الثالوث المحرم في الجزائر
رمضان مصباح الإدريسي
يعوز جنرالات المربع الأول في الجزائر،التكوين السياسي الابتدائي ؛أما المعرفي فالسؤال عنه مضحك.
التكوين السياسي ،ولو لتدبير المعيش اليومي للشعب الجزائريفقط ؛وهو الشعب الذي لا يفهم كيف تجمع الاحتياطي النقدي السيادي،وصولا إلى أربعمائة مليار دولار ،في سنوات الثروة الهوجاء؛وكيف تبخر ليصل إلى ما هو عليه اليوم –عشرات المليارات- وليس بعده سوى الاقتراض ؛اعتبارا لكون الانكماش الاقتصادي العالمي “الجائحي” ليس إلى زوال قريب،وتبعا لهذا سيتواصل تدهور العائدات الطاقية في العالم كله .
يؤشر الرصيد السيادي الضخم،مع تواصل ضعف التنمية،على افتقاد الجزائر للبنيات الاقتصادية المؤسسية، الكفيلة بإنتاج دورة اقتصادية قوية و سليمة ،تستوعب الثروة ،وتفعلها في إنتاج التحول الاقتصادي ،الذي يحقق الرفاه للشعب والتطور للدولة؛ضمن عولمة اقتصادية وثقافية ، سريعة ومطبقة.
كل ما تحقق للجزائريين ،في السنوات السِّمان ،لم يتجاوز السخاء “الأبوي” المغرض،في سوق شراء السلم الاجتماعي؛وحتى هذا السخاء الريعي ظل مركزا على الحواضر فقط،للأسباب السياسية المعروفة.
وهذا الريع الرَّشوي في حد ذاته إدانة صارخة لنظام جنرالات بوتفليقة المنهار؛ودليل إثبات يؤكد على تهريب ملايير الدولارات إلى الخارج ؛وخارج كل المؤسسات .
من لا يعرف كيف يبني النماء العام بالثروة الوطنية ،سيخيط لها بالضرورة جيوبا واسعة في سراويله.
وضمن هذا التهريب الكبير ،يمكن أدراج ،ما استثمر ويستثمر تحت عنوان:”حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره”.
والأمر يتعلق في الحقيقة بعصابة حاملة ،صُنعت صنعا منذ هواري بومدين ،لتمكن نظام العسكر،أولا، من تكريس تسلطه داخليا ،وإسناده بوهم الخطر الخارجي،المتمثل في المغرب” المضطهد للشعوب والمستعمر لأراضيها”،والطامع حتى في الخريطة الجزائرية؛التي يحصنونها بقانون الأدغال الافريقية:”حق الدولة في الحدود الموروثة عن الاستعمار”. الاستعمار ظالم لكن حدوده عادلة.
ولتُمَكِّنه، ثانيا ،من الحضور في المحافل الدولية ،وأجندة الأمم المتحدة ،كدولة وازنة في المنطقة ؛لا يمكن أن توطأ أقدامُها في القضايا القارية والإقليمية.
ولا يخفى أن نظام العسكر هذا ،لا يملك ،ذاتيا،حتى مؤهلات حبك هذه الأدوار الخبيثة ،المعرقلة ،أساسا،لكل تقارب بين الشعوب المغاربية ،ولكل تدافع في اتجاه الدولة المدنية –داخليا- وإرساء الديمقراطية ،مغاربيا؛سند الحكومات الوطنية ،التي ناضلت كل حركات التحرر من الاستعمار ،من أجلها.
هذه الأدوار محبوكة خارجيا ،لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية دولية إستراتيجية؛يختار لها – في الجزائر- جنرالات بمواصفات معينة:ضعف التكوين السياسي،ضعف الثقة في النفس،التورط في نهب المال العام،ضعف المواطنة.
ها قد عشنا حتى رأينا فرنسا أكثر ما تشعر بالحرج اليوم ،حينما يطالبها المغرب الرسمي وغير الرسمي ،بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه ؛على غرار سيدة العالم الغربي الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الثعلب الفرنسي ، الذي يستهويه الدجاج المغاربي، يفضل تشمم الهواء قبل أن يقولها ،لأنها مؤلمة جدا لسياسته الكولونيالية التي ظلت تمارس لعبة الظهور وفي الخفاء..ومن شدة الظهور الخفاء ،كما يقول المتصوفة.
وهو قائلها أحب أم كره ،أسرع أو أبطأ؛لأن الأشرعة الجيوسياسية الدولية ،تدفع صوب محطات مفصلية حاسمة وجديدة ؛وما التحول الكبير في موقف الدول العربة الكبرى من إسرائيل إلا مدخل لهذه المرحلة الجديدة.
جزائريا ستلتهم السبع العجاف كل شحم السبع السمان ؛ولا نعدم من الآن ظهور بوادر الفاقة في العديد من مناطق البلاد ،التي ظلت مقصية حتى من سوق السلم الاجتماعي المدفوع الثمن.
كلفة انتاج النفط الجزائري مرتفعة،والعائد منه في تدهور متواصل؛وقد ظهر منذ مدة عجز واضح في استيفاء متطلبات الزبناء التقليديين .
أما خطاب البديل الاقتصادي للثروة الطاقية ،فهو أكبر تزييف ظل يمارسه حكم العسكر،منذ هواري بومدين.
ولعل بوتفليقة هو أكثر من ردده ،زيفا وبهتانا.
يصر نظام العسكر على عدم خلق ثروات وطنية فردية ،تضعف الثروة الطاقية – وهي عسكرية بالأساس – المستثمرة في ترسيخ التسلط ؛سياسة العصا والجزرة بيد واحدة.
وفي الاشتغال الدولتي الخارجي،الذي يصنع الأعداء الوهميين ،والشعب الأشد وهما.
إن ظهور ثروة وطنية ،خارج تحكم الجنرالات ،يقوض نفوذهم ،ويبيد دولتهم ؛وما الحراك المستعاد إلا مؤشر على دخول منطقة الخطر في الطريق الذي ظل سيارا لعشرات السنين.
ينتمي الحراك –أساسا- إلى جزائر الخارج المستقلة ماديا عن ثروة العسكر؛كما ينتمي إلى فئات الشعب التي ظلت ،بدورها ،وفي حرمانها،مستقلة عن ثروة الأحذية الثقيلة.
منذ اختطاف الدولة الجزائرية المستقلة ،من طرف جيش الحدود الذي لم يخض،أبدا، حربا مباشرة ضد المحتل ،والمعول الاشتراكي يهدم البنية الاقتصادية الفلاحية،التي أرساها الفلاحون الفرنسيون ؛وفق التوجه الكلونيالي للدولة الفرنسية ،الذي كان يؤمن بأن فرنسية التراب الجزائري خيارٌ لا تراجع عنه.
وقتها لم تغذِّ الفلاحة الجزائرية ،الجزائر وفرنسا ،فقط؛بل حتى قبائل الشريط الحدودي المغربي؛لأن الهجرة إلى مزارع الفرنسيين،قصد العمل،كانت موضة في الشرق المغربي القروي الفقير.
هدم نظام العسكر كل هذه البنية تدريجيا،كما هدم كل حلم ،ليس في الدولة المدنية فقط،بل حتى في الثروة الوطنية الخضراء.
ومن هنا “صوناطراك” الدولة ،داخل الدولة ؛التي تمثل الهرم الاقتصادي العسكري الفرعوني.
ومن هنا استحالة تجاوب نظام العسكر –كما تطور وفق داروينية معكوسة:البقاء للأقبح- مع الحراك الشعبي ،الذي انبعث أخيرا؛متجاوزا حتى اكراهات كورونا.
كيف يتراجع الجنرالات إلى الثكنات ،بيتم مضاعف: موت التحكم العسكري في الدولة والثروة.
ولن يفضي هذا اليتم المضاعف بالجنرالات إلا إلى القضاء المدني وسجونه.
لقد اتضحت الآن زوايا المثلث المحرم في نظام العسكر:
* الدولة المدنية * الثروة المدنية *ثم الايخاء المغربي.
أما الدولة المدنية فهي قدر جيوسياسي دولي حالٌّ؛وان طال ،وقد بدأ أخيرا بمطالبة الأمم المتحدة للجزائر بأن تطلق ،بسرعة،كل المعتقلين السياسيين الحراكيين؛وستتطور المطالبة ،وصولا ،إلى ما عاشته وتعيشه سوريا حاليا؛إذ لا مناص من لغة الدبابة التي لايتقن جنرالات الجهل غيرها.
يومها سيكون على المنتظم الدولي أن يحمي الشعب الجزائري،بدءا بأحزمة أمان ،ووصولا إلى الإطاحة بالنظام.
وتبعا لهذا سيقع تحول كبير في الثروة الجزائرية ،بقدرما تترسخ الدولة المدنية الديمقراطية .
ستنمو الثروات الفردية المدنية،حينما تزول كل معاول الهدم الاقتصادي العسكري ،كما نمت في المغرب ؛وهو بغير الثراء الجزائري الطاقي.
ويبقى الايخاء المغربي قدرا جغرافيا وتاريخيا؛يحل موسمه في موسم الهجرة نحو الغذاء؛ولن يُجَوِّع المغرب الأخضر الشعب الجزائري أبدا ؛وهذا مؤكد تاريخيا.
إن الأسواق الجزائرية متوقفة من الآن على الخضر والحليب ؛وهما على مرمى حجر منها،لولا صناع الكراهية لغذت بركان وحدها كل الغرب الجزائري.
سينحل مشكل الصحراء تلقائيا ويتبدد،تماما كما تتفرق أسواق البوادي،حينما تستنفذ أغراضها.
كانت ضوضاء عسكرية وانتهت،أو عبرت في كلام عابر،كما قال الشاعر محمود درويش.
“من مناد ومن تَصْهال خيلٍ ؛ خلال ذاك رُغاء” كما ارتجل الشاعر الجاهلي الحارث بن حلزة.