هل للواقع اعتبار لدى بعض أهل العلم في هذا البلد؟
كمال الدين رحموني
عنوان هذه الكلمات، يسائل بعض أهل العلم في البلد، على أثر تدوينة أحدهم قبل أيام، وردود الفعل المخالفة التي بلغ بها الأمر حدّ التنابز والتنقيص، لا لشيء سوى أن كاتبها يخالف فئة منهم، “فاقتضى” المقام الرد على الاختيار الفقهي المثير بما يخالفه، ليس فقط على المستوى العلمي، بل امتد الأمر إلى شيء متجاوِز لأدبيات الحوار، وقواعد الخلاف الشرعي المطلوب. خلاصة المختلف فيه هذه المرة، انتصار لابن عاشر -رحمه الله- بعدما كاد يناله النسيان أو السهو، فانبرى هذا الطرح لدقّ” ناقوس الخطر”، وجاءت ردود آخرين بما ينقض هذا الرأي، والتقليل، من هذا العلَم من أعلام المالكية بالبلد. وحين يطالع المرء مثل هذه التدوينات، ويتقصى ردود من يزعم أنه حامي مذهب أهل السلف، ويقف على كمّ التشنج الذي يصاحب هذه المحاورة، يخلص إلى ما يلي:
إن طبيعة مثل هذا الخلاف يختصر أزمة في العقل الفقهي لبعض أهل العلم في البلد، لاعتبارات موضوعية أهمها – بصرف النظر عن أدبيات الحوار المطلوبة-، تصورٌ مبالغ فيه لطبيعة ما يُتوهَّم من خطر على المذهب المعتمد، فيترتب على هذا التوهم إذكاء معارك خارج سياق واقع يتشكل بفعل عوامل خطيرة، لا يُهمّها هذا الرأي أو ذاك، بقدر ما تواصل عمليات التفسيق والمسخ لهوية الناس، غير عابئة بهذا الخلاف الفقهي الذي يُخيَّل لأصحابه أنه يسعى، ليواجه عدوا في معركة رابحة، في حين كان المطلوب أن تأتلف آراء المختلفين، من الطرفين وتتوحّد على تحييد الخلاف الفقهي التاريخي، ورَكٔنِه على جنب، للتعاون على حماية ثوابت الأمة التي تتهددها أباطيل تستهدف العقيدة، وتدمر الأخلاق، وتصنع رأيا وطنيا كسيحا لمفهوم الدين والتدين لدى الناس، بمعنى أن الدين لم يعد مستهدفا باعتبار فروعه هذه التي غدت لدى هؤلاء وكأنها قلاع حصينة، تستوجب الموالاة والمعاداة، وإنما يسعى المتغربون أن يقنعوا الناس بنموذج معين للدين والتدين، فلا حرج في الجمع بين الالتزام ببعض الشعائر ونقضها تصورا وممارسة، ولا إشكال في حصر مفهوم العبادة في ما يسمى بالحرية الشخصية، ولا بأس شديد في طبيعة العلاقات إذا قامت على التراضي دون إكراه بين الذكر والأنثى، ولا غرابة أن تظل أماكن العبادة تؤدي دورا أحاديا في حياة الناس، ولا مجال للحديث عن المحرمات إذا اقتنع الناس بها مبدأْ وفكرةٔ ما دام الإنسان حرا في الاختيار، ولا لازمةَ في ” إقحام” الدين في قضايا المصير الجمعي للأمة كقضية فلسطين والموقف الشرعي من التطبيع، وغيرها من الرهانات التي يراهن عليها من لا تربطهم صلة وثيقة بهوية المغاربة، ودينهم ولغتهم. هذا هو الواقع الذي يتشكل يوما بعد يوما، في الوقت الذي يطفو على السطح مثل هذه الخلافات، حتى لو وصفت بالعلمية، إلا أنها تظل بهذا الطرح، تسبح خارج التيار وتغرد خارج السرب. والمتابعُ لما يتفاعل به المغاربة المقدَّر عددهم بأكثر من عشرين مليون مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي، يستطيع الجزم بأن مثل قضايا الخلاف حول بن عاشر والانتصار لابن تيمية، أو غيرهما من الأعلام – وما ينتج عن مثل هذا الخلاف من قبيل التبديع والتضليل، والتنابز والتحقير- لا يكاد يُهِمُّ هذه الفئة العريضة من شباب البلد الذي يتفاعل على الصفحات بتصورات أخرى، ومعالجات مختلفة، لا تجد لها رابطا مع ما يُصرّ بعض أهل العلم على الاستمرار في إثارته. إن الواقع المغربي، الذي تتحكم فيه مطالب العيش الكريم، وجودة التعليم والخدمات الصحية، والبحث عن الشغل، وتحقيق الكرامة وحقوق الإنسان باعتبارها قيما إنسانية زكاها الشارع الحكيم، هي العقبات التي ينبغي على من يشغلون أنفسهم بهذا الخلاف، أن يقتحموا عقباتها، فأي القضايا أولى بالإثارة: قضايا العدل والحقوق والحرية الملتزمة بالضوابط والعدل، أم قضية خلاف فقهي هو اختيار يلتزم به من تبنّاه دون إكراه للآخرين عليه، ما لم يتسرب إلى أصول العقيدة؟ لماذا لا يتحرك العقل الفقهي التقليدي حين تُستهدَف الأصول، وتُساءَل النصوصُ قطعيةُ الدلالة والثبوت، في حين يشتعل أوار المعارك الكلامية التي لا جعجعة من ورائها ولا طحين؟ وقد يدّعي مُدّعٍ أن في خلاف بعض أهل العلم في الفروع، حمايةٌ لطلبة العلم حتى يعضوا بالنواجذ على ما يعتبر من ثوابت البلد، وهنا يتبادر إلى الذهن التساؤل التالي: كم هي نسبة من يطلب العلم من المغاربة الذين توزعت ولاءاتهم العلمية بين شيوخ وعلماء محددين، وكأن الولاء لفلان أو فلان من أهل العلم غدا ثابتا من ثوابت الدين، في مقابل فئات عريضة من شباب البلد، يصنعها الإعلام على عينه، وتشكل عقولَها توجهاتٌ وتيارات لا دينية، في غياب النخبة ممن هم حماة الدين من أهل العلم. لاشك أن تحصين طلبة العلم واجب مُلحّ، لكن دون أن يتجاوز المعقول شرعا، حتى يصطبغ بعصبية مقيتة أو انحياز متعسف، في حين أن الراجح والمرجوح كليهما، ينبغي أن يصوّبا البوصلة نحو التصدي لمحاولات اقتلاع الدين من جذوره، وتسويق صورة نمطية مشوهة لإقناع الناس بها، وصياغة العقول بأثافيها. في مقابل دعوى تحصين طلبة العلم، تنبري الفئة العريضة من المجتمع المغربي التي تنتشي بعاطفة دينية مهمة، وتحتاج إلى من يدعمها ويضعها على سكة الفهم السليم لقضايا الإنسان المعاصرة، التي من خلالها يُتاح لأهل العلم أن ينزلوا من أبراجهم العاجية في مخاطبة فئة قليلة من حواريّيهم المحبين، إلى عامة الناس، من أجل البيان والإفهام والاستيعاب، لا لطائفة، وإنما لدين الله الكامل التامّ، وهذه هي الأمانة التي سيسأل عنها أهل العلم ممن توزعت بهم الخلافات الفرعية، في حين بقيت ساحة الفعل خالية أمام من لا يرقبون في هُوية المغاربة إلأّ ولا ذمة. هذه همسة في آذان بعض أهل العلم ممن يجدون في مراتع الخلاف فسحة للعقل وراحة للنفس، والأولى أن يجدوا لهم مواطئ أقدام بين الناس، لعلهم يجدون الآذان الصاغية، والعقول الواعية، والنفوس الزاكية.