في محاربة الرشوة الانتخابية، القوانين وحدها لا تكفي
محمد إنفي
نشرت إحدى الصحف المغربية مقالا بعنوان “الداخلية تحاصر أموال الحشيش في الانتخابات” (جريدة “الصباح”، السبت/ الأحد 2-3 يناير 2021)، نقرأ في مستهله “تسعى وزارة الداخلية في شخص مديرية الانتخابات، إلى سن إجراءات جديدة، وتضمينها في القوانين الانتخابية التي قد تتم المصادقة عليها في دورة استثنائية، بهدف قطع الطريق على أصحاب الشكارة الذين يوظفون مال الحشيش والمال، العائد من الصفقات المشبوهة في الانتخابات”.
بداية، لا يمكن إلا أن ننوه بكل إجراء قانوني أو تنظيمي يرمي إلى حماية تجربتنا الديمقراطية الفتية من الإفساد؛ خاصة وأنها قد عانت من هذا الورم لعقود، حيث عرفت كل أنواع الإفساد، من تزوير مفضوح، وغش مكشوف، وتدخل إداري فاحش، وشراء الذمم بـ”العلالي”، وغير ذلك من أساليب الإفساد للعملية الانتخابية.
لكن، لا بد أن نشير إلى أن المال الموظف في الانتخابات، ليس كله من عائدات الحشيش أو “الصفقات المشبوهة”. ولو كان الأمر كذلك لهان ربما الأمر وسهُلت عملية محاربة الرشوة الانتخابية التي لا تسلم منها استشاراتنا الشعبية. لكن الواقع غير ذلك؛ فهناك، إلى جانب أباطرة المخدرات، تجار الانتخابات؛ وقد لا تكون لهؤلاء أية علاقة بالاتجار في الممنوعات. فالمال المستعمل في إفساد العملية الانتخابية، قد يكون حراما، وقد يكون حلالا؛ قد يكون خاصا، وقد يكون عاما؛ لكن الوسيلة واحدة والهدف واحد، هو تحقيق الوصول إلى المؤسسات التمثيلية عن طريق الرشوة الانتخابية. وهذا ما يفسر الكثير من الأعطاب التي تعاني منها مؤسساتنا المنتخبة.
جيد أن تبادر الجهة المسؤولة عن تنظيم الانتخابات إلى سن إجراءات جديدة لمحاربة استعمال المال في الاستحقاقات الانتخابية؛ وسيكون أجود منه أن تسن، إلى جانب ذلك، إجراءات موازية صارمة تخص أعوانها الموكول إليهم، على المستوى المحلي والإقليمي، التنظيم والتنفيذ والتتبع. فما لم تتغير بعض السلوكات من قبيل، على سبيل المثال لا الحصر، “غض الطرف” على شراء الأصوات “على عينك أبن عدِّي” أو بأساليب ملتوية لكنها معلومة، ستبقى القوانين والإجراءات التنظيمية عديمة الجدوى.
تتميز الرشوة الانتخابية بكونها ذات وجهين؛ وجه مكشوف ووجه خفي. فالوجه المكشوف يجعل من الانتخابات سوقا تباع فيه الذمم وتشترى، إن فرادى أو جماعات، كأن الأمر يتعلق بسوق للنخاسة، أو سوق للخراف. والمتحكمون في هذه السوق، هم أصحاب المال سواء كانوا من تجار المخدرات أو من غيرهم من أصحاب “الشكارة”.
ويعتمد هؤلاء “التجار” على السماسرة أو “الشنَّاقة” في جمع “البضاعة” (أي الأصوات)، وفي تحديد القيمة المادية للصوت؛ وغالبا ما تُحَدَّدُ هذه القيمة حسب رأس الزبون (البائع). ويتم البيع والشراء، في هذه السوق، بالتقسيط، كما يتم بالجملة.
أما الوجه الثاني للرشوة الانتخابية، فيتخذ قناع الإحسان لإخفاء أهدافه التي لا تختلف كثيرا عن أهداف الوجه الأول. الاختلاف الوحيد يتمثل في كون السوق الانتخابية، بالنسبة للوجه الأول، موسمية (مرتبطة بالحدث: الانتخابات)، وبالنسبة للوجه الثاني، تكاد تبقى مفتوحة بشكل شبه دائم. وربما لهذا السبب، يستعمل الخطاب الإعلامي والخطاب السياسي عبارتين مختلفين للتمييز بين من يتاجر في الذمم (تجار الانتخابات) وبين من يتاجر في المشترك بين المغاربة (تجار الدين).
ومن المعروف عمن يتاجرون في المشترك أنهم لا يضيعون أية فرصة ولا يغفلون أية مناسبة تُظهرهم كمحسنين وتُكسبهم السمعة التي يبحثون عنها (وإن كان بعضهم، كالببغاء، لا يفتر عن ترديد هذا الدعاء: “اللهم لا رياء ولا سمعة”!!!)، فيتحول الإحسان إلى نوع من المقايضة، حيث يصبح العمل الإحساني أو الخيري (وكذا العمل الجمعوي الذي تصرف له بسخاء منح من المال العام)، خلال المواسم الدينية والاجتماعية وغيرها، ليس وسيلة للتقرب إلى الله، بل وسيلة للترصيد القبْلي للأصوات الانتخابية.
ويمكن أن نستنتج من السلوك الانتخابي لكلا الفريقين أنهما “يستثمران”، معا، في الفقر والهشاشة (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية…)، كل بطريقته، لكنهما يلتقيان في الهدف (الوصول إلى المؤسسات التمثيلية)، وفي المحصلة (تكريس الهشاشة الديمقراطية).
ويلعب العزوف الانتخابي دورا أساسيا في فوز مرشحي الأحزاب التي تستثمر في الهشاشة؛ بالمقابل، فهو يعرقل وصول الكفاءات إلى الهيئات المنتخبة؛ وبالتالي، فهو يقدم خدمة كبيرة للمستثمرين في الهشاشة الذين لا تعني لهم الديمقراطية سوى الفوز بالمقعد؛ وبالفعل، ففي غياب المشاركة المكثفة، فإن فوزهم تضمنه لهم الرشوة الانتخابية، سواء منها ذات الوجه المكشوف أو ذات الوجه الخفي.
فالعزوف الانتخابي يكرس، إذن، الهشاشة الديمقراطية في بلادنا؛ ويتحمل الناخبون المقاطعون للانتخابات المسؤولية في هذا الباب، بغض النظر عن الأسباب التي تجعلهم يختارون المقاطعة.
وغير مستبعد أن يكون هناك فريق ثالث ينتمي إلى جهاز الدولة العتيق، ينضاف إلى الفريقين السابقين، ليخدم مصالحهما ومصالحه الخاصة المتمثلة في المحافظة على امتيازاته التي قد يعصف بها البناء الديمقراطي السليم. وقد يكون هذا الفريق الثالث هو الذي يقف وراء الخطاب التبخيسي للأحزاب (وكأن الديمقراطية لا تحتاج إلى أحزاب قوية ونخبها الكُفؤة) من خلال ترويج مقولة “أولاد عبد الواحد كلهم واحد”، ومقولة “البلاد غير محتاجة للأحزاب”، وغير ذلك من الترهات التي ترمي إلى زرع عدم الثقة لدى المواطنين بهدف تشجيع العزوف الانتخابي.
وإذا عدنا إلى المقال الإخباري الذي انطلقنا منه، نجده يحتفي بما أسماه إجراءات جديدة توافقت حولها وزارة الداخلية في مشاوراتها مع الأحزاب، بهدف دعم “المرسوم الذي يحدد سقف المصاريف الانتخابية للمرشحين بمناسبة الحملات الانتخابية”، وذلك “بوضع بيان مفصل لمصادر تمويل حملاتهم الانتخابية، مطالبا إياهم بتقديم جرد بالمصاريف، مرفق بجميع الوثائق التي تثبت صرف المبالغ المذكورة”؛ ويضيف كاتب المقال: “وجرى الاتفاق على اتخاذ إجراءات جديدة لمحاربة الفساد الانتخابي، بتدقيق التدبير المالي للمرشحات والمرشحين للعمليات الانتخابية عبر تعيين محاسب مسؤول عن الجانب المالي من مداخيل ومصاريف وفتح حساب بنكي خاص بها”.
كل هذه الإجراءات جيدة ولا يمكن إلا التصفيق لها؛ لكنها، لوحدها، ليست، مُطلقا، لا مُطَمْئِنة على سلامة العملية الانتخابية ولا كافية لردع المفسدين ووضع حد للفساد الانتخابي. فالمفسدون لهم أسلوبهم الخاص في التحايل على القانون، والذي يمكن تخيله بسهولة. فهم سيقدمون بيانات مفصلة عن مصادر تمويل حملاتهم الانتخابية وسيتمكن المحاسب المالي من ضبط المداخيل والمصاريف بناء على الوثائق التي تثبت المبالغ التي تم صرفها؛ وقد تبقى هذه المصاريف تحت السقف المحدد قانونيا، لإيهام الجهات المسؤولة بعدم الإسراف في النفقات.
لكن، هل يمكن الاطمئنان حقا إلى ما سوف يقدمه “تجار الانتخابات” من بيانات؟ أبدا؛ فالمبالغ التي سوف تصرف للسماسرة و”الشناقة” (ولا نستثني المنح التي تصرف للجمعيات القريبة من هذا المستشار أو ذاك) لن تدخل في ميزانية الحملة الانتخابية، ولن يعلم مبلغها ومآلها إلا الله والمرشح الفاسد والمفسد وأعوانه.
وإذا كانت الدولة ترغب في حماية أحد ثوابت البلاد (الاختيار الديمقراطي) وبنائه على أسس صحيحة وسليمة تجعل مؤسساتنا التمثيلية تتمتع بالشفافية والفعالية والمصداقية لدى المواطنين ولدى الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين وغيرهم، فلا بد من التفكير في وسائل فعالة في محاربة الرشوة الانتخابية التي لا تنتج إلا مؤسسات هشة تزيد من تردي الأوضاع على جميع المستويات.
فالرشوة الانتخابية تعرقل تخليق الحياة السياسية والحياة العامة؛ وهي لا تقل خطورة عن الرشوة بمفهومها العام التي من أجل الحماية منها أنشئت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة. فإذا كانت الرشوة المتعارف عليها تتسبب في تعثر النمو الاقتصادي في البلاد، فإن الرشوة الانتخابية تصيب في المقتل ثابتا من الثوابت الدستورية (الاختيار الديمقراطي)، لكونها تنتج لنا مؤسسات تمثيلية هشة، وتكرس، بالتالي، الهشاشة الديمقراطية التي هي أصل الكثير من المشاكل التي تتخبط فيها بلادنا.
خلاصة القول، فما لم تفكر الجهة المسؤولة عن تنظيم الانتخابات في آليات وقائية ورقابية خاصة بهدف حماية العملية الانتخابية من التلاعب، فسوف تبقى دار لقمان على حالها؛ إذ ليس بالقوانين والمراسيم والقرارات التنظيمية، فقط، يمكن محاربة الرشوة الانتخابية؛ بل لا بد من إبداع أساليب للمراقبة تكون ملائمة لهذا النوع من الرشوة. فلماذا لا تتم الاستفادة، مثلا، من خبرة الجهاز الأمني والمخابراتي في تكوين لجان لليقظة وتدريبها قبل الانتخابات، تكون مهمتها مراقبة المشتبه فيهم من المرشحين وأعوانهم؟ ولماذا لا يتم التفكير في التفرغ الأمني (على صيغة التفرغ النقابي) لمدة الحملة الانتخابية ويوم التصويت، تسند مهمته لبعض العناصر الأمنية ذات الخبرة في تعقب خلايا الإرهاب وعصابات تهريب البشر والمخدرات والاتجار فيها، يتكلفون بمراقبة وتتبع التحركات المشبوهة؟ … فمحاربة الفساد الانتخابي يبدأ من هنا.
مكناس في 17 يناير 2021