تعاقد الحماية الاجتماعية..خلل أم عندما يعالج الخلل بالخلل
الأستاذ منير الحردول
الحديث عن التعاقد في بيئة اجتماعية يغلب عليها طابع الهشاشة والخوف من المستقبل، الذي أضحى غارقا في إطار المجهول و الخوف في آن واحد، من الأمور المجانبة للحكمة، وذلك بحكم طبيعة عقود الشغل وطرق التشغيل في المغرب، والتي تبتعد تماما عن ما هو موجود لدى جيراننا في الشمال، بلدان الاتحاد الأوربي!
فكيف يمكن الوثوق بهذا النمط من التوظيفات، في ظل واقع مرير للبنية التشغيلية المهيمنة على منظومة القطاع الخاص، والتي تجعل الأرباح أولوية قبل الإنسان، فلا يعقل أن يثق المرء بهذا النوع من الشغل في ظل ظروف اقتصادية واجتماعة لم تنضج بعد، على مستوى الحماية الإجتماعية الكاملة، وعدد ساعات العمل القانونية وأنسنة المقاولة، والتخلص من عقدة العبودية، وسياسة الانتقام للمخالفين أو المضربيين عن العمل.
فنجاعة نمط التوظيف بالتعاقد أو التشغيل بالتعاقد، يرتبط بشكل كبير بتعدد الفرص المتاحة للشغل، والمتوفرة على عنصر الدوام كما هو الحال في البلدان الصاعدة والناجحة.
أما، وواقع الحال عندنا، وأمام توالي المؤشرات الاقتصادية والتقارير الدورية والسنوية، الوطنية، والدولية، والاقرار بقصور النموذج التنموي المتبع والذي أبان عن خلل كبير على مستوى الاستفادة من ثمار النمو، بين مختلف الفئات الإجتماعية والأقاليم والجهات والعالمين القروي والحضري، وهذا بكل تأكيد يدفع إلى الجزم بأن هذا النوع من التوظيفات أمسى مرعبا، وغير ضامن لا للاستقرار النفسي، ولا للاستقرار العاطفي، ولا الأسري المادي.
فانعدام الفرص المرتبطة بالتشغيل يجعل هذا النوع لا يطمئن، لأن ضمانات الاستقرار تنعدم فيها الشروط الموضوعية، موضوعية مرتبطة أكثر بالحياتين الاجتماعية والاقتصادية بشكل عام.
ولعل بعض العقليات التي تسهر على تدبير أغلب المقاولات أو القطاعات المهتمة بهذا النوع، لا زالت ثقافتها تميل لمنطق السيطرة والسيادة والطاعة المطلقة، والاعتماد على الصداقات والأقارب، مما يجعل العامل أو الموظفين أمام تهديد دائم، قائم على تكييف القانونين مع القرارات الأحادية التي تجعل الموظف أو الأجير تحت رحمة التعسفات المتنوعة، والتي قد يتواطأ فيها ومعها الجميع.
فالتوظيف بالتعاقد يزداد تعقيدا عندما يتم الحديث عن المرونة في سوق الشغل. فالحماية الحقيقية والوطنية تحتاج لضمانات قانونية تؤكد على الاستقرار أولا وأخيرا، وفقا لحماية اجتماعية مؤطرة بمراسيم قوية، مراسيم لا تخضع لمتغيرات الأرقام المرتبطة بالمالية.
إذ، أن التركيز على التوازنات المالية عوض التوازنات الاجتماعية المؤنسنة، قد تؤدي في نهاية إلى ما يحمد عقباه، فغياب تنوع الفرص، والفقر والضغوط الإجتماعية والاقتصادية المعيشية المتراكمة، لن تزيد إلا في تفشي اليأس، مما يؤثر على المردودية العامة، ويدفع بأغلب الموظفين والأجراء إلى التفكير بالهجرة عوض الارتباط الوجداني والواقعي بهذا الوطن الذي نحبه جميعا، رغم الإكراهات المتشعبة للحياة بشكل عام.
إذ، أن الجنوح فقط إلى الاتجاه الرأسمالي المحض، يخالف التوجه القائم على الليبيرالية الإجتماعية، والتي أعطت مفعولا قويا ودينامية كبيرة على المستوى الإجتماعي لمعظم البلدان الصاعدة، ووفرت الاطمئنان في مختلف القطاعات الحيوية الاجتماعية كالصحة، والتقاعد، وساعات العمل، والتحفيزات المالية، والعطل الأسبوعية والدورية والسنوية. فهكذا تسير الأمور، وليس قاعدة العصور الوسطى التي تواجه الأجير بعبارة اشتغل أو اذهب لحال سبيلك، فهناك الآلاف ينتظرون هذه الفرصة، فهذا عنوان واضح ودليل قاطع على العقلية التي لا زالت لم تستوعب العهد الجديد بأبعادة الأخلاقية الحقوقية والإنسانية، التي لا مثيل لها، من الناحيتين الموضوعية الإجتماعية والاقتصادية المنتجة.
ومن ناحية أخرى وبدون مزايدات فكيف يعقل ان تعد الاستراتيجيات من قبل ما يسمون بالخبراء فقط في الأرقام والخطط الاقتصادية للبلاد والعباد، فالخبير قبل كل شيء عليه ان يكون على إلمام تام بكل الإرغامات الاجتماعية والمعيشية للبلد الذي ينتمي اليه، ويبتعد عن منطق الاسقاطات التي لا تستقيم بالنظر الى الاختلاف في طبيعة البنيات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية التي تميز مجتمعات عن مجتمعات أخرى.
فالتوظيف الجهوي يقتضي الحسم وعدم التعامل رويدا رويدا، والانتقاء في الاستهداف، والقطاعات، وجس النبض من خلال أشكال المقاومة ومدى الاحتجاجات، التي لا يرغب فيها أحد!
فالحسم هو أن يشمل هذا التوظيف الجميع، وفق قانون أساسي جهوي أجود من قانون الوظيفة العمومية الحالي، من حيث ضمان الأمان الوظيفي وتوحيد التحفيزات المالية، والعلاوات للجميع، دون استثناء لأحد، ونظام حماية اجماعية فعال ومؤنسن بالدرجة الأولى. بغية الانطلاق بكل ثبات نحو الجهوية الموسعة، الضامنة للاستقرار الجماعي، والمفعمة بالحيوية الانتاجية، والتدبيرية، وفق منظور وطني قائم على مطابقة الحقوق مع الواجبات، واحكام القانون على الجميع، أفرادا ومؤسسات وهيئات و جمعيات، لهدف نبيل هو تحقيق الاقلاع الاقتصادي الشامل، وفق قاعدة الاستقرار في كل شيء ،وضمان العيش السليم لكافة الموظفين، والأجراء، وسكان الجهة، بعيدا كل البعد عن التعاقد وخوف الارتباك من المستقبل الغامض!