مناورات شيوعية
د.محمد بالدوان
لا تؤمن الشيوعية أصلا بالدولة لكونها منتجة للطبقات الاجتماعية، مثلما عبر عن ذلك بعمق “جوزيف برودون”، غير أن الاشتراكية “العلمية” بقيادة “ماركس” تقول بضرورة المرور من دولة اشتراكية تمهيدا للوصول إلى مجتمع شيوعي، يشبه المجتمع المشاعي القديم الذي كان خاليا من التفاوتات الطبقية، وهذا أول تجاوب محتشم للشيوعية مع إكراهات الواقع.
يبدو أن “سان سيمون” احتل الوسط بين “برودون” و”ماركس” إذ قال بأهمية العلماء والنخب في تسيير الدولة مع إقرار نظام انتاجي تعاوني يشرك العمال وينصفهم، غير أن تصوره وصف بأنه إصلاحي وغير علمي بينما هو الذي أثبت واقعيته بعد استقراء التجربة الاشتراكية في الحكم حتى يومنا الراهن، إذ تحققت نبوءات “برودون” بخصوص شيوعية ماركس التي قال فيها :”لن تنقذ الفقراء من فقرهم، ولن تحدث أي تغيير إيجابي في حياتهم، بل إنها ستكتفي بتغيير الحكام القدماء بحكام جدد قد يكونون أسوأ من سابقيهم”. ذاك ما حدث بالفعل، فبعد تراكم سنوات من الفقر والقهر ثار الشعب ليحطم جدار برلين سنة 1990.
ثار “لينين” سنة 1917، في مرحلة ثانية من الثورة الروسية، على حكومة تضم برجوازيين واشتراكيين لأنها لا تمثل برنامجه السياسي، وبعد استيلائه على السلطة إثر نجاح ثورة البلاشفة أسس نظام حكم ديكتاتورية البروليتاريا وعمل على تأميم وسائل الانتاج، لكنه سرعان ما تراجع تحت ضغط الثورة المضادة حفاظا على رئاسة الاتحاد السوفياتي، إذ انفتح على الرأسمالية وأجاز الملكية الفردية، وبقدر ما لامست اجراءاته المحظور، مكنت الاشتراكية من زخم جديد مهد الطريق ل “ستالين” كي يرسخ النهج الاشتراكي في الانتاج الاقتصادي، ولم ينفع الاتحاد السوفياتي بعده عمليات الانعاش الاصلاحية؛ فكل إصلاح يأتي خارج آجاله لا يجدي بل يقود إلى نتائج عكسية.
لعل مرونة النهج اللينيي هي ما سمحت للاتحاد السوفياتي بالاستمرار إلى مطلع التسعينات، وأحسب أن الصين انتبهت إلى التنطع الستاليني والماوي (نسبة الى الزعيم الصيني ماوتسي تونغ) فالتمست في مرونة لينين سبيلا للنجاة من الهاوية وجسرا لاستئناف التقدم .. ذاك التقدم الذي بات اليوم مزعجا للرأسمالية، ليس لأنه أنجز بأدوات اشتراكية، إنما لأنه تم بأدوات محض رأسمالية، وهنا تكمن العبقرية والنضالية، أن يحسن طلاب النهضة استخدام أدوات العدو الرائجة بنفس إبداعي وبصمة خاصة.
انفتحت الصين الشيوعية على الرأسمالية في سبعينات ق20م، حتى دخلت منظمة التجارة العالمية سنة 2000، ثم حققت ناتجا وطنيا خاما فاق الولايات المتحدة وزلزلها سنة 2019، ولا تزال حتى يوم الناس هذا محافظة على المبادئ الشيوعية. ألا يذكر هذا ببعثة موسى عليه السلام من قصر فرعون؟ ألا يمكن أن تكون هذه الريادة ملهمة لبعض المصرين على خلط المبدإ العقائدي المطلق بالموقف السياسي النسبي؟
كما أن في مرونة الصين الاشتراكية فكرة وعبرة بخصوص التوقيت المناسب لاتخاذ القرار السياسي، فلو جمدت جمود الاتحاد السوفياتي ثم شرعت في تغيير مواقفها مع بداية التسعينات، لكان مصيرها مطابقا لمصير اصلاحات “غورباتشوف”، ولَوَرِثَتْ سجل إخفاق السوفيات في مواجهة الأمريكان.
سئل الناطق باسم الحزب الشيوعي الصيني في لقاء إعلامي، بشارع تملأ فضاءه لوحات إشهار الشركات متعددة الجنسية، سؤالا محرجا: كيف تقولون أنكم بلد شيوعي وتكاد إعلانات الشركات الاجنبية تحاصركم؟! فأجاب إجابة الواثق غير الآبه بالحرج المؤقت، المتطلع إلى المستقبل الواعد: إن الصين بالفعل بلد شيوعي ولكن على طريقته الخاصة.