مفتش أمس واليوم
محمد شحلال
ارتبط مصطلح المفتش في ذهن المغاربة ،بشخص ترتعد له الفرائص ،ولاسيما في الأيام الخوالي،حين كان المفتش اسما على مسمى !
كان هذا الإطار السامي، يحيل على رجل يفوق مرؤوسيه في كل شيء : فهو العارف بدقائق تخصصه،والذي لا يقبل رأيا آخر -بغض النظر عن وجاهته-،كما أن له سلطة يرتب من خلالها ما شاء من تقدير أو عقوبات ،قد تلازم الضحية زمنا طويلا،وتعطل بالتالي كل أمل له في الترقي.
كان من نصيبي أن أعيش ،،زمن التفتيش،،بمرحلتيه:مرحلة مفتشي التعليم الكلاسيكيين، ذوي التكوين النمطي،ثم مرحلة المفتشين المعاصرين ،خريجي المراكز الحديثة، الذين يتشبعون بالنظريات المعاصرة المتناغمة مع سيرورة المجتمع الإنساني والفكر الديموقراطي.
كان مفتش مادة اللغة العربية وآدابها، ممن درسوا بالقرويين أو جامع ابن يوسف أوغيرهما من مؤسسات الدراسة التقليدية،ولذلك كان متضلعا في معارف عديدة تخوله ،،الإيقاع،،بضحاياه متى شاء،وهم شباب يلجون عالم التدريس بمؤهلات متواضعة ،يحتاجون ممارسة معتبرة لامتلاك ناصية التبليغ والنقاش.
كان المفتش سليل القرويين، أسير ثقافة هذه الجامعة العريقة التي تخوله شهادة،، العالمية،،بعد إلمامه بشوارد الضاد وأحكام الدين الإسلامي،فإذا تولى مهمة التفتيش، حرص على تأثيث المخبر والمظهر.
وهكذا يزين هامته بطربوش ،،وطني،،من جنس ما كان معروفا عند الملك محمد الخامس -تغمده الله بواسع رحمته-ثم يلبس جلبابا وسروالا قصيرا ،غالبا ما يفضح ساقين منتفختين بسبب ندرة الحركة واحترام مواعد أطباق الكسكس يوم الجمعة.
كان السيد المفتش الكلاسيكي يمتشق محفظة مكتنزة، يضمنها بعض مراجعه في مواجهة المدرسين بكثير من الاستعلاء والشطط.
وللأمانة التاريخية،فإنني لن أنسى نموذجين من هؤلاء المفتشين ممن شخصوا وظيفة التفتيش كما أريد لها ذات زمان.
أما أحدهما،فقد كان مشرفا على ،،التقسيمة،،التي عملت بها بنيابة بني ملال،وكان رجلا بدينا وفي ملامحه صرامة لا حدود لها.
كنت في سنتي الأولى من التدريس حين تحرك مزلاج الباب في حصة الصباح الأولى ، ليدخل السيد المفتش بمعية مدير المؤسسة بحركة فيها كثير من المفاجأة المقصودة.
قدم مدير المؤسسة مفتش المادة في كلمتين،ثم انصرف ليتركني في مواجهة شخص يقطر وجهه سلطوية.
أخذ مقعدي، ثم جلس بجانب السبورة وطلب مني مواصلة الدرس الذي كنت قد بدأته للتو.
كنت محظوظا بعدما وصلتني أخبار الرجل من الزملاء فيما بعد،ذلك أنه باح لي بأنه لمس لدي كثيرا من،،مخايل النجاح،،في المهمة،وأنه عائد في الزيارة القادمة لاجتياز امتحان الكفاءة حيث لم أكن بحاجة لمؤازرة اضافية في نظره.
ما إن حل وقت الاستراحة، حتى تحلق حولي زملاء المادة لمعرفة نتائج ،،المعركة،،فلما أخبرتهم بسلامة اللقاء،كان الاستغراب جماعيا،لأنهم يعرفون الرجل وكيف يعامل المبتدئين!
كان مفتشي غير محظوظ في ذلك اليوم،حيث زار أستاذا مكلفا في ثانوية مجاورة،وكان ينتظر موعد الامتحان في الجامعة ليترك التدريس،فلما انتهى الدرس،طلب المفتش من المدرس الجلوس لمناقشة بعض القضايا التربوية،لكن الأخير قاطعه قائلا:
أنت آخر من يتحدث عن التربية،إذ كيف تجلس أمام السبورة أثناء الدرس وتحجبها عن الناشئة،فلتتفضل بمغادرة الفصل ، وضع في تقريرك ما طاب لك !
كان ردا قاسيا،لكن السيد المفتش لم يتمكن من ترتيب الجزاء،ذلك أن الذي أهانه في زمن حرج يومئذ،قد حصل على الإجازة وغادر إلى وجهة أخرى،أما أنا فلم أحظ بزيارة المسؤول الصارم مرة أخرى،لأنه كلف بالعمل في مكان آخر.
أما النموذج الثاني،فقد كان مكلفا بمدينة جرسيف، حيث اشتغلت لمدة أربع سنوات.كان مفتش المادة يقيم بمدينة فاس التي ولد وتعلم بجامعتها العتيقة،وكانت زيارته تستغرق عدة أيام ،حيث ينزل ضيفا على مدير المؤسسة إلى أن يطوف على كل من على لائحته،وهو ما يتيح لرئيس المؤسسة أن يستغل،، الملح المشترك،، للتأليب ضد فلان أو علان.
كان هذا المسؤول وفيا للباس الفقيه بكل مكوناته،فإذا زار مدرسا أوحضر درسا،،نموذجيا،،تناول الكلمة ليلقي خطبة عصماء يستعرض فيها كل ما بحوزته من،،علوم،،لا يتناسب جلها مع موضوع الدرس،وإنما هدفه أن يبرز البون الشاسع بينه وبين الحاضرين،لا سيما حين يخوض في شؤون الدين !
كان أتعس الأيام ،هو الذي يشرف فيه هذا الرجل على امتحان الكفاءة التربوية،حيث يحرص على تقزيم المرشح وإذلاله أمام الحضور لعله يقوم بردة فعل فيحكم على نفسه بالرسوب في الحال والمآل!
كان قطاع التربية بحاجة لوقت طويل حتى يختفي هذا الجيل من المسؤولين الذين كانوا أسارى الذاتية إلا في حالات نادرة،وقد ارتكبوا كثيرا من المساومات والفظاعات في حق مدرسين مبتدئين،ذلك أن التجربة تؤكد أن رجل التعليم إنما تصقله الممارسة وحب المهنة ،وليس زيارات بعض قدماء المفتشين الذين يعانون من عقدة الاستعلاء والرغبة في الترهيب.
إن عهد المفتشين الكلاسيكيين،وبالرغم من تداعيات قوة سلطتهم، لم يخل من فوائد،ذلك أن المدرس كان يعد نفسه للمواجهة فيرفع من مستواه المعرفي طيلة مشواره،وهو ما ضمن للمنظومة إشعاعا دام سنوات طويلة،لكن الأحوال ما لبثت أن ساءت بعدما تعززت الساحة بمؤطرين معاصرين يجمعون بين التكوين والسلوك الديموقراطي.
كان من المنتظر أن يسهم المفتشون المعاصرون في إحداث ثورة في المنظومة التربوية من خلال إعادة الاعتبار للمدرس واحترام شخصيته،ومن ثم ضمان انخراطه الإيجابي في العملية التربوية بعيدا عن أجواء القمع والسطوية التي تم القطع معها،غير أن معظم رجال التعليم قد فهموا التطور الحاصل في مهمة المؤطرين على أنه ضعف، يخول لهم التصرف وفق أهوائهم ضدا على روح المسؤولية،حتى صار بإمكان مدرس فاشل أن يرفض استقبال مؤطر المادة بكل ماينجم عن هذا التحدي الفج من انعاكاسات سلبية.
لست أفهم كيف لا نستطيع الإبداع في أجواء الانسيابية السلوكية حتى يصبح الحنين إلى زمن القمع والشطط حاجة ضرورية ومرغوبة في كل مجالات الحياة ،التي غزاها التسيب : ألسنا نتاسف في مجال الامن على زمن البصري-رحمه الله-؟ وفي مجال التدريس على فئة المفتشين الذين كان المدرسون يرتعدون لقدومهم متمنين أن تكون،،زيارة،،وليس تفتيشا،،؟
لقد أصبح الأفراد يميلون اليوم ،الى المزاجية والأهواء في كل شيء،بينما تدل كل أنماط الحياة الناجحة على أن القيادة النزيهة،شرط أساسي في كل تنمية حقيقية.
تحية لكل المفتشين لأننا كنا نسبح في مركب واحد !