المغاربة ويهودُهم..صداقات مذهلة
رمضان مصباح الإدريسي
اليهود المغاربة شأن شعبي:
فرَّط المغرب لعشرات السنين في أغلب ثرواته اللامادية،ورمزية تاريخه ألألوفي ؛بل حتى في حضوره الديموغرافي والسياسي ،الوازن،في إسرائيل.
لا ثروة مادية ترقى إلى هذا التراث المتكامل ،لأن التاريخ لا يشترى؛أو قل هو ملكية غير قابلة للتصرف .
ولولا هذا الثراء ما اهتم بنا أحد ،في وجود ثروات خليجية ضخمة؛وهل تعوز الثروة الولايات المتحدة؟
يضاف إلى كل هذا ،البعد الإفريقي للمملكة ؛أو” طريق الحرير المغربية” المرشحة لدور اقتصادي كبير في القارة.
من لا يرى هذا إما مصاب بتشتت النظر ،أو “ماتْ لو لْحوت” لأن البِركة جفت والشمس أشرقت ؛ولم تعد هناك أزقة خلفية مظلمة يلعب فيها.
أحترم كل الآراء ،إلا خيانة الوطن فهي ليست وجهة نظر.
يخطئ من يعتقد أن المغاربة اليهود – ثلاثة آلاف في المغرب الآن،ومليون في إسرائيل،وغيرهم عبر العالم – شأن ملكي مخزني؛فعلا تواجدوا دائما في دواوين الملوك ،كمستشارين ووزراء وتجار كبار؛لكن ماكان هذا ليحصل لولا مكانتهم المرموقة،أولا، داخل المجتمع المغربي ،قديما وحديثا.
إن نشاط بعضهم وحنكتهم،وثرواتهم وأمانتهم ، كلها عوامل خولت لهم تصدر النخب المخزنية والشعبية؛على غرار المغاربة المسلمين.
وأكبر دليل على هذا فقراء اليهود أنفسهم ،الذين عانوا،عبر التاريخ، من شظف العيش – وليس الكرامة والمعتقد – كما عانى أغلب المغاربة في البوادي كما في الحواضر.
لاخلاف اليوم حول كون اليهود المغاربة ؛حيثما تواجدوا في العالم؛بل حتى وزراء الحكومات الإسرائيلية منهم،قرروا أن يظلوا أوفياء لجنسيتهم المغربية الأصلية؛اختيارا وليس إلزاما ؛وحينما يناديهم الواجب الوطني المغربي يستجيبون.
وعندنا مثال المستشار الملكي “أندري أزولاي” الذي لبى رغبة المرحوم الحسن الثاني ذات زيارة للولايات المتحدة.
لم يثنه لا المنصب الاقتصادي الرفيع الذي كان يشغله ،ولا المجتمع الراقي الذي كان يعيش فيه ،من العودة إلى وطنه وخدمة ملكه ؛ولا يزال لم يبدل تبديلا. أفضاله على مدينته الصويرة يعرفها أهلها جيدا.
إن الذين يتحاملون اليوم على المغرب ،وخصوصا من جيراننا العسكريين ،لا يفهمون في هندسة البناء بل في قيادة “البيلدوزر” فقط.
وفاء إسرائيل لتاريخ المغاربة من شعبها ،يقابله خذلان تام وخيانة عظمى للتاريخ المشترك من طرف العسكر الجزائري المتسلط.
أما من بني جلدتنا المغاربة –أصحاب الريع الديني – فيفقهون في تاريخ “خيبر” فقط وليس في تاريخ وطنهم؛وقد سبق أن قلت :إن أقدامهم فوق الخريطة وعقولهم هناك حيث تؤذن الخلافة ،ولايهم لمن تنسب.
عُـلّـقْـتُـهَـا عَـرَضـاً ، وَعُـلِّـقَـتْ رَجُـلا ** غَـيـرِي، وَعُـلِّقَ أُخـرَى غَيرَهَا الرَّجُلُ(الأعشى)
هذا نعرفه ،ونبهنا له ؛وسيعلم الذين خذلوا أي زرع سيحصدون.
إنهم أصحاب البركة التي غار ماؤها ونفق سمكها؛ومِن بيْدرِهم الذي يتريعون منه، نلقي في وجوههم بصحيفة المدينة التي صان بها الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق اليهود ميثاقا غليظا.
وأنصح فقيهنا ألمقاصدي،الذي لا يفهم في مقاصد الوطن، أن يرافق “ولد الددو” الموريتاني إلى دبدو المغربية – فقط – عساكما تقفان شعبيا على ما تجهلانه علما.
صداقتان واقعيتان مذهلتان:
1.العجوز الحمقاء:
في مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية، وقُرب الملاح، حيث سكنَ اليهود المغاربة، منذ القديم، كانت تقيم امرأة مغربية مسلمة، قاربت الشيخوخة.
لغير المغاربة أقول:بكل المدن المغربية العتيقة، كان يوجد حيٌّ يطلق عليه الملاح، يُخصص لسكن اليهود المغاربة؛ وهذا لا يعني أنهم كانوا يعيشون بمعزل عن المجتمع المغربي، بل بالعكس، كان هناك اختلاط دائمٌ – عدا الشؤون الدينية- كما أن الملاح كان مقصدا للمغاربة المسلمين، في كل ما يخص الحرف اليدوية، وما يرتبط بها من تجارة.
بجوار هذه المرأة كان يسكن يهودي شابٌّ اسمه “شلومو”، فقدَ والديه وهو صغيرٌ..كان يحلو له أن ينادي جارته، مازِحا، بالعجوز الحمْقاء؛ أما هي فكانت تستعْذِب منه هذا الشغب؛ لكنها ترد عليه في الحال:وأنت يا يهودي..
يضحكان ويمضي كلُّ واحد لمشاغله اليومية.
كان للمرأة أبناء، وكانت تعتبر شلومو واحِدا منهم.
ولهذا، ما إن يجتمعَ الأبناء للطعام، حتى يكون شلومو جالِسا بينهم؛ يأكل مِما تطبخه له العجوز خصيصا، مراعاة لديانته
في أيام السبت كان شلومو يذهب لزيارة عمِّه، حيث يقضي معه اليومَ؛ ولا يمكن أن تمْضي سائر الأيام الأخرى، دون زيارة صديقته العجوز الحمقاء وبنائها.
وتمضي الأيام على هذه الوتيرة، في أكبرِ المدن المغربية، حيث كانت تتعايش مُختلف الجنسيات، والديانات.
إلى أن حل اليومُ الحزين؛ حيث قصد شلومو صديقتَه، ليخبرها بعزمه على الرَّحيل إلى إسرائيل، ليحقِّق هناك المستقبل الذي يحلمُ به.
حزِنت المرأة حزن أم موشكة على توديع أحد أبنائها؛ حاولت جاهدة أن تُثنِيه عن عزمه، بتخويفه من بلاد لا توجد بها غيرُ الرمال والأحجار، حسب قولها؛ لكن شلومو كان قد أكمل جميع الاستعدادات لسفَرٍ بدون عودة، ولم يكن ممكنا ثنيُه عن ذلك.
يوم الوداع كان بمثابة يوم جنازة لأحدِ أبناء العجوز، حزنت وبكت، لكن الله قدَّر هذا الفراق؛ وهاهي تحتضن شلومو بين ذراعيها باكية؛ ابنها الذي لم تلِده.
وبكى شلومو بدوره هذه الأم الثانية التي لا يُمكن أن تذكر أبناءها دون ذكره بينهم.
في الشهور الأولى لرحيل شلومو إلى إسرائيل، كانت تتوصل منه برسائلَ؛ ابتدأت مواظبةً لكنها مع الزمن أصبحت متباعِدة، إلى أن انقطعت تماما.
حياةٌ جديدة، أصدقاء جددٌ، وربما أسرةٌ وأبناء؛ هكذا كانت العجوز تفكر، لتجِد العذر لانقطاع الرسائل..مضت على هذه الحال عشرون عاما؛ إلى كان ذات يومٍ، وهي جالسةٌ في منزلها، إلى صينية شايٍ، فإذا بطرقٍ على الباب يتناهى إلى سمعِها..حينما فتحت وجدت نفسها وجها لوجه مع فتىً في سن المراهقة..
حياها أفضلَ تحية وهو يقول:
سيدتي جئت لرُؤيتك من قِبل شخص تعرفينَه جيِّدا.
هي لا تعرف هذا الفتى، فمن يكون هذا الذي أرسلَه؟
لِيُخرجها الفتى من حيرتها، أردَف قائلا:
لدي رسالةٌ منه إليك:
إنه يقول لك: أيتها العجوزُ الحمقاء.
آآآآآآآآآآآآآآآه شلومو؛ ومن غيرُه كان يجرؤُ على نَعتي بالحمقاء؟
شلومو يا ابنِي العزيز.
ما إن نطقت بها، والدموعُ تنهمر من عينيها، حتى رأته واقفا خلف ابنِه؛ إنهُ شلومو..سمُن والتَحَى، لكن كلَّ هذا لا يمكن أن يحول دون أن تتعرف عليه عجوزُه الحمقاء.
تعانق الصديقان، وبللتهُما دموعُهما، وهي أبلغ من الكلامِ؛ بعد عشرين عاما من الفراق.
قدِم شلومو، رفقة ابنه من إسرائيل، ضمن مجموعةٍ سياحية؛ وليس في قائمة رحْلته غير رؤية عجوزِه الحمقاء وأبنائها.
خلال يومين قضاهما في ضيافتها، حكَى لها – كما يفعل الابن مع أمه- عن كل شيء..عن العمل، عن التجنيد، عن الزواج، عن الأبناء..
كانت تستمع إليه بشغَف، تُسرُّ لسروره وتحزَن لحزنه، وتقلقُ لقلقه؛ وقد أسعدها أنه كوَّن أسرة، وأصبح أبا مسؤولا.
وبعد هذا كان الفراق، عاد شلومو إلى إسرائيل، وانقطعت أخبارُه؛ أما هي فشعرت بغمٍّ كبير انزاح عن صدرها، إذ قدَّر لها الله أن ترى ابنها الروحي من جديد..شلومو الابن الذي لم تلده.
بعد الزيارة بزمن وجيزٍ رحلت “العجوز الحمقاء” إلى دارِ البقاء.
يقول الراوي:
هذه المرأة كانت جدتي رحمها الله.
2.اسحق..البائع القروي المتجول :
في مُستهل القرن الماضي، بالمملكة المغربية، كان أغلبُ البائعين المُتجولين من اليهود المغاربة، كانوا يجوبون الدواوير . عبرَ السهول والجبال، صيفا وشتاء، حاملين بضاعتَهم على الحمير والبغال.
عدا الأسواق وهؤلاء المغاربة اليهود ، لم تكن هناك فرصٌ أخرى للبيع والشراء؛ ولهذا كان حلولُ بائع يهودي متجول بالدوار يعتبر حدثا تجاريا مهما..
البائع المتجول، بطلُ هذه القصة الواقعية، اسمه اسحق.
ذات صباح ربيعي باكرٍ حل بدوار من دواوير تادلة بالمغرب –قرب مدينة بني ملال- كعادة الباعة اليهود، اختارَ موقعا- وسطا بين الساكنة، فأنزل كلَّ بضاعته من على ظهر حماره، وانتحى جانبا ينتظر الزبائِن.
فعلا، ما هي سوى دقائق حتى أحاطت به نساءُ الدوار، وأطفالُه، وشرعوا في تفحُّص سلعه المُكونة أساسا من: مناديل الرأس، الأمشاط، الملاعق والسكاكين، العقود، الأقراط، الأقمشة، وعلب الكبريت الخ..
إضافةً طبعا إلى أصناف الحلوى الملونة والرخيصة، المُغرية للأطفال..هذا ما كان يروج وقتها في كل البوادي المغربية، ولا وجودَ لمن يحمله إلى الناس، حتى في قمم الجبال الثلجية، عدا اليهود.
قضى اسحق يومه في بيع بضاعتِه، أحيانا بدراهمَ، وأحيانا بمقايضَتها بالصوف أو الحبوب أو البيض.
حينما حل الظلامُ شق على اسحق أن يظل حيثُ هو، بعيدا عن المساكن، وصعُب عليه أن يغامر في الطرقات، لكثرة المخاطر، خصوصا لمن هو مثله، يحمل سِلعا ومالا..نظر إلى المساكن المحيطة به، فاختار أكبرَها؛ ربما عملا بالمقولة الشعبية: من أراد القِرى فعليه بالمنازل الكبيرة..حمل ما تبقى من بضاعته على حماره، واتجه صوب المنزل الكبير.
طلب ضيافة الله، وِفق الجاري به العملُ،رحب به المسلم-جد الراوي – وأنزلَه في مكانٍ قريب بضيعته؛وبعد أن نصب خيمته الصغيرة، وقام بشعائرِه الدينية، دعاه مضيفُه لتناول العشاء معه.
اعتذر اسحق، مُتحججا بكونه لا يأكل اللحم، فهِم الجد ما يعنيه بهذا الكلام، وطلب من إحدى زوجاته إحضارَ ديك، سلمه له ليتدبَّر أكله كما تشاء له دِيانتُه..وبعد أن فرغ من طعامه دعاه الجد للسمر، وشرب الشاي، وأمضيا ساعاتٍ طِوالا في الحديث عن كل شيء؛ مما جعل المسلمَ يكتشف في اليهودي رجلا ذا ثقافة واسعة، بمقاييس ذلك الزمان..من كثرة تِجواله، ربما، ومخالطته لأصناف عديدة من الناس.
ومضت العلاقة بين الطرفين على هذا النَّهج؛ كل ثلاثة أشهر يحلُّ اسحق بالدوار، وفي المساء، يقصد نفس المكان بالضيعة؛ وفي الليل يستأنف مع صديقه كلَّ الأحاديث التي بقيت عالقة، وما معها من مستجدات القبائل والدواوير والسير في الطرقات.
استمرت هذه الصداقة أربعين عاما، ظل فيها المُسلم مسلما واليهودي يهوديا؛ لكنَّ وشائج العلاقة بينهما كانت ضاربة في عمق المشترك الإنساني، الذي يعلو على كل الاختلافات.
ثم انقطعت أخبارُ اسحق كُلية، ولم يعد يحضر في وقته؛ لا إلى الدُّوار، ولا إلى تادلة كلها.
احتار الجد، يقول الراوي، ولم يترك أحدا من الباعة المتجولين، وعابري السبيل، والرُّحل، إلا سأله عن اسحق؛ لكن بدون طائل..حزن كثيرا واغتم، وفي الأخير سلم بقضاء الله، في غياب صديقه الحميم..إلى أن كان ذات يوم، سمع فيه بساحة منزله نداء بائعٍ متجول من شباب اليهود.
أقبلْ سيدي، يقول الشاب؛ عظمَ الله أجرَك في صديقك اسحق، لقد رحل إلى دار البقاء، منذ مدة..لم يعش بعد رحيل زوجته سوى شهور معدودة.
بكى الجد كثيرا لهذا النعي، واستفسر الشاب عن كلِّ التفاصيل؛ وأكمل بالترحيب به ليُقيم، إن شاء، في نفس المكان من ضيعته.
وقبل انصراف البائع سلَّم للجد لفَّافة وهو يقول: هذه أمانة تركها لك اسحق، وهي أعزُّ ما يملك؛ لقد قال لي إن صديقي أفضلُ من يهتم بها، مادمتُ بدون أبناء..ثم انصرف وترك الجد جالسا مع كلِّ أحزانه، يتراءى له من خلالها صديقُه اسحق وهو يلوح له مُودعا.
في الليل، فتح الجد اللفافة، وسط زوَجاته وأبنائه؛ والكلُّ صامت، وكأن على رؤوسهم الطير.
بدأ برسالة وداعٍ، من صديقه، بكى لها الجميع.
ثم ماذا؟
منديلٌ حريري، من لوازم الصلاة عند اليهود؛ كان اسحق يلفُّ به عنقَه.
منديل برَمزية كبيرة، لا يسلِّمه اليهودي لغير اليهودي؛ لكن للصداقة استثناءات.
بعد زمن استغلَّ الجد إحدى زياراته إلى مدينة فاس، فقصد بيعة اليهود بالملاح، وقصَّ على “الرَّبِّي” القائم عليها، كل حكايته مع اسحق؛ وسلَّم له منديلَ صلاته، ثم انصرف باكيا، وكلماتُ الشكر في أثره.
يقول الراوي:
لم يعش جدُّ أبي بعد رحلته إلى فاس سوى شهورٍ معدودة.