زغاريد في منزل فرونسواز
رمضان مصباح الإدريسي
الحلقة الرابعة:
مقدمة عامة:
سيتحرك هذا العمل الروائي،عبر حلقات متعددة،لتصحيح العودة إلى الماضي ،من أجل توظيفه ،سليما غير مشوه،في بناء المستقبل المغربي الفرنسي – في الواجهة- والإسلامي الفرنسي،في عمق الصورة .
بمعنى تصحيح العودة إلى الماضي ،من أجل تصحيح الرهان على المستقبل.
العمل لا يقف على الصفيح الساخن للأحداث ،اليوم،بل انطلق منذ سنوات ؛منذ أن بدا أن فرنسا تتعثر كثيرا في محاربتها لإرهاب إسلامي ،حنبلي بالخصوص ، غدا مواطنا فرنسيا،بكل أوراقه الرسمية. أسباب التعثر متعددة ؛ومنها كون المقاربة الأمنية القوية للدولة ،لا توازيها مقاربة تاريخية صادقة،عميقة وفعالة.
هل سيتمكن الحب الذي برعم في قلبي الطالبين ” فرونسواز” وطارق المغربي ،من تصحيح الماضي لتصحيح المستقبل؟
أنت تزغردين كما تُقَبِّلين؛كل شيء سريع عندك.
أخرجته ذبذبات الهاتف في الجيب من شروده اللذيذ .
نعم فرونسواز ضبطتني متلبسا باستعادة شريط ذكرياتي مع الوالد والأسرة.
تضحك سعيدة: انه الحنين والوُطان، ومن أجل الأسرة أهاتفك ،أنا بدوري؛يا لها من مصادفة.
لعله خيرٌ يا عزيزتي. نعم نعم خير،كل ما في الأمر أن والدي عاد من غيابه الطويل ،منذ يومين .
هنيئا للأسرة، ثم ماذا بعد؟
كنت حدثته عنك في الكثير من اتصالاتي ،حتى أصبح بدوره يسألني عنك .
سنحتفل غدا السبت بمقدمه ،وقد كلفني بدعوتك للحضور ؛تضحك وتضيف :
يريد أن يتعرف على الشاب طارق الذي يعرف كيف يكمل تربية ابنته السريعة الحب.
يضحكان معا ،ثم تسمعه يقول :لا يافرونسواز انها تربية متبادلة؛هل نسيت رهبتي في الأيام الأولى بالجامعة،وبالمدينة؟هل نسيت الحمامات اللغوية التي أقحمتني فيها لتنطلق فرنسيتي التي ظلت صامتة في المغرب .
في الأوساط الشعبية لا نتحدث الفرنسية ؛رغم أحقيتنا نحن أيضا فيها كغنيمة حرب .
لقد صادرها التعريب المتوحش،غب الاستقلال، لفائدة النخبة فقط.
على أي هذا موضوع آخر ،والآن ما المطلوب مني عمله ؟ كيف أواجه كل هذا الإحراج يا فرونسواز؟
تضحك ..لا شيء ستحضر لتتعرف على أسرتي ولتتعرف هي على هذا المغربي الذي لا حديث لفتاتهم إلا عنه .
اطمئن فوالدي رجل مثقف ،متواضع جدا رغم مهامه السرية الكثيرة والمهمة للبلاد؛بالمناسبة كم ضحك حينما أخبرته بقبلتي التي تركتَها معلقة ذات يوم؟ هل نسيت؟ لا لم أنس ،إنها محفوظة في أرشيفي العاطفي،إنها تتعتق كما يتعتق نبيذ بوردو.
وكيف علق على الحدث؟
قال لي :
لاتتسرعي يا فرونسواز؛هم في المغرب يملكون الوقت ،رغم أننا نحن من يصنع الساعة. نحن نتصرف بعفوية لا يفهمونها هم .
نحن طلقاء في قيمنا ،وعلاقاتنا بالمرأة ؛أما هم فتثقل عليهم ضوابط جامدة عمرت قرونا.لا عفوية في علاقتهم بالنساء.
كيف تسمحين يا بنيتي لشفتيك بخلخلة كل ما يؤثث عقل هذا الشاب؟
يضحك طارق وهو يتذكر نصائح والده :
عامل كل فتاة كأنها أختك، لا تستمع إلى قلبك حتى تستمع إلى عقلك،لكل شيء أوانه فلا تتعجل.
والدي شارل يتردد كثيرا على المغرب ،نظرا لطبيعة مهامه الرسمية،وقد يحدثك عنها ذات يوم.
موعدنا السبت إذن لنكمل هذا الحديث .
إلى اللقاء يا عزيزتي.
حينما خلا إلى نفسه راح يفكر في أسرة فرونسواز،وكيف ستستقبله ،وهل ستقبل بخجله المغربي،وبقلة معرفته بالحياة الأسرية الفرنسية ،وكيفية نسج العلاقات في المجتمع الفرنسي.
قرأ كتبا نعم،شاهد أشرطة سينمائية نعم؛لكن الواقع يظل شيئا آخر.
وفي الأخير قَوَّته قناعةُ كونه مجرد صديق لفرونسواز،إلى حد الساعة.
فلماذا يقحم نفسه في دوامة من الحيرة؟
في مساء السبت وحوالي الساعة التاسعة كان يضغط زر الجرس ويُعِدُّ نفسه لمصافحة من سيفتح.
توالت الثواني ،ثم سمع خطوات خفيفة يسرع بها صاحبُها جهة الباب.
هاهي كزهرة ربيعية تستعجل شمس الصباح؛ إنها برناديت،وقد سبق أن تعرف عليها، إنها الأخت الصغرى لفرونسواز؛بل هي فرونسواز الطفلة؛من شدة الشبه.
تعانقه بفرح طفولي وتدعوه للدخول.
ما أن وطئت قدماه البهو حتى سمع لعلعة زغرودة ،احمرت لها وجنتاه.
أعرف أنها لن تدخر جهدا لإحراجي هذا المساء،يقول لنفسه بين طفرة حُمرة وأخرى.
تعانقه بالكيفية التي يحب؛وتلتفت لتجيب الوالد في الصالون ،وهو يترنح من شدة الضحك.
انه طارق يا أبي .
يقبل مهللا ،مرحبا طارق .
شكرا سيدي على الدعوة.
لقد صرت من الآن صديق الأسرة كلها وليس فرونسواز فقط.
ثم يوجه الكلام لابنته ،وهي بالكاد تحبس ضحكتها من شدة خجل طارق.
هو معذور يا بنيتي أنت لا تعرفين ما تعنيه الزغاريد في المغرب.
أنت تزغردين كما تُقَبِّلين؛كل شيء سريع عندك.
الزغاريد في المغرب تعلن عن خطوبة ،عن زواج ،عن ختان ؛وعن بطولات المعارك ،كما كان يحصل في السابق.
لا عليك يا أبي أنا أستنشق الشغب ،وأعيش به ،وطارق يعرف هذا.
هيا لتبدأ الحفلة،ما أسعدني بالعودة إلى حضن أسرتي.
عفوية شارل رفعت الكلفة عن طارق ،وراودته مقارنات سريعة ؛استثقل فيها كثرة الحواجز التي تغتال العفوية وتعقد التواصل في بلده.
هاهي الأم تكمل البقية: ما أن مد يده مصافحا بأدب جم حتى جذبته نحو أحضانها..هل هكذا تحيي والدتك في المغرب.
من كثرة ما سمعتُ عن أخلاقك وجديتك تمنيت لو وهبني الله ابنا مثلك؛ وهاهو يستجيب لي اللحظة؛أقبل يا ولدي وهون عليك.
ثم جلس الجميع في الصالون حول مائدة الحفلة .
طبعا رُتب الأمر منذ البداية على أن تكون هناك عصائر ضمن زجاجات الشامبانيا؛لكن دون إشعار طارق بذلك .
تُرك له الخيار لتناول ما يريد.
ثم سالت بين أعناق الكؤوس والشفاه أطراف الأحاديث ؛من هنا وهناك ؛مما يشغل الأسرة ،أو المجتمع الفرنسي بصفة عامة.
مارغريت والدة فرونسواز تشتغل أستاذة لتاريخ الفن بجامعة بواتيي،ولهذا وجدت نفسها مضطرة لإتمام حديث الزغاريد المغربية الذي بدأه شارل.
عزيزي شارل كل جداتنا ،من ماضي البشرية السحيق ،زغردن في الأدغال لتنبيه الرجال إلى وجودهن.
أما الزغاريد الطويلة النفس ،فكان لها أوقاتها والرجال كانوا يفهمون هذا جيدا فيسرعون ،لأن مباهج الحياة البشرية الطبيعية في انتظارهم.
يحني طارق رأسه ،وهو يتظاهر بألا قدم تلكز قدمه تحت الطاولة.
أما شارل فضحك معلقا:
إذن الأمر أعمق مما تصورت؛الزغاريد دعوات للحب؛تماما كما تفعل العصافير والأيائل في الأدغال.
هو ذاك ياحبيبي ،نتشابه في أمور كثيرة ،بل للحيوان حضور قوي في الكثير من الفنون البدائية،وليس المعتقدات فقط.
إن الزغاريد نداء أنثوي حاد وعذب ،تقتضيه حياة الأدغال وتكاثر النوع البشري؛ولولا هذه الحضارة التي أنستْ في الكثير من لغات الفنون الفطرية،لكنا لا زلنا نزغرد إلى يومنا هذا ؛تماما كسرب الراعيات المغربيات ،اللواتي استوقفتك ذات سياحة في نواحي افران المغربية،لأصغي إليهن ،وأستمع من خلالهن إلى كل جداتي.
ثم تكمل: عقب زغاريد جداتنا في الأدغال يقبل من الرجال من يستطيع مواجهة المنافسين؛ولهذا كثيرا ما تنشب صراعات دامية.
انه الانتخاب الطبيعي ،حتى يكون السباقون إلى الأنثى هم الأقوياء ،من أجل نسل قوي.
ألا ترى الغوريلا يلتف ويدور حول إناثه ،ويضرب صدره بقوة ويصدر أصواتا غاضبة موجهة للذكور الآخرين من العائلة.
ينهض شارل ،بكل تلقائية ويشرع في الطواف حول الجلوس، مقلدا المشهد الغابوي، مما جعل الأم تدخل في نوبة ضحك جعلتها عاجزة تماما عن مواصلة الحديث.
وكلما همت بالتوقف إلا وتجددت ضحكاتها ،وهي تنظر إلى الصغيرة برناديت تطوف بدورها ،خلف والدها،بخفة قِردة.
وأخيرا أصابت العدوى الجميع ،فنهضت فرونسواز وأشعلت رقصة غابوية رائعة .
ضحك طارق كما لم يضحك منذ حلوله ببواتيي ،ضحك ينبعث هادرا من أعماق قلبه ،وكأنه فعلا ،كما قالت الأم،ابن لهذه الأسرة “البواتوفينية”.
سعدت فرونسواز بضحكه ،وراحت ،وهي مشتعلة رقصا،تخصه بإشارات وحركات تعمق بهجته وحرجه في نفس الوقت.
طبعا ما من حديث يعقب كل هذا الانشراح الأسري،فرحا بعودة الأب، وباستضافة طارق إلا وتلازمه عدواه:
ينظر شارل صوب فرونسواز ويقول ضاحكا:
استبعدتُ أن ينضم طارق إلى رقصتك ،التي مَثلتْ جسديا – كرقصتي – أطروحة مارغريت حول التجاوب مع الرسائل الأنثوية التي كانت توجه إلى الذكور عبر ذبذبات الزغاريد.
توافق مارغريت وتضيف:
فعلا إنها،وغيرها، لغة فنية فطرية أقدم من اللغة التي لم تظهر إلا بعد أن بدأ الإنسان يستقر في تجمعات كبرى،حيث شرعت حياته في التعقد تدريجيا.
يعلق طارق على كلام شارل: لقد أبدعتَ بدورك ،وحيث يشرع الغوريلا الكبير في تحفيظ ممتلكاته ،على الذكور الصغار الانزواء و التزام السكينة والحذر.
يعاود الصخبُ الجماعة ،بدءا من مارغريت التي عانقت صغيرتيها ،في نوبة ضحك،وهي تقول: أتسمعان ما يقول ذكور الغوريلا عنا؟
آه كم من فن ضاع في غياهب الأدغال والتاريخ.
طبعا طبعا يا حبيبتي ،يقول شارل،انه الانتخاب الطبيعي حتى بالنسبة للفنون ؛فلم يصلنا إلا ما اشتد تعلق الناس به وطوروه ،جيلا بعد جيل.
نفس الأمر نعيشه اليوم ،ألا ترين كم تتنافس أغاني اليوم بشراسة ،وكيف يُنسي بعضُها بعضا، حتى لا يبقى منها غير ما هو فعلا جدير بالبقاء؟
من يستطيع زحزحة السمفونيات الكلاسيكية عن عروشها في قلوب الإنسانية كلها؟
هناك من غنى لقبض الثمن ؛وهناك من غنى لقبض القلوب .
من يذكر اليوم “فانيسا بارادي” التي أشعلت بحطبها ذات تاريخ فرنسا كلها؟
راقصني يا طارق:
تتسلل فرونسواز صوب غرفتها ،تغيب لدقائق ،وما أن تظهر من جديد حتى تواكب رجوعها اقاعات عالية للدفوف الوجدية وهي تفتتح رقصة اليعلاوي الشهيرة.
ضحك طارق مستسلما لإغراء كتفي فرونسواز المرتعشتين ؛ولم يكن له إلا أن ينهض للركح، يشجعه شارل وكريستين سعيدين.
آه هذه هي الديمقراطية ،يصيح شارل ؛لا يمكن أن يغيب هذ ا اللون الفني الوجدي وطارق بيننا.
وما أن أعلنها طارق يعلاوية مرتعشة وصارمة ،تخضع لحساب دقيق للدفوف ،حتى راحت فرونسواز تقلد وتصحح ركزاتها العشوائية ،وهي تواجهه كمُهرة جامحة.
تنحني كريستين على شارل : استمع إلى الضربات ،عدِّدها ،ولا حظ خفة طارق وهو يحيلها إلى حركات كتفية ورجلية.
وحينما التهبت ذروة “السبايسية،لعرايشية والسقلة” أطلقتها فرونسواز زغرودة من البحر الطويل والعميق.
ثم خيم الصمت العذب ،ولم تقطعه غير كريستين وهي تشرح مرة أخرى:
إنها رقصة حربية كما تعرفون وهي تنتهي غالبا بلعلعة البارود ،ثم زغاريد الاستجابة الأنثوية لفروسية الرجال.
وكما سبق أن قلت بالنسبة لرسائل الأنثى في الأدغال ،فان حركات الكتفين وركزات القدمين القوية ،رسائل ذكورية للإناث،وغالبا ما كان هذا الرقص الحربي يندلع بعد الانتصار على العدو.
يلتفت طارق صوب فرونسواز ويسأل:
ومن أين لكِ كل هذه الوصلات الوجدية ؟
ترد فخورة :لقد سألت بعض الزملاء المغاربة عن الموسيقى الراقصة المفضلة عند الوجديين،فأفادوني، ودلوني حتى على بائع الأقراص في “ساحة السوق”place du marché التي تعرف.
وتكمل ضاحكة: فعلا أنت ابن جبل ،حتى الرقص لم يخفف من صرامة تقاسيم وجهك؛خصوصا في النهاية.
يرد ضاحكا ألم تقل السيدة كريستين أنها رقصة قتالية يلعلع فيها البارود؟
الصرامة من توابل اليعلاوي،خلافا لرقصة الحيدوس المشتركة بين الرجال والنساء.
قد ينشب عراك وضرب بالعصي إذا أخطأ ضارب الدف الحساب وأفسد الرقصة ،خصوصا في ذروتها الأخيرة.
يضحك الجميع ،وهم يتخيلون رأسا شُجت لأنها أفسدت الرقصة.
يفتح طارق هاتفه بسرعة ويبحث في اليوتوب عن بعض أشرطة الرقصة.
انظروا ،هذه أدلة على ما أقول.
نعم نعم ،تقول كريستين ،كان هذا واضحا من الطريقة التي رقصتَ بها ،كنتَ متجاوبا بدقة وصرامة مع ضربات الدف ؛رقصة لا تحتمل الخطأ ؛أوَليست قتالية،كما أسلفت؟
ستطلعان ،أنت وفرونسواز، ضمن برامج تاريخ الفنون، على دراسات مفصلة لرقصات الشعوب ودلالاتها.
ستكون لنا لقاءات كثيرة ،يقول شارل لطارق،تحدثنا فيها عن أسرتك في المغرب الذي نشترك أنا وزوجتي في حبه،ونحرص على زيارته معا ،كلما سنحت الفرص بذلك؛أما زياراتي المنفردة له فهي تتكرر مرات عديدة في السنة نظرا لطبيعة مهامي .
ثم نهض معتذرا عن مواصلة السهرة الممتعة مع الأسرة؛إذ عليه ،كما ذكر ،موجها الكلام لكريستين،أن يُحضِّر للقاء دراسي سيجمعه مع بعض الضباط المتقاعدين من فوج مشاة البحرية ،الذين شاركوا في حملات “التهدئة”،زمن الاستعمار الكولونيالي بالمغرب.
هل ستسافر بعيدا ؟
لا ياحبيبتي، سيتم اللقاء بثكنة مشاة البحرية ببواتيي.
وحينما ينصرف تنتبه إلى طارق وفرونسواز ،وهما يوشوشان ويتبادلان نظرات حيرة وتعجب.
لا لا تقلقا لم تنته السهرة بعد؛هو هكذا شارل كما تعرفين ،لا نكاد نفرح بعودته من مهامه وتنقلاته حتى ينخرط في مهمة جديدة ،الله وحده يعلم أين ستقوده هذه المرة.
أعرف هذا يا ماما لكن..
لكن ماذا؟
ذكرنا كلامه ،أنا وطارق ،بالكولونيل العجوز.
أي كولونيل يا ابنتي ،هل تترددان على الجامعة أم على ثكنة مشاة البحرية ؟
يضحك الجميع؛ثم يسود صمت لا يسمع فيه غير شارل وهو يجري مكالمات من مكتبه.
انتهت السهرة في وقت متأخر مما جعل كريستين تقترح على طارق أن ينام في غرفة الضيوف بدل المغادرة الى شقته البعيدة.
هي مناسبة إذن،تقول فرونسواز، لأطلعك بسرعة على ألبوم صور العائلة.
يقبل اقتراحها شاكرا ،وينهض مع فرونسواز الى الغرفة ومعهما الصغيرة؛وهي تلح على أن تتولى عرض الصور.
يتبع