إصدارٌ جديدٌ حول فساد السلطة واستغلال النفوذ في تاريخ المغرب
أصدر الأستاذ عكاشة برحاب كتاباً باللغة الفرنسية تحت عنوان L’Affaire d’Oujda””(قضية وجدة)، وهو عبارة عن نص تاريخي مُحقق معزز بوثائق نادرة. يرصد الكتابُ قضية فسادٍ في استعمال السلطة، تتعلق بأشكال التعسف واستغلال النفوذ في تدبير الشأن المحلي بشرق المغرب في بداية الاحتلال (1912-1907)، وهي مرحلة انتقالية بين نظام مخزني تقليدي وسلطة استعمارية فرنسية متذبذبة قبل فرْض نظام الحماية، وقد سخّرت هذه السلطة بعض رجال المخزن المتواطئين معها لانتزاع الأراضي والعقارات من المغاربة، وبيعها للفرنسيين ببخس الأثمان دون رقيب ولا حسيب، ناهيك عن سوء تدبير مصلحة الضرائب والجمارك وما وقع بها من اختلاس ونهب للأموال، فانتهى الأمر باعتقال المندوب الفرنسي بوجدة المكلف بتدبير الشأن المحلي وأعوانه وقاضي المدينة وعُدُولِه، فأوْفدت الحكومة الفرنسية على عجل لجنة للتحقيق في نهاية شهر أكتوبر1911، فشاعت أخبار “الفضيحة” بين الخاصة والعامة التي عُرفت في الصحافة الفرنسية تحت مُسمّى “قضية وجدة” تارة و”فضيحة وجدة” تارة أخرى، وقد كشف التحقيق عن حجم الفساد الإداري والسلطوي، خاصة مُعاناة سكان شرق المغرب من الظلم وسلب أموالهم وأراضيهم، مما لا يَقدِر أحدٌ أن يُصدّقه من المظالم الفاحشة، فانتُزعت جل الأملاك من أربابها، ووقعت في أملاك الأحباس مضاربة قل نظيرُها، ولم يقف الأمر عند ظلم الأحياء، بل وقعَ ظلمُ أرباب القبور، حيث تحولت المقابرُ إلى خمّارات وفنادق ودُور مسكونة ومخازن، هذا واقع عايَنهُ في حينه محمد الحجْوي وأثبته في مذكّراته، وهو من العارفين بخبايا المنطقة الشرقية التي تولّى فيها مهام أمين المال ومندوب السلطان بمنطقة الحدود في مطلع القرن العشرين. غير أن لجنة التحقيق حاولت التستّر على هذه الفضيحة وأوْجَدت لها مُخرجات، برّأت بها كل المتورّطين في الفساد، واكتفت باستصدار قرارات قضت بعزل بعضهم وتنقيل البعض الآخر، وهذا ما يُزكّي مقولة معروفة بأن كل تحقيق في قضية فسادٍ أو فضيحةٍ كثيراً ما ينتهي بما هو غير مُعوَّل عليه ومُؤمَّل فيه، غير أن الذاكرة الشعبية ظلت تحتفظ بما تعرّض له السكان من ظلم وتعدٍّ وتعسُّفٍ في ممارسة السلطة، خاصة ما يتعلق بالأرض أو ببعض الأشخاص المتورّطين في الفساد. وهذا واقعٌ تفضحه الوثائق رغم محاولة التستر عليه، وهو يناقض ما كانت تدّعيه فرنسا من مساعدة المغرب على إنجاز إصلاح شامل في البلاد وتحقيق التنمية والازدهار والرخاء ونشر الحضارة بين شعبه.
تكشف الوثائق المنشورة عن تناقضات لجنة التحقيق، وتُعرّي الواقع المرير الذي عانى منه سكان شرق المغرب في بداية الاحتلال، حيث كان كل شيء مُباحاً لفائدة المُستعمِر. ويسعى هذا النص إلى ردّ الاعتبار إلى هؤلاء المتضررين من تسلُّط وجبروت الحكام الفرنسيين وأذنابهم من المغاربة، ومحاولة فضْح جوانب كثيرة من مساوئ الاستعمار المقيت ، التي لا يمكن تناسيها في وقتنا الحاضر، ولا يمكن التغطية عليها نظيرَ بعض الأعمال التي قامت بها السلطات الاستعمارية، من قبيل تحديث الإدارة وإقامة بِنْية تحتِية كانت مُنعدمة، ونشْر تعليمٍ عصري مُحتشم ومستوصفات للعلاج كانت مفقودة، كل هذا وغيره كثيرٌ لا يمكنه تعويض الحرية والكرامة وما قاساه عامّة الناس من بؤسٍ وحرمانٍ في ظل الاحتلال، وخلاصة القول إن الكتاب يرصد فشل تدبير الشأن المحلي طيلة قرابة خمس سنوات من الاحتلال قبل فرض نظام الحماية، فكان شرق المغرب مجالاً لِاختبار إدارة استعمارية وقع تعميمها لاحقا على باقي التراب الوطني، وهذا ما يسعى النص المنشور إلى رصْده من أجل تعزيز الذاكرة الوطنية جرّاء سوء التدبير الإداري وما رافقه من تعسّف وظلم وفساد في بداية الاحتلال .