مصلحة الجزائريين أو لِنَقُل المتحالفة مع فرنسا، التي عمدت إلى استراتيجية خلق نظرية عدو خارجي وخيالي، في الغرب (المغرب) والشرق (ليبيا) والجنوب (مالي)، فأُسقط حلم اتحاد المغرب الكبير المنشود. ونجحت الدول العظمى في استغلال واستنزاف المنطقة وساكنتها؛ وما سرقة أطرها العليا كل سنة، واستنزاف ثرواتها الباطنية (الفوسفاط والبترول والغاز الطبيعي)، وابتزازها الدبلوماسي السري والعلني، إلا دليلا مفضوحا على المقاربة الغربية السحرية والمخابراتية، التي لا يمكن أن تُحل مشكلة الصحراء المغربية دونها.
06/12/2020 الدكتور يحي خالفي